(الجزء الأول)
مقدمة
تُعتبر الصحافة الاستقصائية لون من ألوان الإعلام الذي يتوخى الكشف عن الحقائق وتسليط الضوء على الانحرافات وأوجه الفساد الذي يعرفه المجتمع، وهي بهذا المسعى تكرس الدور “التحرري” لوسائل الإعلام، وهو المعطى المفاهيمي الذي يترجم ثنائية فلسفة حرية التعبير (نظرة فردية) ومواجهة السلطة (نظرة عامة).
وإزاء هذا الدور القيادي في المجتمع، أضحت الصحافة الاستقصائية اليوم مهنة لها أعرافها وقواعدها، حتى أن أغلب الصحف الغربية خصصت لها أقسامًا ومحررين متميزين قادرين على البحث والتحري والكشف عن قضايا معينة تحدث في المجتمع، خاصة جوانب الانحراف والفساد، ونتيجة لذلك سمي هؤلاء المحررون بـ “المنقبين عن الفساد”.
وعلى الرغم من أن الصحافة الاستقصائية تملك قدرة لا تضاهى على ربط مسؤولين بجرائم معينة، لكنها قد تُنتج أيضًا إحساسًا خاطئًا لدى الناس بأن هناك دومًا تصرفات خاطئة، وهو ما يستلزم أدبيًّا ضرورة نشر التقارير حول التصرفات الخاطئة وتدليل الصحفي المستقصي على وفائه للمهنية والاحترافية.
وهنا تكون المسؤولية الأخلاقية مهمة للغاية، فيمكن أن يؤدي نشر الصحف لاتهامات غير مدعومة بأدلة دامغة إلى نتائج مدمرة لسمعة أفراد ومؤسسات، وفي هذا الصدد يقول وايزيورد (WASWORD)، أستاذ الصحافة في جامعتي راتجرز ونيوجيرسي في الولايات المتحدة الأمريكية: “إن معظم المناقشات التي دارت بين خبراء الإعلام في السنوات الأخيرة حول أخلاقيات الصحافة الاستقصائية تركزت على المنهجية، أي على المقاربة التي يتم بمقتضاها الكشف السليم عن التصرفات الخاطئة. هل يعتبر اللجوء إلى الخداع شرعيًّا عندما يهدف الصحفيون إلى قول الحقيقة؟ هل يمكن تبرير اللجوء إلى أسلوب معين إذا كانت ظروف العمل وصعوبات الحصول على المعلومات تستدعي ذلك؟ هل يجوز للصحفيين استعمال هويات مزيفة من أجل الوصول إلى معلومات؟ …إلخ”([1]).
وبالنظر إلى كل هذه الاستشكالات تصبح مهنة الصحفي المستقصي على قدر كبير من الحساسية والصعوبة([2])، الأمر الذي يجعل الصحفي أدبيًّا أمام حتمية تحري الحيطة والحذر المهنيين في الوصول إلى الحقيقة.
ويعد مفهوم القيم والمعايير المهنية من المفاهيم الجوهرية في الصحافة الاستقصائية، فهي الموجهات التي تحدد خيارات الفرد المهنية، وهي الضوابط التي تحكم اختيار وأداء ومخرجات العمل الصحفي، فما هذه المعايير؟ وكيف السبيل إلى تحقيقها عبر الصحافة المطبوعة السمعية البصرية وكذا الإعلام الإلكتروني؟
قبل أن نستعرض مبادئ وآليات ممارسة التغطية الاستقصائية في الصحافة المكتوبة – وهو محور الجزء الأول من هذه الدراسة – ارتأينا ضرورة الوقوف على معنى الصحافة الاستقصائية وعلى أهميتها بالنسبة للصحفي والعمل الإعلامي.
