عندما تكتشف وسائل الإعلام «البودكاست»

أ. د. نصر الدين لعياضي باحث في الإعلام - الجزائرد.

يلخص الصحافيان ألكسندرا ياه، وفرنسوا فليهر، القاعدة الذهبية للتحولات التي يعيشها عالم الميديا والاتصال في الجملة التالية: «لكل عصر قالبه الاتصالي» لكن نظرًا لسرعة إيقاع هذه التحولات صححا جملتهما بالقول: «لكل موسم قالبه الاتصالي».

فمن البث المباشر المتواصل الذي شكل مقدمة للبث عبر الفيديو، إلى التدوين الالكتروني عبر شرائط الفيديو، إلى القصص القصيرة جدًّا التي لا تتجاوز عشر ثوان عبر منصة «سناب شات»، إلى «بودكاست». لكن ما البودكاست؟


التعريف
يعود أول استخدام لمصطلح «البودكاست» إلى الصحافي بن «همرسلي» (Hammersley Ben)، الذي يعمل في صحيفة الغارديان البريطانية، وهو تركيب يختصر كلمتين إنجليزيتين. الأولى هي (الآيبود Ipod): جهاز متنقل صغير جدًّا لبثّ الموسيقى، صمّمه ستيف جوبز، مؤسسه شركة «آبل» في 2004م، وغايته حسب مؤرخي تكنولوجيا الاتصال، هي بثّ مختلف المحتويات السمعية بقوالب أقرب إلى تلك التي تبثّ عبر الإذاعة، وشُرع في تسويق هذا الجهاز في 2008م، والثانية هي كلمة (broadcasting) وتعني بثّ الصوت والصورة.
تذكرنا «روسفوس ماري»، في رسالة الماجستير التي أعدتها في عام 2022م، بالجامعة الكاثوليكية بلوفان – في بلجيكا، بأن فكرة «البودكاست» تعود إلى الصحافي «دافيد وينر»، ومطور برامج المعلوماتية «آدم كيري» اللذان سعيا إلى ابتكار تكنولوجي يسمح بنقل الملفات الصوتية والفيديو وتنظيمها، ويتلقاها (المستخدم/الجمهور) بفضل تطبيق رقمي، وجسدت هذه الفكرة شركة « آبل» عبر منصتها (آي تون Itunes)، التي تسمح بتلقّي المحتويات الصوتية وبثها.
توجد العديد من التعاريف لــ»البودكاست»، لعل أبرزها هو ذاك الذي صاغه مكتب الإعلان التفاعلي الأمريكي، وهي جمعية أنشئت عام 1998م، من أجل هيكلة سوق الاتصال في شبكة الإنترنت وتفعليه وتحديد معايير الإعلانات فيه، فعرّفه بأنه: «عبارة عن تحمّيل للبرامج الصوتية غير الخطية التي تسمح للمستخدمين بالاستماع إليها بطريقة غير مباشرة؛ أي غير متزامنة مع عملية بثها». فمصطلح «البودكاست» أضحى يدل على المحتوى، ونمط بثه في آن واحد.


الفرق بين الإذاعة والبودكاست
الحديث عن البودكاست يقود إلى طرح أول سؤال يخطر على البال: ما الفرق بين المحطة الإذاعية والبودكاست؟ خاصة بعد انتشار البث الإذاعي الرقمي الذي مكّن المستمع من متابعة ما تبثه المحطات الإذاعية حيثما عبر تعدّد حوامله، والاستماع إلى برامجها عبر (الآيبود Ipod )، والكمبيوتر، والهاتف الذكي؟ بل أن هذا الهاتف قضى على الآيبود وجعله مجرد قطعة في متحف التكنولوجيا، مثلما قضى على غيره من الأدوات التكنولوجية السمعية.
