النشاط الإعلامي هو أحد مجالات السهل الممتنع؛ كما يراه الكثيرون، خاصة من يختزله في مجرد إيصال المعلومة عبر التعبير عن الرسالة بالكلمة أو الصوت والصورة بنوعيها الثابتة أو المتحركة، وربما زاد من هذه القناعة حقيقة أن كل فرد بات قادراً على ممارسته بعد أن أصبحت وسائل الاتصال والتواصل مشاعة للجميع؛ حيث لم تعد حكراً على من يملك المال الوفير، أو مقيدةً بأنظمة وتشريعات ضابطة صارمة تُقنَّنُه، كما هو عليه الوضع قبل عقود.
وفي الوقت الذي كان يمكن قبول هذا الاعتقاد المبسط حول مفهوم الإعلام مع بدايات التخصص، أي قبل أن ينمو ويتطور في وسائله وأشكاله، وقبل أن يستكشف الباحثون والممارسون عوامل الوصول بفعالية إلى الجمهور، وفق استراتيجيات تم اختبارها والتحقق منها، غير أن الواقع الآن بات مختلفاً، نظير القفزات الهائلة التي وصل إليها هذا التخصص بعد نضجه؛ إلى أن أصبح الإعلام صناعة متكاملة تشكل الرأي، وتغير المواقف، وترسخ القناعات، على نحوٍ جعلها تحظى -على مستوى الدول والمؤسسات والأفراد- باهتمام كبير وعناية بالغة ظهرت أشكالها في عدة أوجه، بغرض توظيفها للاستفادة منها على الوجه المطلوب.
صناعة الإعلام:
مرت البشرية وعاشت -ولا تزال- عبر أنواع مختلفة من الاقتصادات التي شكلت نمط حياة أفرادها، ونظمت سبل عيشهم، وهو ما أدى إلى تشييد كيانات اتصالية مهمة لتكوين الدول وشعوبها، وأسهمت إسهاماً مباشراً في نموها والارتقاء بها؛ إذ ابتدأت مسيرتها باقتصاد الزراعة بوصفه المطلب الأساس لتلبية حاجة الغذاء الذي لا يتصور بقاء الإنسان دونه. ومع تزايد النمو السكاني، كان لزاماً على الانسان أن يبتكر الآلة؛ لتمكنه من مضاعفة الإنتاج القادر على مواكبته لحجم التغيرات ومتطلباتها، فتجاوز بذلك التركيز على المجال الزراعي إلى تيسير التعامل مع الحقول الأخرى، وهو ما أعانه في التغلب على التحديات والصعوبات، ووفر له كافة احتياجاته في سائر المجالات.ومع التوسع في استخدام الآلة، دخلت البشرية في عصر ما يسمى باقتصاد الصناعة، الذي تفوق على نظيره الزراعي، وقاد إلى تحقيق المزيد من المكاسب المعنوية والمادية، وهو ما شجع رواد قطاع الأعمال والمستثمرون إلى الانخراط في المجال الجديد، واتضح من خلال التجربة والممارسة أهمية الصلة بين النوعين من الاقتصاديات، وحاجة كل منهما للآخر؛ على نحوٍ يقود إلى تحقيق نجاحات أكبر وأثمن.ولم تكن اقتصاديات الصناعة هي المحطة الأخيرة في مجالها، وإنما وجِد نوع آخر ذو صلة وثيقة بالإثنين، وإن كان في واقعه قد سبق كليهما بوصفه البذرة الأولى في الاستنتاج، وبالنظر إلى أن حاجتهما له، كان هذا النوع محورياً في النشأة، ونقصد به اقتصاد المعرفة، الذي شكلت به المعلومات والبيانات والتجارب، وكذا الدراسات والبحوث، أهم أسس مكوناته، وأصبحت تراكماته مخزناً متنامياً لأبرز مخرجات الاقتصاديات مجتمعة، بالإضافة إلى أن مادته غدت الأساس التي يستعان بها لتحقيق المزيد من النماء والتطوير وتوليد العلوم، ولغزارة مكوناته لم يكن مستغرباً أن يحتوي على جملة من الصناعات الفرعية، من بينها «صناعة الإعلام» نفسه.