1-هوية الصحافة الاستقصائية وقيمتها:
تشير الصحافة الاستقصائية (Investigative journalism) في أبسط تعريفاتها إلى ذلك العمل الإعلامي الذي يستهدف كشف أمور خفية للجمهور، أمورًا إما أخفاها عمدًا شخص ذو منصب في السلطة أو اختفت صدفة خلف ركام فوضوي من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها، ويتطلب هذا العمل استخدام مصادر معلومات ووثائق سرية وعلنية([3]).
ويجمع معظم الصحفيين الاستقصائيين، على أن التحقيق الاستقصائي هو عمل صحفي منهجي يقوم به صحفيون أنفسهم من دون الاكتفاء بالمعلومات التي تنشرها وتسربها السلطات الرسمية، وهو يصبو إلى إماطة اللثام عن مشاكل متكررة وليس حادثة واحدة معزولة([4]).
كما يرتكز عمل الصحافة الاستقصائية أساسًا على تفسير قضايا اجتماعية معقدة، ويظهر مفاصل خلل اقتصادية، ويكشف عن الفساد والأعمال المخالفة للقانون والاستخدام السيئ للسلطة([5]).
لهذه الاعتبارات يطلق الكثير من الصحفيين والمحررين البارزين في مجال صحافة الاستقصاء على هذا النوع الإعلامي تسميات عدة، من بينها:
(أ) صحافة العمق: كونها تدقق في المعلومات وتتحقق من مصداقيتها وتغوص في التفاصيل، وتسعى دومًا إلى سبر أغوار الظواهر المجتمعية المختلفة، سياسية واقتصادية أو اجتماعية للوصول إلى الحقائق مستعينة في ذلك بالبيانات والأرقام والأدلة التي تثبت طروحاتها([6]).
فمثلما يدل عليه اسمها تقوم الصحافة الاستقصائية بالتنقيب في القضايا التي تهم المجتمع بطريقة موضوعية ومنهجية لكشف معلومات وحقائق أُريد لها أن تكون خفية أو غير معلنة وتقديمها للرأي العام خدمة لصالح الوطن.
(ب) صحافة البحث عن المتاعب: فهي رحلة بحث يتم التركيز فيها على أدق التفاصيل، ومعاينة الحدث من أكثر من زاوية، والبحث في أبعاده المختلفة وتحليلها بشكل موضوعي حتى يتم الكشف عن مواضع الخلل والفساد([7])، وبهذا التوجه تصبح الصحافة الاستقصائية كما يقول “مارك لي هنتر”، أستاذ الإعلام والصحافة الاستقصائية في جامعة باريس: “بمثابة السلطة التي تراقب أداء المؤسسات الحكومية والمنظمات والشركات بغرض الكشف عن التجاوزات والممارسات الخاطئة وتفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة بما يساعد على تصويب الأوضاع”([8]).
وهو ما يبرر التوصيف الآخر لهذه الصحافة بكونها:
(ج) صحافة المراقبة والتوجيه والتقويم: وهي المهام التي تستهدف متابعة عمل الحكومات والمشروعات العامة والخاصة بقصد الكشف عن الانحرافات والأخطاء التي ترتكب في حق الشعوب([9]).
بهذا المسعى، تجنح الصحافة الاستقصائية إلى الحرص على كشف مختلف الخروقات والانتهاكات التي تهدد المصلحة العامة وتعرقل السير الحسن للمؤسسات.
وهذا ما يجعلها صحافة ذات قيمة في المجتمع، وتكمن قيمتها في أنها:
-تنبيه للسلبيات في الظواهر الاجتماعية وتصحيح للتصورات الخاطئة والمنحرفة والتي يمكن أن يكون لها آثار وخيمة على سير المرافق العامة والقوانين.
-الإسهام في كشف الفساد ودفع أجهزة الدولة لفتح تحقيقات في قضايا الفساد وسوء الإدارة والقوانين وتفعيل المحاسبة وتعديل القوانين.
-تعزيز الثقافة والنزاهة والديموقراطية، من خلال كشف كيفية خرق الأنظمة والقوانين، والمسؤولين عن الأخطاء، وحالات الفساد وتحميلهم المسؤولية.
