الولادة الجديدة للتلفزيون: من الذكي إلى الاجتماعي

د. نصر الدين لعياضي

لم تنته توقعات المتنبئين بنهاية التلفزيون، فبعد صدور كتاب “جون لويس ميسيكا” بعنوان: (نهاية التلفزيون) في عام في 2006م، تزايد عدد الذين اقتنعوا بأن نهاية القنوات التلفزيونية ستكون على يد شبكة الإنترنت، لكن المبتكرات التكنولوجية والجهد الاجتماعي المبذول لتكييفها مع البيئة الاتصالية التي أفرزتها شبكة الإنترنت كذّب توقعاتهم، فقد شرعت العديد من القنوات التلفزيونية في بثِّ برامجها عبر هذه الشبكة وفق أنماط مختلفة: “البث المباشر لبرامجها”؛ أي متابعة البرامج التلفزيونية ساعة بثـّها عبر حوامل مختلفة: “الكمبيوتر المحمول، واللوح الرقمي، والهاتف الذكي”، والبث الاستدراكي؛ أي تمكين المرء من مشاهدة ما فاته من برامج تلفزيونية في الوقت الذي يفضله وحيثما يوجد، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج الوثائقية ضمن خدمة “الفيديو حسب الطلب” (Video on demand) وفق نظام اشتراك معلوم.

التلفزيون الذكي
تعززت هذه المرحلة الجديدة من ولادة التلفزيون باختراع جهاز التلفزيون الموصول بشبكة الإنترنت أو ما أصبح يُعرف بالتلفزيون الذكي، والذي يجمع ما بين جودة الصورة في الشاشة المسطحة، والمبادئ الوظيفية لجهاز الكمبيوتر، حيث يستطيع المرء أن يتابع برامج تلفزيون قناته المفضلة ساعة بثـّها، ويحصل على فيديو وفق الطلب، ويبحر في شبكة الإنترنت، ويستمع إلى الأغاني المسجلة، ويقوم بتحميل الملفات (السمعية/البصرية)، فهذا التطور الذي شهده التلفزيون لم يؤد إلى موته، بل بالعكس ضاعف عدد قنواته، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ارتفع عددها  ليبلغ (200) قناة تلفزيونية بعد أن كان لا يتجاوز (50) قناة في عام 1999م.

على ضوء هذه التطورات التي عرفها التلفزيون راجع المتوقعون بنهايته تصورهم لمستقبله، فأكدوا أن المقصود من نهاية التلفزيون ليس موته، بل نهاية نموذج التلفزيون الذي ساد قبل نهاية القرن الماضي، والذي يفرض على المشاهدين متابعة ما يعرضه في المواعيد التي يختارها، ولا سبيل لمشاهدة ما فاته إلا انتظار موعد إعادة بثـّه، والجهاز الذي لا يمكن مشاهدة برامج التلفزيون من دونه.

بعبارة أخرى، إن القصد من نهاية التلفزيون هو نهاية مسار نموذج من التلفزيون وليس التلفزيون ذاته؛ أي التلفزيون العمودي الذي يفرض على مشاهديه برامج معينة وميقات بثـّها، ليحلّ محله نموذج آخر “التلفزيون الأفقي”، الذي يجسد رغبات مشاهديه؛ أي مشاهدة ما نريد أن نشاهده في الوقت الذي نرغب وعبر الوسيلة التي نفضلها وحيثما نكون (تلفزيون يتجه إلى الفرد)، وهذا خلافـًا للتلفزيون التقليدي الموجه للحشد الغفير، والخاضع لمنظومة المؤسسة أكثر من تكيفه مع متطلبات الفرد ومزاجه.

عودة التوقعات
عادت التوقعات بنهاية التلفزيون من جديد، بخاصة بعد أن اقتحمت مواقع التواصل الاجتماعي مجال التلفزيون إنتاجـًا وبثـــًّا، وهي تملك ما يرشحها للتفوق على القنوات التلفزيونية لكونها تعرف جيّدًا مستخدميها، ففي كتابه المعنون:  “التلفزيون” يؤكد “برينو بتينو”، المدير السابق للبرامج والقسم الرقمي في التلفزيون الرسمي الفرنسي، أن موقع شبكة “تويتر” اشترى حقوق البث الحصري لعشر مقابلات في كرة القدم الأمريكية، وقامت الرابطة الأمريكية لكرة السلة، من جهتها، ببث المقابلات التحضيرية للفريق الوطني الأمريكي لكرة السلة مباشرة على “الفيسبوك” ويضيف قائلاً: “إن مواقع التواصل الاجتماعي ستكون المنافس القوي للقنوات التلفزيونية في شراء حقوق بثِّ المقابلات الرياضية التي ترتفع أسعارها من سنة لأخرى نظرًا لإمكاناتها المالية الضخمة”.