تتسم الإذاعة بطابعها الآني وسرعة «زوال» محتوياتها بعد بثها مباشرة، وبنمط بثها الخطي، أي تراصف برامجها، وتوالي بثها وفق جدول زمني مدروس، بينما تمثل البودكاست، من منظور الباحثان «نزهة سماتي» و»باسكال ريكو»، نظامًا جديدًا من بثّ المحتويات الذي يتسم بطابعه غير الخطي، وغير المعياري، والتفاعلي. ويقصد بالطابع غير الخطي أن المستمع غير مجبر على متابعة المحتويات وفق تسلسلها وترتيبها الزمني ساعة بثها. إنه متحرّر من هذا الالتزام، إذ بإمكانه أن يختار ما يشاء من المحتويات السمعية المعروضة للبثّ أو التحمّيل. وهذا يتحقق عبر العديد من التطبيقات الرقمية المتوفرة في شبكة الإنترنت، ومن خلال «كاتالوجات» المحتويات التي توضع في متناول اليد يستخدمها الشخص متى يشاء، وحيثما يريد، بشرط أن يكون مرتبطًا بشبكة الإنترنت، فالبودكاست يحرّر المستمع من إكراهات الوقت الذي تفرضه البرامج الإذاعية على مستمعيها، هذا إضافة إلى أن الشخص المتصل بشبكة الإنترنت هو الذي يقوم بتنزّيل العُدّة الرقمية في الكمبيوتر الشخصي أو هاتفه الذكي التي تمكّنه من تحمّيل المحتويات السمعيّة. أما الطابع غير المعياري والتفاعلي، فإنه يسمح للمستخدم بالنفاذ إلى محتوى معين من بين محتويات البودكاست التي تعرض عليه اختيارات بديلة أو مكملة لحاجته ورغبته، علاوة على ما أراد تحمّيله من ملفات صوتية والتفاعل مع المحتويات.
من أجل تبسيط الاختلاف بين الإذاعة والبودكاست يمكن القول: إن البرامج الإذاعيّة تُفرض على المستمع، بينما مستخدم البودكاست هو الذي يختار بإرادته ما يناسبه من محتويات، ولا تَفرض عليه أي شيء، كما أن البرامج الإذاعية تنشد الوصول إلى الحشد، ممّا يعني أنها تسعى إلى تقديم المحتويات السمعية التوافقية التي تجمع أكبر عدد من المستمعين، بينما يروم البودكاست بلوغ الفرد وتلبية رغباته؛ بمعنى الاهتمام بالأقلية من المستمعين المنسية أو التي تجاهلتها برامج المحطات الإذاعية؛ أي التركيز على الجماعات وتقديم ما يجمعها من اهتمامات وانشغالات، فالمحطات الإذاعية تعمل وفق منطق العرض: عرض المحتويات على المستمعين المحتملين، بينما «البودكاست» ينشط وفق منطق الطلب: طلب الأشخاص الفعليين لمحتويات معينة: موسيقى، أغاني، مسرحيات ومسلسلات إذاعية، برامج حوارية، وتحقيقات وربورتاجات صحفية.
لذا فإن منتجي البودكاست يملكون هامشًا من الحرية في إنتاج المواد السمعية أكثر من منتجي البرامج الإذاعية الخاضعين لصرامة المعيار الزمني في الإنتاج الإذاعي، فيمكن لبرنامج معين في البودكاست، مثل الحوار أو المناظرة أن يستغرق أكثر من ساعة لأنه أنُتِج لتلبية طلب المهتمين وليس موجهًا للعامة.
يشكل البودكاست علامة بارزة في ديموقراطية الاتصال السمعي خلافًا للإذاعة، يستطيع أي شخص يملك بعض المهارات التقنية أن ينتج مواد سمعية ذات نوعية جيدة تضاهي أفضل المنتجات الإذاعية وبثها في شكل «بودكاست»، بشرط أن يمتلك عُدّة تقنية بسيطة: جهاز كمبيوتر متصل بشبكة الإنترنت، وميكرفون، وبرنامج مخصص يمكن تحمّيله مجانًا من شبكة الإنترنت، وتدريجيًّا يستطيع المحتوى الذي ينشره كسب جمهورًا ويصبح وفيًّا له، وعلى الرغم من هذه الديموقراطية، فإنه لا يمكن أن نصادف «البودكاست» فجأة ونتابع محتوياته بمجرد إبحارنا في شبكة الإنترنت، على غرار محطات الإذاعة التي من الممكن أن نستمع إلى برامجها صدفة دون أن نبحث عنها.