لعل مما يميز هذه الصناعة، بتفريعاتها المختلفة، أنها تعتمد بالدرجة الأولى على استخدام التكنولوجيا ورأس المال البشري في كيفية التعامل معها، أما أبرز السمات التي تنفرد بها صناعة الإعلام عن غيرها في هذه المظلة، أن حضورها يتوهج ويحقق أهدافه عندما يبدع أصحابها كلما امتلكوا الإحساس الرفيع في تشكيل مادته؛ بحيث تكون له الجاذبية والقبول لدى جمهوره المستهدف، وفقاً لمعايير يمكن تعزيزها بالمعرفة والتدرب، وهي سمة لا تتوافر في الصناعات الفرعية الأخرى المصنفة في هذا النوع، كالتعليم مثلاً، فقد ظلت الكثير من المدارس، خاصة في المراحل الأولية، عاجزةً عن مواكبة الإعلام في قدرته على لفت الأنظار، وجذب اهتمام مستخدميه.وبالرغم من أن قيمة الاستثمار في اقتصاد المعرفة، بدت -ولفترة غير القصيرة- في مرتبة أقل منها في اقتصاد الصناعة، إلا أن التطور التكنولوجي في حقل الاتصال والمعلومات الذي صاحب الانتقال إلى العصر الرقمي، قفز به، لاسيما وسائل الاتصال، إلى مرحلة متقدمة بفضل الأرقام الفلكية المالية التي وصلت لها قيمة بعض أدواته، ولا أدل على ذلك من شراء شركة (الفيسبوك) في عام 2014 لشبكة (الواتساب)، رغم خلوها من الإعلانات التي عرفت بأنها المصدر الرئيس لموارد الوسائل الاتصالية، بمبلغ (19) مليار دولار، وكذلك استحواذ الملياردير (إلون ماسك) على منصةX) )، (تويتر سابقاً)، بقيمة (44) مليار دولار، وكلتاهما وسيلتان اتصاليتان، تشكل المعلومات التي تجمعها من مستخدميها القيمة الأهم لملاكهما؛ فغدت كل واحدة منها منجماً ثرياً للتعدين المعلوماتي واستثماره.إن ضخامة المبالغ المالية التي تباع وتسوق بها هذه الوسائل الاتصالية، وما حظيت به من اهتمام وإقبال كبيرين، يعد مؤشراً قاطعاً على قيمة المعلومة في عصرنا الحاضر، على نحوٍ تجاوز بكثير ما كانت عليه في وقت مضى، ولا يكفي أنها باتت في مردودها المعنوي تتصدر أبرز مصادر الأخبار والمعلومات؛ بل إنها غدت بمواردها تفوق الموازنة السنوية للكثير من الدول النامية، وربما تفوقت في قيمتها السوقية على العديد من مصانع الصناعات الثقيلة، بالرغم من أن منتجات هذه الأخيرة ذات فوائد يدركها المستهلك بشكل ملموس.
معادلة الفن والعلم:
النظر إلى الإعلام يعتمد على أحاسيس ومشاعر المتلقين، يتم التعبير عنها بأساليب متنوعة، وذات طابع إبداعي ومبتكر، يغري بالقول إن الإعلام «فنٌّ»، وليس علماً يتم تقنين أسسه، أو قولبته في أشكال معلبة؛ لتحديد طرق العمل به. غير أن النظرة الحدية، لا تتناسب مع نشاط يحتاج بشكل متجدد إلى روح التطوير والاستفادة من التجارب والتراكمات التي أسهمت في بناء هذه الصناعة، ويعد الشق المعرفي فيه جزءً من طبيعة أداء العاملين فيه، الذين يحتاجون دائماً إلى تنمية ثقافتهم بمجال صناعتهم، وفتح آفاق جديدة ترتقي بهم في عطاءاتها، وتواكب تغيرات حالاته. وبعيداً عن جدلية اشتراط البعض ضرورة حصول الإعلامي على شهادة متخصصة، (وهو شرط يختلف معه كاتب هذه السطور)، يمكن القول بأن الممارسة الإعلامية: نشاط ديناميكي بذرته الموهبة، التي يشتد عودها ويلمع بريقها عندما تكون مصحوبة بالشغف، وتصقل بالتعليم والتدريب في المجال ذاته، مما يعني أن المهارة والميول للتخصص هما شرطان مطلوبان ابتداءً؛ لتحقيق النجاح في هذه الصناعة، أو من أجل قيادتها على الوجه الصحيح، ومع ذلك، ونظراً لتعقيدات العمل الإعلامي وتشعباته، فإن الحكم ليس على إطلاقه، فالتميز يمكن قبوله لدى الأفراد أو العاملين في مسار معينٍ من مكونات الصناعة الإعلامية، دون مسار، وقد تجتمع سمة التفوق لدى البعض في أكثر من مجال، أما الإلمام بكافة خفايا واتجاهات الصناعة وعناصرها، وطرق التعامل معها، فأمر يتطلب التقصي والمعرفة المستمرة، وهو أمر قد يحتاج إلى هيئة استشارية متنوعة المجالات والتخصصات ذات العلاقة بها.
