عاش الإعلام المرئي والمسموع عبر أقل من نصف قرن مضى، بخاصة محطات التلفزيون والإذاعة ومؤسسات الإنتاج المتخصصة في مجالها، مفارقتين متضادتين جمعتا بين معادلتي الربح والخسارة أو الصعود والهبوط.
ففي بداية هذه الحقبة ‒ وتحديدًا في ثمانينيات القرن الماضي ‒ سلـّم الجميع بأن الإذاعة والتلفزيون بلغتا ذروة فترة ذهبية واعدة مبعثها انتشار تقنية البثِّ الفضائي الذي طالما حلم به العالم أجمع، وعند مشارف هذه الحقبة التي لم تعمر طويلاً أصيبت الوسيلتان بصدمة مخيبة للآمال، وكأنما أراد التطور التقني الذي صعد بهما إلى القمة أن يقلب لهما ظهر المجن، حين باغتهما وباغت قطاعات عديدة بابتكار الإنترنت التي نقلت حقل الاتصال بكافة تشعباته إلى فضاء جديد، مستندة في ذلك على تحويل نظام الوسائل الإعلامية الخطي المقنن (Analog) بشكل رأسي أو أفقي إلى عالم رقمي (Digital) يتمدد في كل اتجاه، فأحدث هذا التحول المذهل تمردًا ‒ لا يمكن كبحه ‒ على خصوصية كل وسيلة وقيمتها التي تميزها عن غيرها كما كان عليه حال الفضاء السابق، وقاد هذا التحول كذلك، عبر الإنترنت ‒ التي إن كان لعالم الاتصال قائمة عجائب، فهي تستحق أن تتصدرها ‒ إلى فتح الحدود الحصرية بين الوسائل على مصراعيها، وبات من الخطأ لأي وسيلة أن تبق وحيدة مقيدة، في محيط تحطمت جدرانه، بخواص سماتها أو نوعيتها (المطبوعة، والمسموعة، والمرئية)، فهي لم تعدّ تملكها، واتسعت رقعتها التنافسية لتتجاوز الوسائل المصنفة معها في محيطها إلى غيرها، وضاعف من التحدي الهائل حقيقة مفادها أن الفضاء الرقمي لم يأت ليبتلع كافة الوسائل السابقة فحسب، بل ليغير في الأشكال التي تُقدَّم بها موادها كذلك، سواء في مجال النشر الصحفي أو البثّ الإذاعي والتلفزيوني، أو حتى الاتصالات الشخصية عبر الهاتف أو البريد ونحوه، وعامل هذا الفضاء كل مـّن يسبح في أجوائه أفرادًا كانوا أو مؤسسات على أنهم شخصيات مستقلة متساوية قادرة على المشاركة في العملية الاتصالية بأي طريقة يختارونها، بما في ذلك ما كان إلى وقت قريب خاص بكيانات صناعة الإعلام، وعزز من دخول الجميع إلى أجوائه أنه أتاح لهم بتكاليف زهيدة جدًّا أن يتنقلوا بين جنباته كيف شاؤوا، ومتى أرادوا.
هذا التمهيد يُعدُّ خلفية مهمة لمن يريد ترتيب أوراقه، ويبقى حاضرًا في صناعة الاتصال عمومًا، والإعلام بوجه خاص، كما أنه ضروري للتأكيد على أن العيش في الماضي وعدم التسلح بثقافة التطور ذاته هو المعوق الحقيقي الذي ينتهي تدريجيـًّا إلى طريق مسدود، ذلك أن إدراك تفاصيل البيئة الجديدة هو الخطوة الأولى للوصول إلى الإعلام المطور الذي بانت ملامحه، ولم يتشكل كليًّا بعد.