إذا؛ يتمثل البودكاست في بثّ الملفات السمعيّة عبر شبكة الإنترنت التي يطلع عليها المهتمون عبر الملخص الثري للموقع (RSS)، فيقومون بتحمّيلها عبر جهاز متنقل: الهاتف الذكي أو الكمبيوتر المحمول الشخصي، وما يميّز التحمّيل التقليدي للملفات السمعية عن تحميل محتويات البودكاست هو إمكانية الاشتراك بمقابل مالي زهيد أو مجانًا، حتى يتمكن كل مشترك من متابعة المحتوى الجديد والآني أو تحمّيله بشكل آلي.
لعل الفرق بين المحطة الإذاعية و»البودكاست» يتضح أكثر عند ذكر نوعي «البودكاست»: البودكاست العادي الذي يعيد بثّ المحتويات الجاهزة، والتي أُنتجت وبُثت في منصات رقمية وحتّى محطات إذاعيّة معروفة أو عبر وسائل إعلام أخرى، والبودكاست الأصلي، ويقصد به «المحتويات الصوتية المنتجة مباشرة من أجل الاستماع غير الخطي، والمتوفرة في الواب»، ولعل هذا النوع من البودكاست هو الذي كان يقصده الباحث «كسافيي أوتروب» في حديثه عن مواصفات البودكاست الجيد، إذ أكد بأنه ذاك الذي يغامر صاحبه، ويقدم أشكالاً جديدة من السرد بطريقة مبتكرة.


وسائل الإعلام والبودكاست
تتفاوت وسائل الإعلام «التقليدية» في انفتاحها على البودكاست نظرًا لطبيعة كل وسيلة وخصوصية المنظومة الإعلامية والثقافية التي تنتمي إليها في كل بلد، فاستخدام وسائل الإعلام الفرنسية للبودكاست، على سبيل المثال، يعتبر متواضعًا، إن لم يكن «متخلفًا» مقارنة ببعض البلدان، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا. ويوعز البعض السبب في ذلك إلى هيمنة الإذاعات الشاملة أو العامة في فرنسا التي تهتم بالأخبار والتحليل الإخباري مما يقلّل عدد البودكاست الذي يركز على الأخبار الآنية.
لذا نلاحظ الكثير من تردد وسائل الإعلام الفرنسية في الاستعانة بالبودكاست، فصحيفة «لوموند» الفرنسية، على سبيل المثال، التي تمتلك إستراتيجية لكسب المشتركين في طبعتها الرقمية استثمرت الجهد والمال في مجال الفيديو، وعزّزت حضورها في مواقع الشبكات الاجتماعية مثل: «سناب شات» لم تول العناية اللازمة للمواد السمعية إلا مؤخرًا. أما صحيفة (ليبراسيون Libération) الفرنسيّة التي تشكل الاستثناء في الاتصال السمعي في المشهد الفرنسي، فقد أطلقت في عام 2007م بودكاست بعنوان: «ثقافة الواب»، وآخر بعنوان: «سكوت إننا نلعب». ثم تخلت عنهما لتبعثهما من جديد في عام 2016م.
هذا خلافًا لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية التي جعلت من «البودكاست الأصيل» عنصرًا أساسيًّا في إستراتيجيتها الرقمية، وعلامة بارزة في واجهتها، لقد استثمرت كثيرًا في إنجاز برنامج «ستال بروسيسيغ» لتبثه عبر البودكاست، والذي يحمل مشروعًا طموحًا جدًّا، إذ يتناول موضوعات عديدة، مثل الثقافة الشعبية، والتكنولوجيا، والسياسة، واستعانت في ذلك بخدمات بعض الشركات المختصة في إنتاج البودكاست، مثل شركة «بينابل» (Pineapple)»، و»ستريت ميديا» (Street Media).