تحديات الصناعة:
تقدم وسائل الإعلام الأفراد والمؤسسات والدول إلى الجمهور العريض، انطلاقاً من أهداف مرسومة ووفقاً لرسائل محددة، كما أنها تسهم بصورة كبيرة في تشكيل الصور الذهنية عن ذلك كله، بالإضافة إلى العمل على حمايتها وتنميتها، ولعل هذه الخاصية هي التي جعلت هذا النشاط ذا بريقِ وجاذبية خاصة، يتقرب له الأفراد ويخطبون وده، بل وود العاملين فيه، مما صيره ذا وهج أخّاذ يدمنه البعض، ويندفعون له، دون مراعاة لطبيعة الأثر العكسي الذي يمكن أن يحدثه هذا النوع من الهوس، فهو في حال تجاوز استغلاله العرف المهني ينتهي إلى نتائج لا تحمد عقباها، وترتد آثاره سلباً على أصحابها.
الإدارة الإعلامية أولاً…
يكاد يتمحور السبب الرئيس في نجاح أو إخفاق المؤسسات والوسائل الإعلامية أو أي من أقسامها، في درجة كفاءة قياداتها، وعلينا أن نفرق جيداً بين من يحسن ممارسة النشاط الإعلامي، وبين من يتقلد إدارته وتشغيله؛ إذ لا بد لمن يكلف بالمهمة أن يملك مواصفات خاصة أبعد من مجرد فهم أسس الإدارة، ومهامها؛ في مقدمتها أن تكون لديه خصائص متفردة، محورها الفهم العميق لمكونات العمل الإعلامي نفسه، على المرونة القائمة على المعرفة في تشكيله لبيئة العمل ومتطلبات تطويرها، حسب مقتضيات النشر وتغيراتها، مع القدرة على الربط بين عناصره، وتوظيفها بالشكل الأمثل؛ لتحقيق الهدف الرئيس القادر على إحداث التأثير الإيجابي في الجمهور. وفي إطار التمييز المطلوب؛ لإيضاح الفرق بين من يلزمه فهم مكونات عناصر محددة في صناعة الإعلام؛ لخدمة أغراض معينة، بعضها خاص بمهنته الشخصية، وبين من تقع على عاتقه مهمة التخطيط وتوزيع الأدوار واختيار الممارسين، بما فيه تقييم مدى تميزهم في المهنة، بوصف ذلك جوهر المهام المتوقع من القياديين القيام بها، وضمان استيعابهم لها؛ كشرط رئيس لمن تسند له مهمة إدارة الصناعة الإعلامية الشاملة، كي يصبح قادراً على التعامل مع جميع تشعباتها وتفريعاتها بنظرة موضوعية تامة، وهو أمر مطلوب توافره حتى لدى من يتم اختياره لقيادة الجهات المعنية بالنشاط الإعلامي في المؤسسات العامة والخاصة.إن نتائج تجاهل هذه القاعدة، أدت بما لا يدع للشك إلى ألا تعثر الكثير من الاختيارات في الإدارات الإعلامية القيادية في ميدان عملها، فعدا عن حقيقة أن طبيعة عمل متبوؤها محفوفة بمخاطر الخوض في كثيرٍ من أحواله، في حقل مزروع بالألغام، وسيره في معظم أوقاته على صفيح ساخن؛ فإنه لعدم قدرته على توقع أماكنها بدقة، يكون عرضة إلى الاستغناء عنه. والبحث عن بدلاء يتطلب الحصول على الأنسب، والمزيد من