لكل هذه الأسباب كان لهذا اللون من الإعلام أهمية بالنسبة للصحفي والعمل الإعلامي على حد سواء:
فهي تمثل بالنسبة للصحفي سياقًا مواتيًّا لاختبار مدى تمكنه من تطويع مفهوم القيم الإخبارية وتكريسه لإنجاح العمل الصحفي الاستقصائي.
فالقيم الإخبارية، هي تلك العناصر التي تشترط توافرها في الخبر، أو توافر بعضها في الخبر، لكي يكون خبرًا([10]).
وهذه القيم هي أول ما يسأل الصحفي المستقصي نفسه عندما يحصل على مادة الخبر، فإذا تأكد من توافر بعض القيم في الخبر استمر في جمع مادته وكتبه وقدمه إلى رئيس القسم الذي يعمل له([11]).
ويجمع خبراء الاتصال في هذا المجال على أن القيم الإخبارية الأساسية الواجب توافرها في الصحافة الاستقصائية من دون شك، الآتي:
(1) الأهمية:
تعني هذه القيمة أن ينطوي الخبر على أهمية بالنسبة للجمهور وأن يكون له دور في الكشف الفعلي عن حقائق غائبة، والخبر المهم – كما يقول بول برنيي
(PAUL BERNIER) – “هو ذلك الخبر الذي يتوافر فيه عنصر الفائدة أو المصلحة العامة، وهو الذي يعكف على توضيح مسائل غامضة وقضايا مبهمة بالنسبة للجميع”.
ويعزي بعض الباحثين قيمة الأهمية في الصحافة الاستقصائية إلى الحيثيات المرتبطة بالتحقيق، فهي لا تتعلق بالجدة والآنية كما هو الشأن بالنسبة للوقائع أو الأخبار العادية وإنما هي مرهونة ببلوغ الحقيقة، وعلى هذا الأساس ليست هناك أية حدود للاستقصاء، لا سيما إذا كان مهنيًّا وقانونيًّا ويصب في خدمة الصالح العام ولا يقوم على نوايا مبيتة وعواطف شخصية، فعلى صعيد الزمن يمكن استقصاء الماضي والحاضر وآفاق المستقبل، فالحادث الذي راحت ضحيته الأميرة ديانا في باريس عام 1997م، ما زال ينقب فيه صحفيون استقصائيون من مختلف دول العالم، وكلما توقف فريق عن البحث والاستقصاء ظهر فريق غيره ليواصل المهمة على الرغم من انقضاء مدة زمنية طويلة على الحادث، ومن ذلك مقتل آخر قيصر روسي على يد ثوار أكتوبر عام 1917م، إذ ما زالت التقارير تكتب حتى يومنا هذا بشأن هذه الحادثة([12]).
(2) التفرد أو التميز:
هذا يعني الاهتمام بالمواضيع التي تكتسي نوع من الخصوصية والتفرد، بحيث تؤدي عملية إماطة اللثام عنها إلى الكشف عن أبعاد درامية مثيرة في الواقع، مثل أخبار اختلاس الأموال والجنس والجرائم الخلقية التي ترتكبها بعض الشخصيات المرموقة في المجتمع([13]).
(3) القيمة المضافة:
هي القيمة التي تضفي على الخبر معطيات جديدة غير مألوفة، وهي في الغالب تتعلق بشهادات، إحصائيات، وثائق تدعيمية تزيد في تأكيد الخبر وإثارته([14]).
وإذا ما التزم الصحفي بهذه القيم استطاع أن يرقى بهذا النوع من الصحافة إلى مرتبة العمل الرقابي التخصصي الذي يتسم بالمهنية والذي يمكن أن يصنع رأيا عامًا بين الجمهور، خاصة إذا تبنت نتائجه بعض الجهات السياسية ووسائل الإعلام([15]).