لابد أن يعرف مـَن يريد التطوير فعلاً أن تخصصه شهد تحولاً حادًا من فضاء إلى آخر مختلف في الخصائص والسمات، ولم يكن الأمر مجرد حلول وسيلة جديدة تضاف إلى وسائل أخرى، وهو تحول أدى إلى حدوث مطبات عنيفة غير مسبوقة في مسار وسائل الإعلام التقليدية من بينها الإذاعة والتلفزيون، وعلى الرغم من أن تطوره السريع كان كافيًا للتحذير من احتمالات السقوط المريع في مغبة نسب ومستويات الاستماع والمشاهدة المتدنية، إلا أن السواد الأعظم من محطات الإذاعة والتلفزيون والقائمين عليها لم يتعاملوا بشكل جدي وبواقعية مع الظاهرة الجديدة، فعلاوة على أنهم لم يعززوا الجانب المعرفي لديهم بإعلام مطور حتمي الظهور، فإنهم لم يبادروا إلى استثمار التغيرات لصالح وسائلهم، واستمرت في أدائها الرتيب ولم تكن جزءًا من التغير، ففاقم من المشكلة أنها تركت المجال في ذلك لهواة قدموا أنفسهم على أنهم الإعلاميون الجدد، فأصبحت الوسائل التقليدية في موقف المدافع من دون تقييم دوري لواقع الحال.
إن مـَن يظن أن الإذاعة والتلفزيون وصلتا إلى طريق مسدود، وهم كثر، نسي أو تناسى لسبب أو لآخر بأن هاتين الوسيلتين العريقتين هما الموطن الأصلي للأشكال التي دخلت من خلالها أدوات شبكات التواصل الجديدة المعتمدة على الصوت أو الفيديو أو كلاهما، مثل: “البودكاست، والسناب شات” إلى الحقل الإعلامي، واستطاعت عبر أفراد من الهواة، وفي فترة وجيزة، أن تجذب شريحة كبيرة من الجماهير، فاستقطعت نسبة لا يستهان بها من حصص الاستماع الإذاعي والمشاهدة التلفزيونية.
حدث هذا على الرغم من غياب المهنية والمصداقية التي لا تتوافر لدى تلك الأدوات، ولكنها، وعبر خصائص جديدة، منها اختصار المادة وعفويتها وخلوها من الرتابة وغيرها مما يجب بحثه، باتت وبمساعدة شبكات التواصل الأخرى، وبتقاعس أو تهيُّب أصحاب الصنعة الأصليين أنفسهم، تسحب البساط تدريجيًّا من وسائل يتوافر لديها رأس مال مادي ومعنوي لم يُعاد استثماره كما يجب.
فعلى الإذاعة والتلفزيون، كي يعززا من مكانتهما في العصر الرقمي، أن يُعيدا حساباتهما في ضوء القيم المضافة التي جاءت بها الأدوات المسموعة والمرئية في شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك انطلاقـًا من حقيقة فحواها أن الفورة التي أحدثتها أدوات التواصل المسموعة والمرئية في بيئة الإعلام الرقمي، شكلت منجمًا ثريًا للإذاعة والتلفزيون لتحديد كيفية التطوير الذي تحتاجانه، ويكفي أنه يزخر بموهوبين ومهرة كان يصعب عليهما في السابق الوصول إليهم، وبالتالي فإن استثمار هذا المنجم الفريد حري بأن يرد لهما جزءًا من اعتبارهما، وكي تتمكنا من ذلك لابد لهاتين الوسيلتين من الاستعانة بباحثين متخصصين ومهنيين محترفين قادرين على البحث بدقة في الخصائص التي مكّنت الأدوات المسموعة والمرئية من تحقيق شعبية جارفة، فتضيفا تلك المزايا الجديدة إلى مقوماتهما البشرية والفنية والتقنية الضخمة التي لا تزالان تمتلكانها، بما في ذلك موادهما الأرشيفية التي لا تنافسهما فيهما وسائل أو أدوات أخرى.
خلاصة القول: إن دخول الإذاعة والتلفزيون للفضاء الجديد بطريقة مدروسة بعيدة عن الاجتهادات، كفيل بأن يبقيهما وسيلتين أصيلتين، وعليهما ألا تبقيا ‒ كما هو عليه الحال الآن ‒ أسيرتين لثقافة عملهما السابقة التي اقتاتت عليهما لسنوات، إذ إن ذلك سبب رئيس من أسباب ضعفهما الحالي، فقد آن الأوان للبحث عن عناصر قوة جديدة (متوافرة) فرضتها طبيعة العصر الرقمي.