لم يساعد البودكاست الصحف المحلية على الاحتفاظ بقرائها التقليديين فحسب، بل وثق علاقاتها بالمجتمع المحلي أيضًا، لقد سمح لها بالتسجيل مع العمال والفلاحين وذوي المهن الحرة للحديث عن ظروف عملهم والصعوبات التي يعانون منها وتقديم مقترحاتهم، فالحديث أمام الميكرفون أسهل من الوقوف أمام الكاميرا أو أقل إرباكًا.
وبعيدًا عن عالم الصحافة المكتوبة التي تريد ترسيخ قدمها في العالم الرقمي بفضل الفيديو والبوكاست، استثمرت العديد من المحطات الإذاعية خبراتها في إنتاج المواد للبودكاست، فإذاعة فرنسا، على سبيل المثال، انتقلت من انتقاء مواد ومقاطع من برامجها الإذاعية لتبثها عبر البودكاست إلى إنتاج برامج قصيرة موجهة للبودكاست قبل أن تبث في برامجها، وهكذا أصبحت تمنح الأولوية للبودكاست قبل البرامج الإذاعية، وانطلقت محطة إذاعة «البي بي سي 3» في إنتاج محتويات مخصصة للواب، وأنشأ المدير السابق لقسم الميديا الجديدة بإذاعة فرنسا، بمعية فريق من الصحافيين والفنيين، بودكاست أسماه «هوملس» (Homless) يبيع حقوق بثّ منتجاته التي تتناول موضوعات مختلفة: النقد السينمائي، وألعاب الفيديو، والثقافة الشعبية، وثقافة الهيب هوب: وبهذا التحق هذا البودكاست بالمنصات المستقلة عن الإذاعات والتي تقوم بالدور ذاته، مثل منصة «أكست» (Acast) السويدية، و»أوديو بوم» (AudioBoom) البريطانية، وستتشر، وسبركر، وبودكاست وان، وميدرول، وبنوبلي الأمريكية. و»أرتي راديو» (Arte Radio) الفرنسية، وكل منصة من هذه المنصات تقترح حلولاً لكيفية جني الأموال من الإعلانات، وتجميع المحتويات، بل تقترح توزيع محتويات البودكاست الذي تُسهم في إنشائه على كبار جامعي المحتويات السمعية وناشريها مثل: «تونلن» (Tune In) الأمريكي، و»راديو لاين» (Radio line) الفرنسي، وراديو «دو» (radio.de.) الألماني، وهذا من أجل تعزيز حضورها في شبكة الواب لتكون مرئيًّة أكثر.


استشارة للمستقبل
تؤكد الدراسة المسحية التي قام بها معهد رويترز في عام 2018م، في (22) دولة في العالم أن ثلث المبحوثين استمع إلى الأخبار عبر البودكاست مرة في الشهر على الأقل، وتزداد هذه النسبة في البلدان الآسيوية، هذا فضلاً على أن أكبر عدد من الشباب الأقل من (35) سنة يفضل متابعة الأخبار عبر البودكاست عن الاستماع إليها عبر الإذاعة.
أمام هذه الحقيقة، وتزايد إقبال وسائل الإعلام التقليدية وبقية المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على هذا النمط من البثّ، وتوجه المشاهير والفنانين في العديد من البلدان إلى إنشاء بودكاست خاص بهم، ظهرت العديد من مكاتب الاستشارة، وشركات الخبرة والتوجيه في مجال إدارة البوكاست وضبط إستراتيجية استخدامه، فمجموعة «أوشا» التابعة لراديو «كينغ»، وهو مضيف فرنسي يأوي حاليًّا ثلاثة آلاف محطة إذاعية من (170) دولة تقترح استضافة البودكاست على المؤسسات المختلفة والخواص الراغبين في إنشائه، مقابل اشتراك ببعض الدولارات فقط، مع إعداد شريط خاص بالملخص الثري للبودكاست للتواصل مع المهتمين لإشعارهم بمستجداته، وتوجهه – أيضًا – إلى كبريات المؤسسات التي تقوم بتجميع المحتويات السمعية في شبكة الإنترنت وفهرستها وترتيبها، مثل: «آبل بودكاست، وديزر، وسبورتي»، هذا إضافة إلى تقديم نصائح لهم عبر شبكة الإنترنت وتوجيه المبتدئين منهم ومساعدتهم على وضع تصور للبودكاست العازمين على إنشائه، وتسجيل محتوياته، والقيام بتركيب ما يتم إنتاجه وإخراجه، والترويج له في مواقع الشبكات الاجتماعية.