ولا تقف مزايا هذا النوع الإعلامي عند حدود الصحفي فحسب، بل إنها تؤثر إيجابًا على العمل الإعلامي برمته، فهي المعين الذي يستقي منه الصحفي أساسيات الوصول للحقيقة من مصدرها الأصيل، وشروط الوقوف على صدقها من كذبها، تضخيمها من تحجيمها، عمقها من سطحيتها.
كما أنها توجه العمل الإعلامي إلى امتلاك أسباب التحري المنهجي الذي يستند إلى المعايير المهنية والأخلاقية التي تعصم الصحفي من الدخول في الممنوع والمحظور، كانتهاك الخصوصية الفردية وتشويه سمعة الأفراد والمؤسسات من دون أدلة دامغة أو أي شكل من أشكال التعدي على مؤسسات يكون التحري والحكم فيها من اختصاص المحاكم ورجال الأمن([16]).
على هذا النحو، كانت صحافة الاستقصاء بالنسبة للعمل الإعلامي إضافة نوعية وعلامة فارقة في المهنة، فهي ليست منتجًا إعلاميًّا فحسب، بل إنها أكثر من ذلك خدمة تجعل حياة الناس أفضل([17]).
ومن النقاط التي تضاف أيضًا لإيجابيات الصحافة على العمل الإعلامي أنها تضفي عليه سمة المزاوجة بين الصحافة والبحث العلمي في كل مراحل التغطية الاستقصائية بدءًا بتحديد المشكلة، وضع الأسئلة واستخدام الفرضيات، جمع البيانات والمعلومات، ثم اختبار الفرضيات وصياغة تقرير عام للإجابة([18]).
وإذا كانت هذه الاتجاهات هي الخصائص المميزة لكل أنواع التحقيقات الاستقصائية، فإن هناك ما يميز تشكل صحافة الاستقصاء في كل من الصحافة المكتوبة، التلفزيون والإعلام الإلكتروني.
2-مبادئ وآليات التغطية الاستقصائية في الإعلام المكتوب:
تنطلق التغطية الاستقصائية في الصحافة المكتوبة من خبر أو قصة تستدعي الاستقصاء([19])، ويمكن الحصول على القصص الخلاقة (Germinal ideas) من المصادر الخارجية (Outside sources) مثل مصدر المعلومات السرية والزملاء وعناوين بعض المعلومات الأخرى، كما يمكن الاستناد إلى شكاوى المواطنين بخصوص قضايا تهم الرأي العام([20]).
على إثر ذلك، يلجأ المحقق الصحفي إلى استخدام بعض الافتراضات والالتزامات الأساسية ومن ثم التحرك نحو هدف معين، ويعتبر وضع الفرضيات في هذا الإطار أهم وسيلة ذهنية بالنسبة للمحقق، حيث يساعد وضع الفرضية المحقق على تلمس طريق الحقيقة، ويجب أن يستغل وضع الفرضيات كأداة لكشف الحقائق الجديدة وليس كهدف في حد ذاته([21])، وقد يكون إثبات خطأ الفرضية هو إنجاز في حد ذاته.
بعد هذه الخطوة، يمر المحقق الصحفي إلى رسم خريطة الموضوع كمن يريد رسم لوحة مشروع افتراضي قبل التنفيذ، وتسمى هذه العملية أيضًا “وضع الخلفية” في إشارة إلى العثور على ما يقع خلف الموضوع وحوله من معلومات، ويمكن للصحفي أن يستعين في هذه لمرحلة بمجموعة من المحررين أو الصحفيين يقومون بتوزيع العمل فيما بينهم، حيث يتجه كل صحفي إلى جزئيه من الخطة وبعد أن يكتمل ما لديهم من أعمال يجتمعون لصياغة التحقيق في صورته النهائية التي يظهر بها على صفحات الجريدة([22]).