التقييم والتحري؛ ليستطيع مرشحها التعامل مع كافة مساراتها. أما الأخطاء الشائعة، التي تقع في دائرة عدم مراعاة هذا البعد فهي عديدة، أما أبرز صورها وأكثرها تكرراً، فهو الاعتقاد بأن من يَبرُع في أداء أي شكل من أشكال الإعلام، أو أي مجال من مجالاته، قادر على إدارة الإعلام المؤسساتي نفسه، وأن من يملك مهارة الإقناع في مادته الصحفية، أو حديثه لوسائل الإعلام، هو الأنسب لإدارتها. ولعل مما يؤكد حدوث مثل هذا الخطأ، قيام عدد من المؤسسات في وقت مضى استقطاب بعض كتاب المقالات الصحفية، أو مشاهير الإعلام كمستشارين بها؛ للإسهام في وضع خطط أو استراتيجيات الإدارة المعنية بالاتصال أو أحد فروعه، وشبيه به اختيار من تفوق في تسيير وسيلة إعلامية مطبوعة أو مسموعة أو مرئية؛ لإدارة تضم كافة الأنواع، دون أن تكون لديه المعرفة أو الخبرة الكافية التي تمكنه من التعامل مع كل نوعٍ بما تتطلبه خصائصه من ممارسات مهنية دقيقة، تضمن بقاءها في محيط المنافسة، والارتقاء بها للأفضل؛ إذ كثيراً ما تطغى الخبرة في نوعٍ بعينه على طريقة إدارة الأنواع الأخرى، رغم الفارق في كلٍّ.إن تجاهل النظرة الفاحصة للإعلام، على أنها صناعة ذات مكونات عميقة واختصاصات دقيقة، سبب رئيس في تراجع أداء الكثير من الوسائل، شأنها في ذلك شأن أية صناعة أخرى، التي إن هي تخلت عن ثوابت إدارة شؤونها تراجعت، وربما انتهت إلى انهيار نشاطها بالكامل، إما نتيجة حدوث خلل ما في توزيع الأدوار، أو عدم وجود العنصر أو الكفاءة المناسبة في المكان المناسب، والاستعانة بمن يتقن تفاصيلها، وعوامل نجاحها، وفي ذلك إساءة التصرف مع معادلة يجب أن تكون متكاملة الأركان، ولا تقبل الترقيع أو أنصاف الحلول. وحتى يتضح المقصود بالتكامل هنا، يحسن تخيل ما قد يحدث لصناعة أخرى، تعتمد على مكونات ملموسة يسهل إدراكها أكثر، والتعرف على تفاصيل أدق، تقرب مكونات الصورة؛ فصناعة كبيرة كصناعة السيارات على سبيل المثال، هي نشاط عريض يتطلب وجود عدة صناعات فرعية تلبي احتياجاتها، شأنها في ذلك طبيعة الصناعات عموماً، وذلك بغرض تقديم الدعم اللوجستي اللازم لاكتمال المُنتَج، ليقدم للمستهلك بصورته النهائية بشكل قادر على لفت الانتباه، والجذب، في ميدان مليء بالمنافسة وبالخيارات العديدة والمتنوعة.أما أهم مقتضيات النجاح التي يكاد يتفق عليها الجميع، هي ضرورة إتقان كل ذوي العلاقة لمهامهم على أكمل وجه، ومن غير المقبول على الإطلاق أن تتولى أية جهة من جهات الدعم اللوجستي المتخصصة في مجال ما، القيام بدور الأخرى، مهما بلغت كفاءتها.
أين يكمن الخلل؟!