ويقوم اليوم استوديو «لويس ميديا» المختص في «البوكاست» السردي بمرافقة العديد من المؤسسات الإعلامية وهي تخوض تجربة البوكاست، نذكر منها على سبيل المثال، مجلة «سلات» (Slate)، و»مدام فيغارو». وهذا ما حدا بمدير النشر في صحيفة «لاكرو» إلى التصريح بأنه لولا الخدمات التي تقدمها مثل هذه الشركات ما استطعنا أن نطلق بودكاست صحيفتنا. إنه مشروع طموح وكبير، يتناول العديد من الموضوعات التي تعرفنا إلى جمهور جديد لتؤكد أننا لسنا صحيفة دينية فقط.
لقد فتح البودكاست مجالاً جديدًا للكتابة في الصحف، ويتمثل في نقد منتجات البودكاست الأصلي، ضمن الصفحات المخصصة للإذاعة، كما هو شأن مجلة «تلي راما» الفرنسيّة.


صعوبات وتحديات
يعتبر العامل الاقتصادي العصب الرئيس الذي يتحكم في مصير أي وسيط اتصالي أو إعلامي، ولأنه لازال «البودكاست»، باعتباره نوع من الاتصال السمعي أو شكل من أشكال المحتوى، يبحث عن نمطه الاقتصادي على غرار المدونات الإلكترونية، وصحافة الإنترنت بصفة عامة، فإن مستقبله يظلّ مرهونًا بالإجابة عن الأسئلة التالية المرتبطة باقتصاديات البودكاست: ما كلفة إنتاج بودكاست محترف وإدارته؟ ما سعر فكرة أصيلة لإنشاء «بودكاست»؟ وما سعر الإعلان في البودكاست، وعلى أي أساس يُحسب: وما مدة بثّه؟ وما عدد متابعي البودكاست؟ وغيرها من الأسئلة الدقيقة التي لا توجد إجابة جاهزة عنها.
ما يعيق «البودكاست» في بناء نمطه الاقتصادي يكمن في حرمانه من البيانات، التي يحصل عليها في الغالب أصحاب الفيديوهات التي يبثونها عبر المنصات المتخصصة، مثل اليوتيوب، والديلي موشن، أو مواقع الشبكات الاجتماعية كالفيسبوك، ومدونات الفيديو، فبإمكان هؤلاء التصرف في البيانات المتعلقة بعدد الذين اطلعوا على شرائط فيديوهاتهم؟ وبالمدة التي يخصصونها لمشاهدتها؟ وكم عدد الأشخاص الذين قاموا بتحمّيلها أو إعادة إرسالها إلى أصدقائهم عبر الموقع؟ عدد الأشخاص الذين أعجبوا بها أو علقوا عليها؟ وهل كانت تعليقاتهم إيجابية أم سلبية؟ وغيرها من التفاصيل عن الأشخاص الذين اطلعوا عليها وتفاعلوا معها؟ إن مثل هذه البيانات ضرورية جدًّا بالنسبة للمعلنين؟ فلا أحد يغامر بالإعلان عن سلعته أو منتوجه عبر عُدَّة تقنية لا يعرف من هو جمهورها أو مستخدميها؟ وكم عددهم؟ وما حاجتهم واهتماماتهم؟ وما سلوكهم؟
لعل بعض المعلنين يدركون جيدًا أن شريط الفيديو ينتشر عبر العدوى السارية في شبكة الإنترنت، ويمكن لمستخدم الإنترنت أن يشاهده دون قصد أو يلمحه فقط، ويستطيع أن يتجنبه إن اعترض إبحاره في شبكة الإنترنت أو يوكل ذلك إلى التطبيق الرقمي الذي يحمله في الكمبيوتر المحمول أو هاتفه ليحجب عنه الإعلانات، بينما لا يحدث التعرض للإعلان المبثوث في البودكاست صدفة، بل يتم عن قصد لأن المستمع هو الذي يبحث عن المحتوى الذي يريد في البودكاست، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إنه من المفروض أن يكون سعر الإعلان في البودكاست أعلى من سعره في شرائط الفيديو، لأن الإعلان الذي يبثه يوجه إلى الجمهور المعني و المستهدف أو النافع على حسب المختصين في التسويق، لكن على الرغم من هذه الحقيقة إلا أن الكثير من المعلنين يتردّدون في تسليم إعلاناتهم إلى منتجي البودكاست.
