من أبو ظبي إلى العلا .. قصة تأسيس ومسيرة نجاح تسير بخطى واثقة نحو القمم

الرياض – إذاعة وتلفزيون الخليج

عندما اكتشف الأشقاء في الخليج جوهر قوتهم ولالئ غدهم الواعد

تنشأ التحالفات في العالم من وقت لآخر ولأسباب مختلفة، اعتماداً على رغبات مشتركة بين أعضائها الذين قد لا يرتبطون مباشرة بحدود جغرافية وقد لا يتحدثون ذات اللغة، ومع بروز الكثير من المتغيرات التي وضعت بصمتها خارطة العالم خلال العقود الماضية، ظهرت عدة تكتلات إقليمية وكيانات اقتصادية وتحالفات عسكرية، وهي خطوات وصفت فيما بعد بأنها الطريقة الأفضل لمواجهة التحديات بشتى أنواعها، وتحقيق السلم والنماء.

لكن عوامل التحالف جميعها تبقى محدودة حين نقارنها بما تملكه دول الخليج العربي الواقعة بشكل متجاور شرق الجزيرة العربية، في هذا النطاق الجغرافي الاستراتيجي وبالغ الأهمية بالنسبة للعالم ككل، تجانس يمتد عبر التاريخ نحو جذور واحدة تجمع شعوب هذه الدول ومكوناتها الديموغرافية وعاداتها وتقاليدها، يبدو الأمر كعائلة واحدة تمتد في مجموعة دول كان لكل منها تجربته الخاصة في التشكل والبناء، هذا المنطلق الراسخ كان النواة الأولى للفكرة التي جمعت الشعب الخليجي لأول مرة في منظومة مؤسسية واحدة، وحينها لم يبدُ الأمر جديداً، وإنما جاء كلحظة طبيعية تم التقاطها لتكمل الصورة المطلوبة، بعد توفر كل عناصرها سلفاً.

ولادة الفكرة

بزغ أول بصيص أمل للفكرة في ذهن أمير دولة الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح -رحمه الله- في منتصف السبعينات خلال زيارة قام بها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ولقائه برئيسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، كان الأساس قراءة سياسية لواقع منطقة الشرق الأوسط وما شهدته من أحداث وصراعات كانت تتطلب تأمين دول الجزيرة العربية والحفاظ على أمنها، وذلك من خلال تكتل خاص بهذه الدول.

بين إيمان الشيخ جابر بالفكرة، وحكمة الشيخ زايد صاحب الدور الريادي في تأسيس اتحاد الإمارات، رأت المسودة الأولى النور عبر بيان دعا لتشكيل لجنة وزارية بين وزيري خارجية البلدين، ليصبح التشاور المتسارع لإنشاء الكيان لغة المرحلة التالية، بجهود واضحة للشيخ سعد العبدالله الصباح -رحمه الله- وصولاً إلى ديسمبر 1978م، حيث صدرت خلال أسبوع واحد ثلاث بيانات متتالية لدولة الكويت مع كل من البحرين وقطر والإمارات، تتفق جميعها على ضرورة الوحدة بين هذه الدول، بما يجعل منها حصناً منيعاً للسيادة أمام أي تهديد محتمل، ويؤسس لتعزيز مصالحها وخير شعوبها.

طرح الشيخ جابر، الذي كان حينها ولياً للعهد، هذه الفكرة في قمة جامعة الدول العربية في عمان في العام 1980م، وتضافرت جهود وزراء خارجية الدول الست فيما بعد لاستكمال الهدف، حتى تم الإعلان في فبراير 1981م، عن تأسيس مجلس التعاون من الرياض التي توجت جهود إنشائه واحتضنت مقر أمانته العامة، وفي شهر مايو من العام التالي 1981م، رأت الفكرة النور في أبو ظبي، حيث انعقدت أول قمة لمجلس التعاون، وحينها وقع قادة كل من: الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة قطر ودولة الكويت على الصيغة الأولية لمنظومة التعاون التي ستجمع هذه الدول انطلاقاً من سماتها المشتركة وعلاقاتها الوثيقة وإيمانها بوحدة المصير والهدف.

منذ ذلك الوقت، عرفت السياسة الإقليمية والدولية مولد كيان جديد يقوم على مقومات تاريخية واجتماعية وثقافية راسخة تم دمجها في مجلس يمثل عاملاً لإرساء الأمن والتنمية في منطقته، ومصدر ثقة للاقتصاد والسلم الدوليين عطفاً على ما تملكه هذه الدول من ثروات طبيعية وموقع استراتيجي للتجارة العالمية، ومشاريع ضخمة على مستوى البنية التحتية والطاقة، وجميعها عوامل تصبح أكثر قوة مع وجود مظلة مؤسسية تحمي مصالح هذه الدول وتوحد جهودها لمصلحة مواطنيها، وتكتشف جميع مسارات العمل المشترك فيما بينها.