وجدير بالذكر أن هناك مجموعة من الأسس التي يجب أن يأخذها المحررون بالاعتبار عند رسم خريطة لإجراء تحقيق استقصائي في الصحافة المكتوبة، وهي:
أ-اسم مختصر أو كلمة واحدة لكل جزء في التحقيق.
ب-وصف موجز لموضوع التحقيق في صفحتين أو ثلاث.
ج-الوقت اللازم لإعداد التحقيق وتاريخ نشره، وموقعه في الصحيفة.
د-توقيت الحد الأقصى للانتهاء من التحري أو الاستقصاء.
هـ-تحديد الصور والرسوم البيانية وغيرها من الجوانب الفنية التي سوف يتم إضافتها للتحقيق الصحفي كشواهد ثبوتية.
إن الالتزام بهذه الأساسيات والمبادئ هي من الضوابط الفاعلة التي تؤطر المرحلة الحاسمة في إخراج التقارير.
3-كتابة التحقيقات الصحفية:
تعد كتابة التحقيق الصحفي واحدة من المحطات المهمة في إخراج العمل الاستقصائي، لذا فهي تتطلب معرفة جيدة بصياغة التقرير الإخباري وأسلوب الحديث الصحفي والإلمام بتقنيات الربورتاج (تجميع المشاهد)، لأن المحرر في مثل هذه الحالات سيكون بحاجة إلى استخدام كل الأجناس الصحفية في التحقيق الواحد، ويجب التفرقة في هذا الخصوص بين التحرير – أي اختيار القالب الفني – وبين أسلوب كتابة التحقيق.
ومعروف أن القالب الفني في مجال فنيات التحرير هو الكيفية التي يتم بمقتضاها ترتيب المعلومات والبيانات والتصريحات ترتيبًا منطقيًا داخل بناء التحقيق، وتوجد ثلاثة قوالب فنية لكتابة التحقيقات الاستقصائية يقوم جميعها على أساس البناء الفني للهرم المعتدل، وكل قالب يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية هي: مقدمة التحقيق، جسم التحقيق، خاتمة التحقيق([23]).
ويتفق الباحثون في مجال فنيات تحرير الاستقصاء المكتوب على وجود ثلاثة قوالب رئيسية شائعة في صياغة التحرير في الصحافة المكتوبة، هي على التوالي:
(أ) قالب العرض الموضوعي:
يعرض فيه المحرر الصحفي القضية أو المشكلة التي يتناولها التحقيق بشكل موضوعي من خلال مقدمة تعمل على إثارة اهتمام القارئ بالموضوع، ويقوم على عرض الزوايا الرئيسية في الموضوع ثم التدرج في عرض باقي الزوايا وفقًا لأهمية كل منها، وتعد تغطية صحيفة “واشنطن بوست” لفضيحة “واترجيت” نموذجًا بارزًا على هذا القالب الفني.
(ب) قالب الوصف التفصيلي:
يقدم فيه المحرر الصحفي في مستهل التحرير إما وصفًا للحدث بصورة عامة وسريعة أو وصفًا لجزء بارز منه ويترك الوصف التفصيلي للجسم، وتأتي خاتمة التحقيق للربط بين تفاصيل الحدث، وهو القالب الذي طبقته التحقيقات الصحفية الأمريكية في فضيحة “وايت وتر” (White water) المتعلقة بتوجيه اتهامات إلى كل من بيل كلينتون وزوجته هيلاري بالتورط بقضايا خاصة بالفساد والرشوة أثناء مشاركة كل منهما في أحد مشروعات التطوير العقاري في منطقة “وايت وتر” بالولايات المتحدة الأمريكية([24]).
(ج) قالب السرد القصصي:
يلجأ المحقق في كثير من الأحيان إلى كتابة التحقيق الصحفي على هيئة قصة تشبه تمامًا القصة الأدبية من حيث أسلوب السرد الصحفي ولا تختلف إلا في كونها تقوم على وقائع حقيقية وليست أحداث من نسج خيال الكاتب.
