-قيادات المجموعة يتعهدون بحماية الإنسان أولاً.. ويضخون (5) تريليون دولار دعمًا للصحة والعلم والاقتصاد.
-عُقدت القمة “عن بُعد” لتكون في “منتهى القرب” من الشعوب.
كان يوم السادس والعشرين من مارس 2020م يومًا استثنائيـًّا، حيث شهد انعقاد القمة الافتراضية الاستثنائية لدول مجموعة العشرين، عبر تقنية الفيديو، في وقت اتجهت فيه جميع الأنظار الإقليمية والدولية نحو القمة التي جمعت قادة أكبر اقتصادات العالم، يقودهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ليقولوا كلمتهم في ظرف تاريخي لم يشهد العالم له مثيلاً في تاريخه الحديث، وهو تفشي وباء كورونا المستجد (COVID-19) وما ترتب عليه من تداعيات صحية واقتصادية واجتماعية، ألقت بظلالها على أكثر من (170) دولة حول العالم.
بهوية عربية خالصة لا تحتاج إلى الترجمة، تجسدت أولى الرسائل الضمنية للقمة في لوحة فنية تجسد الملك المؤسس للمملكة العربية السعودية، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وهو يربط شماغه بالطريقة الشهيرة المعبرة عن أقصى درجات التأهب والاستعداد لخوض المهام الصعبة، ظهرت مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وهو يتحدث إلى أكثر من عشرين قائدًا ومسؤولاً عالميًّا عن التدابير التي تقود بها المملكة جهود التصدي لهذه الأزمة، بالانطلاق من التزام أخلاقي راسخ تجاه حماية صحة الإنسان أولاً، بوصفها المصلحة الأُولى والأَولى.
هذه القمة التي تُعدّ الأولى من نوعها في الفضاء الافتراضي والأكبر من حيث عدد القادة المشاركين، عبرت عن موقف قيادي وتاريخي مسؤول للمملكة العربية السعودية التي تترأس مجموعة العشرين في هذا العام، وقد وجد انعقاد القمة وتوقيتها تقديرًا كبيرًا من دول العالم ومنظماته الدولية، حيث تزامنت مع دخول انتشار الجائحة العالمية مراحل أكثر تأثيرًا على نطاقات أوسع حول العالم، الأمر الذي واجهته الدول باستنفار لأجهزتها وطواقمها الطبية، كما سُنت مجموعة من القوانين الطارئة للحدِّ من احتماليات العدوى، فيما أعلنت عدة دول مجموعة من الحزم التحفيزية لتدارك أثر التباطؤ الاقتصادي والحد من تداعياته على التجارة والوظائف.
وعلى الرغم من أن الموعد المقرر لقمة مجموعة العشرين في الرياض سيحل في نوفمبر المقبل، إلا أن المملكة العربية السعودية بادرت بعقد هذا الاجتماع الطارئ لإدارة أزمة كورونا، ولم يسبق قبل هذه المرة أن شاهد متابعو الإعلام قمة بين هذا العدد من القادة عبر تقنية الفيديو، وهو ما مثل انتقالاً عمليًّا نحو ما بعد مرحلة الاجتماعات التقليدية التي تجري بين رؤساء الدول وأعضاء المنظمات الدولية.
وأكد خادم الحرمين الشريفين، خلال افتتاح القمة، أن هذه الأزمة الإنسانية تتطلب استجابة عالمية، وأن العالم يعوّل على قادة مجموعة العشرين للتكاتف والعمل معًا لمواجهتها، حيث بدأ كلمته قائلاً: “إننا نعقد اجتماعنا هذا تلبيةً لمسؤوليتنا كقادة أكبر اقتصادات العالم، لمواجهة جائحة كورونا التي تتطلب منا اتخاذ تدابير حازمة على مختلف الأصعدة، حيث لا تزال هذه الجائحة تخلف خسائر في الأرواح البشرية وتلحق المعاناة بالعديد من مواطني دول العالم، وهنا أود أن أقدم لكل الدول حول العالم ومواطنيهم خالص العزاء والمواساة في الخسائر البشرية التي تسببت بها هذه الجائحة”.
