تماماً كما تمثل الجوانب الاجتماعية أول الاعتبارات التي تذكر كعمق أساسي للتعاون الخليجي، فهي في الوقت ذاته من أهم المسارات التي عمل مجلس التعاون على تطويرها انطلاقاً من تطوير التنسيق بشأنها، فالبعد الاجتماعي لا يمثل فقط لغة مشتركة للعمل بين الناس، وإنما هو مجال واسع وعلم متنوع، تدرسه أبجديات الفكر، وتقرؤه كتب التاريخ، وتتنافس من أجل رعايته الدول، حيث يمثل اهتمامها بالمجتمع أول مؤشرات تقدمها، وأقرب طرق وصولها لأهداف التنمية المستدامة.
كان المجتمع بكافة شرائحه محل عناية مسيرة مجلس التعاون على مدى العقود الأربعة الماضية، بل إن العمل والشؤون الاجتماعية كانت من المحاور التأسيسية التي التقى عليها وزراء دول الخليج قبل قيام المجلس، وشملت التركيز على العمل والعمالـة، والأنظمة والقوانين في مجال الخدمة المدنية، التأمينات الاجتماعية والتقاعد المدني، التنمية الإدارية، التوظيف، العمالة الوافدة والتركيبة السـكانية، وتوطين الوظائف، وغير ذلك مما له صلة بالتكامل بين دول المجلس في هذه المجالات جميعاً.
تنطلق الدول الخليجية من مشتركات عديدة من ناحية البنية التنموية والبيئة السكانية واستقطابها للعمل والاستثمار، مما جعلها تمتلك ميزة من حيث القدرة على سن قوانين وأنظمة تتعامل مع واقع متشابه في كثير من الأحيان، وكذلك من حيث التعامل مع التحديات التي لا تختلف كثيراً عن بعضها فيما يتعلق بتوطين القوى العاملة وتسهيل تنقلها بين دول المجلس، والاستفادة من تجارب بعضها في هذا المجال، والتنسيق المستمر بشأن الممارسات الأفضل لرعاية قطاع الأعمال وضمان تنافسيته العالمية، وكذلك في مجال الرعاية الاجتماعية وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين.
لقد شهدت السنوات الماضية تقدماً كبيراً في إطار العمل الخليجي المشترك في جانبه المجتمعي، ومن ذلك مجالات مثل تحقيق المساواة التامة بين مواطني دول المجلس في مجالات العمل الحكومي والخاص، وإعطاء المواطنين الخليجيين الأولوية للتعاقد قبل التعاقد مع غيرهم، كما تم العمل على إشراك القطاع الخاص في وضع واقتراح الخطط والبرامج الخاصة بتوطين الوظائف، مع التركيز على توفير معلومات سوق العمل في القطاعين الحكومي والخاص والعمل الحر بين دول المجلس بسهولة ويسر لجميع مواطني دول المجلس، إسهاماً في تحقيق المواطنة الاقتصادية.
بجانب ذلك، ومع متابعة مستمرة من المجلس الأعلى، حقق العمل الخليجي المشترك في المجال الاجتماعي منجزات على صعيد تمكين المرأة كعنصر فاعل في مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية، إيماناً بما تملكه الكوادر النسائية الخليجية اليوم من طاقات هائلة معرفياً وتقنياً وعملياً، ما جعلها تتولى أعلى المناصب وأهم المهام في دوائر صنع القرار خلال السنوات الماضية، كما أكدت اجتماعات الدول الأعضاء على تفعيل كل الوسائل العلمية والإحصائية لتمكين المرأة الخليجية بالطريقة الأمثل، ليس فقط كمستفيدة من الفرص بل كصانعة لها ايضاً.
ولأن الوفاء قيمة خليجية أصيلة، فقد عمل المجلس من خلال أجهزة التقاعد والتأمينات الاجتماعية على إيجاد الحماية التأمينية لمواطني الدول الأعضاء لما بعد الخدمة تقديراً لما قدموه خلال حياتهم العملية، في حين تدير دول المجلس حواراً مستمراً حول سبل حماية التركيبة السكانية من تأثيرات العمالة الوافدة، وتتعاون لتحسين واقع الخدمة المدنية وتنمية الموارد البشرية من خلال تطوير نظم الجودة في الأجهزة الحكومية والاستفادة من الحلول الإلكترونية وعقد اللقاءات ذات الصلة بهذا المجال، والتي تضمن استلهام الخبرات والتجارب ذات الأثر التنموي والاجتماعي.
يبدع الخليجيون في العمل باحترافية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بملفات تعكس قيمهم وتقاليدهم، فهم المجتمع المتكاتف أسرياً، المهتم بالتنشئة، المعروف بالكرم والترحاب وإغاثة الملهوف وعون المحتاج، ولهذا مثلت الطفولة موضوعاً مهماً عالي الأولوية بالنسبة للمجلس، إيماناً بضرورة توفير البيئة الآمنة السليمة لجيل سيقود المستقبل، وقد عمل المجلس بالتعاون مع الخبراء والمختصين محلياً ودولياً لتبادل المعرفة وتقديم أفضل الخدمات في هذا الجانب، وفي جانب آخر، لم تنس جهود المجلس الاهتمام بفئة غالية هي ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك لاكتشاف وتطوير قدراتهم ومنحهم أعلى درجات الرعاية الطبية والتأهيلية والمجتمعية، ودمجهم في سوق العمل.