إن من أكبر التحديات التي تواجهها صناعة الإعلام، هو أن النشاط يعرض بضاعته للجميع دون استثناء، ليصبح العامة هم أساس الحكم عليه؛ وهو ما يجعل جلهم يعتقد أنه ليس قادراً على تقييمه فقط، بل إن الاطلاع المستمر على منتجات هذا النشاط، قاد السواد الأعظم منهم إلى الاقتناع بأنه يملك متطلبات هذه الصناعة، وبالرغم من أن مسألة إبداء الرأي حول منتجات صناعة الإعلام يمكن قبوله كرأي وحق من حقوق أصحابه، خصلة تكاد تنسحب على جميع الصناعات، إلا أنها في الإعلام تصبح غير مقبولة عندما يعتقد المتلقون أنهم شركاء مباشرون في الصناعة، التي تشبعت لدى البعض منهم، نتيجة كونهم مستهلكون دائمون له، وبما أن مادتها الخام متوفرة لديهم، كما أن أدواتها باتت متاحة بصورة غير مسبوقة، فإن الاقتراحات العشوائية لا تكاد تتوقف، وتنحصر في دائرة ضيقة كوجهة نظر تقبل من الجميع؛ بل إن أصداء البعض منها تكاد تطغى حتى على قرارات متخذيها في المؤسسات الإعلامية.تظهر هذه الإشكالية بصورة جلية لدى من يعمل في إدارات الإعلام المؤسساتية؛ التي كثيراً ما تصاب بخيبة أمل، في حال تبنَّت الإدارة العليا، آراءَ مسؤولي أو منسوبي المؤسسة، أو حتى كبار زوارها؛ كتقييم لواقع أداء تلك الإدارات، ذلك أن بعضهم، لا يجد ما يجامل به الإدارة العليا، سوى الثناء على أداء المؤسسة، في تبرير غير منطقي لأوجه القصور لديها، والانتقاص من دور إعلامها في إظهار ما تحقق من إنجازات. ذذ
الأحداث والإنجازات أولاً:
من القواعد المسلم بها في ميدان النشر الإعلامي، أن وظيفته الرئيسة -سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو حتى الدول- تكمن في كونه أداة للتعريف بالأنشطة والأحداث المتجددة، والعمل على نقل وجهات نظرها بعدة أشكال وعبر وسائل متنوعة، ما يعني أنه نشاط ينشأ في الأصل كرد فعل وعرض لما يقع في الحياة اليومية، ولما يقوم به الآخرون ويقدمونه من إنجازات، أي أن الإعلام ليس أداة مباشرة لصنع النجاح، ولكنه في حقيقته مرآة تظهره، وتحفزه بطرق وأساليب مختلفة. وبالتالي فإن من ينتظر منه خلاف ذلك، فإنه يريد أن يدفعه –أي الإعلام- للتمرد على قيمه التي لا يمكن أن ينجح دون يُلتَزَم بها كشرط رئيس لتحقق الجودة والتفوق في ميدان المنافسة، وفي مقدمة تلك القيم عنصري الصدق، والدقة في المعلومات التي ينشرها؛ وبالأصح، أنه في حال تم دفعه بهذه الطريقة يطالبه صراحة أو ضمناً بالحديث عن إنجازات لم تتحقق، أو بالمبالغة في البيانات التي حتماً ستقود إلى القضاء السريع على الوسيلة التي تنقلها، بل والأخطر من ذلك إلى الإساءة إلى مرجعياتها، وربما المجتمعات التي ينتمي لها، فمن خلاله يمكن معرفة شخصية تلك المجتمعات والحكم عليها بناءً على ما ينشر في وسائل بلدانها.إن من أهم مخاطر عدم الفهم الصحيح لطبيعة صناعة الإعلام، أن محاولات تطويره تؤسس في غالبها على الاجتهادات ممن لا يعرف خبايا أموره في تكوين الصناعة، ولعل من أبرز مظاهره قيام بعض المؤسسات الإعلامية بالاستعانة بالشركات الاستشارية العامة، التي وإن نجحت في وضع استراتيجيات إدارية للعديد من الجهات، إلا أنها حتماً لن تتمكن من ذلك في حقل له خصائصه التي لا تتشابه مع غيره، إذ يغلب على هذه الشركات إعداد خططها، بشكل هو أقرب إلى الاستنساخ، وتقديم معظم مخرجاتها في قوالب متشابهة، دون إدراك تام لطبيعة الأنشطة الاتصالية، وكيفية وصولها إلى المتلقين بالشكل المطلوب.
الإعلام لا يغمض عينيه..