الموقف السعودي يرى أن جهود معالجة هذه الأزمة يجب ألا تتوقف فقط عند التعامل مع مضاعفاتها، بل أن تتجاوز ذلك إلى تعزيز مناعة العالم ضد احتمال التعرض لمثيلاتها في مراحل لاحقة، وقد عبر الملك سلمان عن هذا الموقف داعيًا قادة مجموعة العشرين إلى أن يأخذوا على عاتقهم جميعًا مسؤولية تعزيز التعاون في تمويل أعمال البحث والتطوير سعيـًّا للتوصل إلى لقاح لفيروس كورونا، وضمان توافر الإمدادات والمعدات الطبية اللازمة، بالإضافة إلى تقوية إطار الجاهزية العالمية لمكافحة الأمراض المعدية التي قد تتفشى مستقبلاً.
أما على الصعيد الاقتصادي، وفي ظل تباطؤ معدلات النمو واضطراب الأسواق المالية، فقد شدد العاهل السعودي على أن لمجموعة العشرين دورًا محوريـًّا في التصدي للآثار الاقتصادية لهذه الجائحة، مؤكداً “لا بد لنا من تنسيق استجابة موحدة لمواجهتها وإعادة الثقة في الاقتصاد العالمي، وترحب المملكة بالسياسات والتدابير المتخذة من الدول لإنعاش اقتصادها، وما يشمله ذلك من حزم تحفيزية، وتدابير احترازية، وسياسات قطاعية، وإجراءات لحماية الوظائف، ومع أهمية هذه الاستجابات الفردية من الدول، إلا أنه من الواجب علينا أن نقوم بتعزيز التعاون والتنسيق في كل جوانب السياسات الاقتصادية المتخذة”.
كما تطرقت كلمة خادم الحرمين الشريفين إلى الوضع التجاري، حيث أكد على ضرورة أن ترسل مجموعة العشرين إشارة قوية لإعادة الثقة في الاقتصاد العالمي، من خلال استعادة التدفق الطبيعي للسلع والخدمات، في أسرع وقت ممكن، بخاصة الإمدادات الطبية الأساسية، كما أكد الملك سلمان – حفظه الله – أن من مسؤولية مجموعة العشرين مدّ يدّ العون للدول النامية والأقل نموًا لبناء قدراتهم وتحسين جاهزية البنية التحتية لديهم لتجاوز هذه الأزمة وتبعاتها.
أما ختام الكلمة، فقد تضمن قراءة في أحداث التاريخ واستدعاءً محفزًا لمواقفه لتكون دافعـًا في مواجهة التحدي الراهن، حيث قال العاهل السعودي: “لقد أثبتت مجموعة العشرين من قبل فاعليتها في التخفيف من حدة الأزمة المالية العالمية وقدرتها على تجاوزها، واليوم، بتعاوننا المشترك، نحن على ثقة بأننا سنتمكن معـًا – بعون الله – من تجاوز هذه الأزمة والمضي قدمـًا نحو مستقبل ينعم فيه الجميع بالرخاء والصحة والازدهار”.
وقد أكد قادة مجموعة العشرين في بيانهم الختامي، على البدء الفوري في تحقيق استجابة دولية قوية منسقة وواسعة المدى مبنية على الدلائل العلمية ومبدأ التضامن الدولي، والالتزام بتشكيل جبهة متحدة لمواجهة هذا الخطر المشترك، كما أعلنوا عن دعمهم الكامل لمنظمة الصحة العالمية وتعزيز إطار الصلاحيات المخولة لها بتنسيق الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة الجائحة، بدءًا من حماية الأرواح والحفاظ على الوظائف والدخل.
شدد البيان كذلك على الحاجة لاتخاذ إجراءات عاجلة قصيرة المدى لتكثيف الجهود العالمية في مواجهة الأزمة من خلال سدِّ فجوة التمويل في الخطة الإستراتيجية لمنظمة الصحة العالمية، وتعزيز دور الابتكار في دعم جهود مواجهة الوباء، كما اتفقوا على تنسيق الإجراءات فيما بينهم بما يخدم دعم القطاع الخاص وحماية العاملين في الصفوف الأمامية في المجال الصحي، وتقديم المؤن الطبية، وخصوصًا الأدوات التشخيصية، والعلاجات، والأدوية واللقاحات.
أما أبرز قرارات القمة التي اتخذها قادة مجموعة العشرين، على صعيد استعادة العافية الاقتصادية، فقد تمثلت في ضخ (5) تريليونات دولار لحماية الاقتصاد العالمي، كما تعهد القادة بدعم الدول النامية وتنسيق جهود التصدي لآثار جائحة كورونا صحيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وكلفوا وزراء التجارة بتقييم آثار وباء كورونا على التجارة، مجددين الالتزام بالأسواق المفتوحة، وتقوية شبكات الأمان المالي حول العالم، بالإضافة إلى العمل على تقليل الخسائر الاقتصادية والاضطرابات التي تواجه التجارة وسلاسل الإمداد الدولية، وحماية النظام المالي، وتسهيل تدفق السلع والخدمات وضمان حماية العاملين والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، فضلاً عن الالتزام بتقديم موارد فورية لصندوق الاستجابة الإنسانية العالمية لجائحة كورونا.