وتستند كل رحلة استقصائية مبنية على سرد غني إلى أربعة أركان قوامها حروف (C) المعروفة، وهي:
1-الشخصيات (Caracters): حيث يقدم المحقق وصفًا عنها، الدخول بتفاصيل تظهر حالاتها والبحث عن شيء بارز فيها.
2-السياق (Context): ويتضمن الوصف والتحديد الدقيق للإطار الزماني والمكاني لحيثيات القصة.
3-الصراع (Conflict): وهو الجزء المشوق في القصة، فإن لم يكن هناك صراع فلا وجود لمعنى القصة، بل إن هذه المرحلة المرتبطة بالذروة وتصاعد الأحداث هي التي تعطي قوة وأهمية للقصة الصحفية، فهي عنصر المفاجأة الذي يشد انتباه القارئ، وهي الحبكة التي تستبطن تبعات القصة وباقي تفاصيلها المهمة([25]).
4-الخاتمة (Conclusion): وهي الإطار الذي يتم فيه تلخيص النتائج وإظهار مخرجات المساءلة التي تضمنها السرد الصحفي.
وجدير بالذكر أن مثل هذا القالب قد وظف بشكل واسع في تغطية الانحرافات التي تورطت فيها الحكومة الأمريكية والتي غالبًا ما يتم دفنها في الصفحات الداخلية، في حين تظهر القصص المثيرة للمشاعر والأحاسيس في الصفحات الأولى([26]).
ومهما تكن طبيعة القالب الفني المعتمد لا بد على الصحفي الاستقصائي فحص الملاحظات جيدًا، واختيار الأدلة، وربط الأجزاء واستنتاج الصلات واختبار الجانب الأخلاقي عندما لا يشعر بالراحة تجاه تلك الحقائق.
فهذه المعايير المهنية والأخلاقية هي وحدها الحاسم في الحكم على موضوعية واحترافية أي تغطية استقصائية سواء كانت في الصحافة المكتوبة، أو في الإعلام السمعي البصري أو الإلكتروني، كما سنبرزه في الجزء الثاني من هذه الدراسة، إن شاء الله.
الهوامش:
([1]) Pierre Vinieu, le monde d’investigation, Paris, Edition Dunod, 2009, P11
([3]) Joseph Turow, an introduction to investigative journalism, Houghton Muffin company, USA, 2010, P17.
([5]) Paul Bernier, journalisme d’investigation, role enjeux, Edition Gallimard, Paris 2013, P43.
([6]) Pierre Vinieu, le monde d’investigation, op, cit, P36.
([9]) Ray Hiebert, principales and technique of modern journalism, Rootledge, London, 2005, P61.
([10]) علي دنيف حسن، دور الصحافة الاستقصائية في مكافحة الفساد المالي، دار الكتاب الجامعي، العين، 2005م، ص21.
([12]) John Vester Stall, objective news reporting communication research, Rootledge, London, 2008, P35.
([14]) Paul Bernier, journalisme d’investigation, op, cit, P113.
([18])Yvonne T. Chue, investigative journalism as academic research output? Asia Pacific, media education, Sage, New York, 2015, P13.
([19]) بشرى حسن الحمداني، التغطية الصحفية الاستقصائية تحقيقات عابرة للحدود، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، 2013م، ص 28.
([20]) Edward Wasserman, Investigative reporting, strategies for its survival, Sage, New York, 2017, P118.
([21]) Mark Lee Hunter, Story-based inquiry, unesco, France; 2011, P14.
([22]) Mark Lee Hunter, The global investigative journalism casebook; unesco, France, 2012; P12.
([23]) هالة حمدي حسن غرابة، دوافع تعرض الشباب الجامعي للتحقيقات الاستقصائية في الصحف الإلكترونية وعلاقتها باتجاهاتهم نحو قضايا الفساد، العربي للنشر والتوزيع، 2013م، ص124.
([24]) Jim Ongorwo, investigative journalism kinds and ethics, Rootledge, London, 2019, P317.