لقد وعدت شركة آبل، بأنها ستزود منتجي البودكاست بالبيانات الضرورية عن مستخدميها ومستمعيها عبر منصتها «آيتون» (Itunes)، وفي انتظار ذلك حاول منتجو البودكاست تجاوز هذه الصعوبات بالبحث عن أشكال تمويل المحتوى، فالبودكاست الأصلي المهتم بعالم النشر وطباعة الكتب وبالكُتّاب والمؤلفين، على سبيل المثال، يتجه إلى شركة «أوديبل» (audible)، المختصة في الكتاب المسموع، وهي فرع من شركة «أمازون» المشهورة لتمويله، خاصة بعد ازدياد انتشار الكتاب المسموع في العالم، واستعانة صناعه بأصوات الممثلين المشهورين، مثل «مورغان فريمان»، و»كيت وينسلت»، وغيرهم. فالتمويل (sponsoring) هو مورد مالي فعال نسبيًّا ومفيد للطرفين: لمنتج البودكاست وللمعلن، إذ يسمح لهذا الأخير بشراء حضور سلعته أو ماركته التجارية في البرامج التي تبثّ عبر البودكاست والتي يشارك قيمها، والمنتجون الذين لا يفلحون في العثور على ممولين، يتجهون إلى أسلوب الإعلان الأصيل، بمعنى أنهم يدرجون اسم الماركة أو العلامة التجارية أو سلعة معينة في المتن السردي، على غرار الأفلام السينمائية التي تقحم الصور المكبرة والمكررة لماركة السيارة التي يقودها بطل الفيلم طيلة مدة العرض، وكأن الأمر تم عفويًا.
خلافًا لشرائط الفيديو في بعض البلدان، مثل فرنسا، التي تحظى فيها بإعانة مالية من أكثر من صندوق مالي يُحرم منتجو البودكاست منها. أما في البلدان التي لا تُسهم فيها الدولة في تمويل الصناعات الثقافية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فإن منتجي البودكاست يتطلعون إلى سخاء المستمعين الذين لا يبخلون في الإسهام في تمويلها، وهذا وفق التقاليد الراسخة في المجتمع الأمريكي الذي يُسهم أبناؤه بهباتهم في النهوض بالإنتاج الثقافي والفني.
يبدو أن وسائل الإعلام العربية لا تواجه هذه الصعوبة الآن على الأقل، نظرًا لمحدودية استعمالها للبودكاست من جهة، ولاعتمادها على تمويل الوسيلة الإعلامية التي «تستضيفه». فبعض الصحف العربية سخرت «البودكاست» لتعزيز آنية الأخبار التي تنشرها ورفدها بتحليل الأحداث، وبعضها استغله لكسب قراء جدد الذين لم يجدوا ضالتهم في الصحف الورقية، مثل تخصيص البودكاست لعيون الشعر العربي القديم والحديث، وتقديم ملخصات للروايات المنشورة حديثًا، وغيرها.