وإن كانت أبجديات السياسة تتحدث عن علاقات متغيرة ومصالح دائمة، فقد جاء مجلس التعاون الخليجي بحقيقة تم إثباتها على الأرض، وهي أن العلاقات المتجذرة بامتداد التاريخ والجغرافيا هي علاقات دائمة ويمكن تطويعها لمصلحة سياسة بناءة واقتصاد مزدهر، وفي الوقت الذي كانت فيه مبادئ الأخوة وأواصر التمازج الأسري أسباباً قوية لتوحيد أبناء الخليج العربي، إلا أن تكتلهم الوليد حينها لم يكتف بذلك بل بدأ مباشرة في وضع خطط عملية بالغة الوضوح والتفصيل ليتم اعتبارها خارطة طريق وبرنامجاً يتم تنفيذه على أرض الواقع، على الفور.

تعاون وتكامل

نص النظام الأساسي على تحقيق التعاون والتكامل في دول المجلس في جميع المجالات واضعاً وحدة هذه الدول كهدف يمكن الوصول إليه، كما نص على توثيق الروابط بين الشعوب ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية، والمالية، والتجارية والجمارك، والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والاعلامية والسـياحية، والتشـريعية، والإدارية، ودفع عجلـة التقـدم العلمـي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية وإنشاء مراكز بحوث علمية، وإقامة مشاريع مشتركة، وتشجيع تعاون القطاع الخاص، كانت هذه المحاور هي البداية فقط، والمقدمة لكل ما هو أكبر فيما بعد.

مع بداية الثمانينات، حين تم تأسيس المجلس، كانت الدول الخليجية تضع الأسس التنموية لبناء واقع زاهر ومستقبل مشرق من خلال الاستثمار في أبنائها وهم أهم ثرواتها، والاستفادة من مواردها الطبيعية، جاء مجلس التعاون ليمنح هذه المرحلة قوة الثقة والتكامل بين الدول الست، وهي تمضي قدماً نحو اكتشاف وصنع غدها الأفضل، ليتجسد أثر ذلك خلال السنوات والعقود التالية، حين توسعت آفاق النهوض في الدول الخليجية، وتحركت فيها قطاعات الصناعة والإنتاج، وأصبح لها حضورها المؤثر في اقتصاد العالم، الأمر الذي كان يشكل عاماً بعد عام حقيقة هذا المجلس وهو يحوز احترام وتقدير الجميع، هذا الكيان القوي الذي يضم دولاً تزداد قوة ببعضها.

كان الشيخ جابر الأحمد الصباح، رحمه الله، يردد بأن المجلس هدية الآباء لجيل المستقبل، وهو تنبؤ واثق يضم في عمقه الثقة في استمرار المجلس متماسكاً وفي مواصلة مسيرة عطائه وتنميته، وقد كانت هذه الروح حاضرة لدى أشقائه القادة المؤسسين لمجلس التعاون الخليجي رحمهم الله جميعاً، والذين كان هدفهم منذ البداية الوصول إلى صيغة تعاونية هدفها تحقيق التنسيق والتكامل وتوحيد مسارات دولهم السياسية والاقتصادية والثقافية.

نجحت هذه المساعي فيما بعد أن تؤسس المجلس الذي يعد اليوم أبرز وأهم اتحاد سياسي في منطقة الشرق الأوسط، والذي أظهر صلابة واضحة في وجه تحديات سياسية واقتصادية استثنائية، ويرجع ذلك إلى الاستناد دوماً على سياسات حكيمة ومتزنة تحمل على عاتقها مسؤولية تلبية تطلعات الشعوب، ولا تتخلى عن أهم ميزاتها المتمثلة في نجاح الخليجيين في تحويل روابطهم الأخوية والاجتماعية إلى حقائق سياسية وتنموية، وهو ما لم يحدث في أي نماذج مشابهة من حيث امتلاكها الامتداد عبر المساحة الجغرافية أو انطلاقها من المكونات الإنسانية المشتركة.

هذا الإرث على مستوى العلاقة والهوية، صنع فيما بعد إرثاً على صعيد السياسة، زاده موثوقية ما تمتعت به أجيال من قادة المجلس من سمات قيادية وشخصيات مؤثرة ذات رؤى استراتيجية حكيمة، بجانب ما عرفت به هذه الدول ومواطنوها من تلاحم بين القيادة والشعب، وكانت نتيجة ذلك ثبات هذا الكيان مقارنة بتكتلات إقليمية ودولية تصدعت أو تفرقت رؤاها تحت تأثير الظروف والتحولات المختلفة.

 

عمل مؤسسي

توالت السنوات والعقود، ومجلس التعاون يؤكد تفرد تجربته، بمستوى عال من التنسيق والإنجاز في جميع مراحله، وبالطريقة المتقنة التي تدار بها أولوياته وأعماله، وبينما يواصل الأمناء العامون من أبنائه أصحاب الكفاءة المهنية الفذة قيادة دفة الجهود الطموحة، كُتبت العديد من قصص النجاح، ونشأت الكثير من المشاريع المشتركة ذات العمل اليومي وذات الطابع المؤسسي المستدام، كان المجلس ومازال رحلة اكتشاف مستمرة لما يمكن تحقيقه، ومن ثم تحقيقه.