وقد شارك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، في القمة الافتراضية لدول مجموعة العشرين ممثلاً لدولة الإمارات العربية المتحدة بوصفها رئيسة الدورة الحالية لمجلس التعاون الدول الخليج العربية، وأكد خلال مشاركته أن عقد هذه القمة يؤكد استشعار أعضاء مجموعة العشرين خطورة الموقف، ومسؤولياتهم الدولية خلال هذه الفترة الحرجة على المستوى العالمي، موضحـًا أن المجتمع الدولي بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى التعاون والتكاتف الدوليين للتصدي لفيروس كورونا المستجد في ظل الظروف غير المسبوقة التي أثرت في كل مناحي الحياة على وجه الكرة الأرضية.
كما شارك في القمة أعضاء مجموعة العشرين، إلى جانب قادة الدول المدعوة، والتي تضم المملكة الأردنية الهاشمية، ومملكة إسبانيا، وجمهورية سنغافورة، وجمهورية سويسرا الاتحادية.
وشارك – أيضًا – ممثلو المنظمات الدولية، والتي شملت منظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة البنك الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الأغذية والزراعة، ومجلس الاستقرار المالي، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة التجارة العالمية.
وخلال القمة، قال الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش: “إن مجموعة العشرين أدت دورًا مهمًا خلال الأزمة المالية لعام 2008م، وأشار إلى أن التحديات الحالية تفوق كثيرًا تحديات ذلك العام، مطالبًا بالعمل على المسارين الصحي والاقتصادي معًا، ودعا المسؤول الأممي إلى أهمية العمل المشترك على بناء اقتصاد أكثر استدامة وشمولاً وإنصافًا، مشيرًا إلى أن قيادة المجموعة تحظى بفرصة استثنائية للمضي قدمًا في استجابة قوية للتصدي لمختلف التهديدات التي تنبثق عن فيروس كورونا المستجد لا سيما على مستوى التضامن مع شعوب العالم الأكثر ضعفـًا”.
أعادت هذه القمة إلى الأذهان القمة التي عقدتها مجموعة العشرين منتصف شهر نوفمبر من العام 2008م، في واشنطن وهو ذات العام الذي تمَّ فيه رفع مستوى التمثيل في المجموعة إلى القادة، بالتزامن حينها مع مرور العالم بأزمة مالية كبرى، وقد كانت تلك القمة من أول المؤشرات التي مهدت للخروج من الأزمة، وهو ما يتفاءل به المتابعون اليوم بالنظر إلى حجم وقيمة هذه المجموعة التي ولدت مع مطلع الألفية الجديدة لتكون محرك عمل عالمي مشترك في وجه التحديات، حيث تشكل دولها التسعة عشر بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي ما يمثل (85%) من حجم الناتج المحلي العالمي، و(80%) من التجارة العالمية، فيما يسكن في دولها ثلثا سكان العالم.
وفيما قامت المكاتب الرئاسية للزعماء المشاركين بنشر صور خاصة عبر وكالات الأنباء العالمية من داخل القاعات والغرف التي شارك منها قادة مجموعة العشرين يرافق بعضهم عدد من الوزراء، وصفت هذه القمة عبر وسائل التواصل بأنها “مشهد سينمائي من المستقبل” فضلاً عن كونها القمة الأولى من نوعها في التاريخ، حيث ربط الفريق الذي يضم مجموعة من الشباب والشابات في الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي أكثر من (35) جهة اتصال عبر أوسع شبكة ربط مرئي.
سيتذكر العالم بعد سنوات عديدة أن هذه القمة الافتراضية انعقدت عن بـُعد لتكون في منتهى القرب من أمنيات الشعوب للتغلب على الوباء، وأنها قادت زعماء العالم لصناعة أول أمل تطلعت إليه البشرية في مواجهة هذا الظرف الذي لم يتوقع أحد ما ترتب عليه وما أفضى إليه، سيتذكر الجميع أن بداية الحلّ جاءت من الرياض، ورافقتها صورة فارس عربي ملثم على أهبة الاستعداد.