حتى تبقى مهنة الإعلام متوهجة، وحاضرة في المشهد؛ لا بد لمؤسساته أن تستفيد من خصائص الإعلامي الناجح التي من بينها متابعته المستمرة لميدان الأحداث وتطوراتها أولاً بأول، وأن يكون قادراً على قراءتها جيداً وتوقع النتائج، بل إن من بين العاملين فيه من كتاب الرأي ومحلليه، من يقترحون الحلول للتحديات والصعوبات.هذا يعني أن على المؤسسات أن تراقب التطورات التقنية ذات العلاقة بنشاطها، ومن ثم سرعة التفاعل معها بما يجعلها رائدة فيه، وبما يمكنها من تقديم أساليب مبتكرة تعزز من تواجدها. ولعل من المفارقات أن تنقل وسائل الإعلام أخبار التغيرات التكنولوجية في مجالها، غير أنها لا تلقى التفاعل الفوري المطلوب من القائمين عليها. فقد حلت الإنترنت، والذكاء الاصطناعي على سبيل المثال في ساحته، ولم تحرك تلك المؤسسات ساكناً.إن التفاعل مع الصناعة يفترض أن يؤدي إلى وجود، «كارتيل» يشد بعضه بعضاً، ولأن الإعلام كنشاط، لم يتبنَّ بمؤسساته هذا المبدأ، ولم يتشبع بعد هذه الثقافة على الأقل في عالمنا العربي، ظلت كل جهة تواجه بمفردها، ووفقاً لاجتهاداتها، تبعات ما يحدث لها من هزات؛ وما يعصف بها من رياح؛ والأغرب أن محاولات التطوير كشفت في معظمها عن جهل ملحوظ بهذه الصناعة، فرغم عظم التحديات، لم تنظم اجتماعات علمية ومهنية جادة، يتفق عليها الجميع؛ لتبحث فيما يمكن فعله؛ لإعادة هيكلة الوضع الإعلامي بالطرق الصحيحة، وفقاً لمتغيراته مهما بلغ حجمها، بل إن معظم الفعاليات والمؤتمرات التي تحمل مسميات ذات صلة، كان يعوزها في كثير من محاورها وأجنداتها، بل والمشاركين بها، التشخيص الحقيقي لمشكلاته، والرؤى التطويرية المباشرة، وانتهت بلا الخلوص إلى خطط تنفيذية تباشرها.
ماذا عن تعليم الإعلام والاتصال؟
لا نبالغ في القول بأن حال السواد الأعظم من المؤسسات التعليمية المتخصصة في الإعلام والاتصال، لا يزال دون المستوى المأمول من وجوده، ولا يؤدي دوره كجزء من الصناعة نفسها، وتشبه كثيراً واقع ما حل بالميدان المهني، إذ تكشف بيئتها للمتأمل، أن الاجتهادات المنفردة هي التي تسير خططها، كما أن العشوائية تبرهن على وجود قصور واضح في عجز معظمها عن الإسهام الفعال في تشخيص وتشكيل الصناعة المنشودة.يؤكد هذا حقيقة -على سبيل المثال لا الحصر- عدم اهتمام بعضها بوجود المتخصص الدقيق لتدريس المقررات، وبخاصة التي تحتاج إلى كفاءة عالية ومتجددة في إيصال المعرفة وتمكينهم منها لدى طلابها، أو تدريبهم في صميم اختصاصهم على النحو الذي يتطلع له سوق العمل.فاقم من ذلك التأخر عن مواكبة التغيرات الهائلة، والتحولات الجذرية التي شهدها التخصص في العشرين سنة الأخيرة، ومرد ذلك هو غياب التقييم الدقيق والمستمر لواقع مخرجاتها.نختم بالقول إن تحقيق الأهداف الجوهرية للوصول إلى إعلام قوي، ومتكامل يتطلب وجود مرجعية «موضوعية» في قراءة المشهد الاتصالي أولاً بأول، وأن التمكن من إعلام قوي لا يحتمل مطلقاً الاستئثار بالرأي، فمحيطه ضخم يتطلب المشاركة، وكذلك البحث عن المعلومات الدقيقة ممن يفهم طبيعته، ودراستها، كي تكون ثمارها نتيجة بناءة تخدم كل ذوي العلاقة، ونتائج باهرة تحفزهم للقيام بأدوارهم التخصصية أكثر وأكثر، فلا بد في هذا العصر الرقمي المختلف، من تمكين العجلة من الدوران، بعد أن بطَّأتها معوقات تسببت بها حقيقة عدم التعامل مع الإعلام كصناعة، منها بقاء التخصص أسيراً لمجموعة اجتهادات عشوائية، ومحاولات يائسة، أصيبت في حالات كثيرة بالتراجع والانهزام، بعد أن خسرت الكثير من الوقت، والجهد والمال، وذلك رغم وجود حسن النية والرغبة في الوصول إلى هدف موحد!