على المستوى الخارجي، أثبتت الوقائع على مر العقود الأربعة الماضية أن تأسيس مجلس التعاون كان خبراً عظيماً للعالم أجمع، فقد أسس المجلس لمرحلة جديدة من الدبلوماسية الخليجية، كما ظل مجلس التعاون يتصدر جهود الإسهام في إقامة وحفظ السلم الإقليمي والدولي، داعماً أدوار الأمم المتحدة، ومقدماً المبادرات والوساطات لتحييد الصراعات وإعلاء قيم الأخلاق واحترام الإنسان، وكانت دول المجلس حاضرة باستمرار لتقديم الدعم والإعمار والإغاثة لمحتاجيها، في كل أنحاء المعمورة.

ولأن المتغيرات والتحولات جزء من مسيرة التاريخ والسياسة، فقد مر مجلس التعاون خلال السنوات الأربعين الماضية بعدد من الأحداث المفصلية، سواء كان ذلك ضمن محيطه أو ضمن العالم الذي يظل الخليج جزءاً منه، وكانت تلك المنعطفات التاريخية بمثابة اختبارات حقيقية لإثبات صلابة موقف هذا الكيان الذي نشأ على وحدة الصف كمبدأ، وعلى النهج المتوازن الثابت المحتكم لصوت العقل ووحدة المصير في إدارة كل الملفات مهما بلغت في تعقيدها.

تعرضت دولة الكويت للاحتلال، وهي المبادِرة بفكرة مجلس التعاون ومساعيه الأولى، فوقف المجلس معها، وقف الجنود الخليجيين في الصف نفسه، وحشدت الدبلوماسية الخليجية جهود العالم حتى تحقق التحرير.

ومع مطلع العقد التالي فوجئ العالم بأحداث سبتمبر وما تبعها من أحداث إرهابية لم تستثن حتى بعض دول المجلس، فلم يزد الخليجيون إلا قوة وتماسكاً في بيتهم الكبير، وعندما عصفت الثورات باستقرار المحيط العربي، كان لمجلس التعاون وقفته الحازمة محافظاً على الأمن والسلم، ولم يسمح بأي محاولات لتهديد الدول الأعضاء.

وظل مجلس التعاون مؤكداً على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى حق دولة الإمارات في استعادة جزرها المحتلة، وعلى رفض كل تدخلات النظام الإيراني في شؤون المنطقة، وسلوكياته المهددة للأمن الإقليمي، وأخيراً.. شاهد العالم بأسره سياسة البيت الواحد وهي تحتوي الأزمة الخليجية بأعلى درجات الحكمة والدبلوماسية التي تقودها الأخوة الصادقة، حيث لا يفقد الأشقاء الاعتصام إلى ما يجمعهم.

 

منهج سياسي مميز

أربعون عاماً، من “أبو ظبي” إلى “العلا”، كان مجلس التعاون يسير فيها بخطى واثقة نحو العلا باتجاه كل القمم، لقد بلغ أشد التكامل فيما بينه وهو يخرج من كل مرحلة أقوى من التي قبلها، سيسجل تاريخ المسيرة أن الخليجيين قدموا بمجلسهم ما هو أكثر بكثير من تحالف إقليمي، فقد كانت هذه التجربة بمثابة درس جديد في مناهج السياسة، سيسجل التاريخ أيضاً تلك الأدوار النوعية لأجيال من القادة الذين جعلوا الأمل ممكناً، والذين حافظوا عليه قوياً.

لن ينسى التاريخ أن الأزمات التي مر بها المجلس كانت استثنائية وغير مسبوقة بالنسبة له، ورغم ذلك كان أقوى منها، تماماً كما لن تنسى السياسة أن المحيط الإقليمي كان في حالة من التشتت والتفكك في الوقت الذي طرح الخليجيون فيه فكرة الاتحاد، كامتداد تلقائي لحجم التقارب الوثيق فيما بينهم، وكتعبير طبيعي عن الاستعداد الفعلي لمرحلة أعلى.

كان دافع التأسيس متعلقاً في بداياته بحفظ الأمن، ولكن ما حدث فيما بعد أكد أن التنمية هي نتيجة كبرى لهذا الدافع، أصبح السوق الخليجي مصدر القوة الاقتصادية في الشرق الأوسط، ومحرك مؤشرات أسواق الطاقة والمال والاستثمار، وبات الموقع الاستراتيجي منصة لوجستية عالمية تتوسط القارات وتلتقي عندها مسارات التجارة كما عرفها التاريخ، النواخذة الذين عرفوا بصناعة السفن والغوص في خليجهم كمصدر أساسي للرزق، أصبحوا في العصر الحديث يصنعون وسائل التقدم لشعوبهم ولمنطقتهم بعد أن قدموا أنموذجاً متفرداً في العمل المؤسسي المشترك على مستوى العالم، الخليجيون هم الجيران والأشقاء والأقارب والشركاء في الوقت نفسه، هؤلاء الذين وجدوا اللآلئ في جوهرهم الإنساني، وظلت أعماق خليجهم مصدراً أبدياً لكل الخير لهم.