فبعد خدمة (Originals YouTube)، و(IGTV) في موقع (Instagram)، و(Facebook Watch) التي تتنافس بها مواقع التواصل الاجتماعي على تقديم فيديوهات ومحتويات سمعية بصرية أصيلة، فتح موقع “سناب شات” بوابة مخصصة للبرامج التلفزيونية المتنوعة بما فيها الأصيلة، وبهذا انتقلت مواقع التواصل الاجتماعي من مرحلة  بثِّ البرامج التلفزيونية وشرائط الفيديو وعرضها إلى إنتاجها، والدليل الأكبر على ذلك أن موقعي “تويتر” و”فيسبوك” شاركا في السوق الدولي لبرامج التلفزيون والترفيه (MIPCOM) ، والذي يُعدُّ أكبر سوق للمنتجات التلفزيونية يجمع كل سنة (12) ألف مهني مختص في الصناعات التلفزيونية ومواد الترفيه الذي انعقد في أكتوبر 2018م بمدينة كان الفرنسية.

لقد عبر “ماتيو هنيك” المسؤول عن إستراتيجية المحتوى في الشركة المالكة لـ”فيسبوك” عن هذا التوجه بالقول: “لقد اخترنا إنتاج المحتويات لنقدم أفضل مثال عن ما نستطيع فعله بأدواتنا”، بالطبع لم يقل هذا المسؤول أن هذا الاختيار فرضه التحوّل الحاصل في عادات مشاهدة المواد (السمعية/البصرية)، بخاصة لدى النشء الصاعد، فالوقت المخصص لمشاهدة شرائط الفيديو والمحتويات التلفزيونية عبر الهاتف الذكي وداخل البيت قد ازداد بنسبة (85%) لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين(16 ‒ 19) عامـًا خلال الفترة الممتدة من (2011 ‒ 2015م) في العديد من دول العالم المتقدم، بينما تناقص عدد الساعات التي يقضونها أمام شاشة التلفزيون بـ(50%).

هذا التحوّل في عادات المشاهدة والذي بنت على أساسه مواقع التواصل الاجتماعي إستراتيجيتها الاتصالية دفعت المختصين للتساؤل: هل سنضطر إلى التوجه إلى موقع “فيسبوك وتويتر” من أجل مشاهدة برامج التلفزيون في المستقبل؟

شاشتان
ظلت قراءة مستقبل التلفزيون أحادية الجانب، بمعنى أنها اقتصرت على  الكشف عن استفادة مواقع التواصل الاجتماعية وبقية المنصات الرقمية من التلفزيون، ولم تر الجانب الآخر؛ أي رؤية مدى استفادة التلفزيون من هذه المواقع.

لقد قَدَّر أرباب الشركات العملاقة المالكة للقنوات التلفزيونية الخدمة الجليلة التي يمكن أن تقدمها لهم مواقع التواصل الاجتماعي خير تقدير، كانوا يدركون أن البرامج الإخبارية والحوارية والمسلسلات التلفزيونية والأفلام والمقابلات الرياضية التي تبثـّها القنوات التلفزيونية تستحوذ على حصة الأسد في المناقشات التي تجري في أماكن العمل والدراسة وفي المقاهي والأندية، لكنهم لاحظوا اليوم أن هذه المناقشات أصبحت تجري بشكل متزامن مع بثِّ المادة التي تثير النقاش، وهذا بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، فمن يشاهد البرامج التلفزيونية عبر الشاشة الصغيرة أصبح يمسك بيده شاشةً أصغر، شاشة الكمبيوتر المحمول أو اللوح الإلكتروني أو الهاتف الذكي، ليعلق على ما يشاهد أو للرد على تعليقات أصدقائه على ما يشاهدون، أو للتصويت على برنامج المسابقات التلفزيونية، أو طرح سؤال على ضيوف البرامج الحوارية، وغيرها من الأنشطة التفاعلية.

هذا التفاعل الظاهر هو ثمرة التعاون الذي أصبح قائمـًا بين القنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي، ففي هذا الإطار بادرت العديد من القنوات التلفزيونية ببثِّ برامجها عبر هذه المواقع، إذ يذكر أن القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي تبث بعض برامجها الإخبارية القديمة والألعاب والمسابقات التلفزيونية عبر موقع “يوتيوب”، وأبرمت قناة (MTV) الأمريكية عقد تعاون مع موقع شبكة “فيسبوك” لإطلاق برنامجها التلفزيوني الشهير (The Real World) (العالم الحقيقي)، وهو من أوائل برامج تلفزيون الواقع التي دأبت هذه القناة على بثـّه منذ أزيد من عقدين، وقد برّر “كريست كارتي”، مدير هذه القناة التلفزيونية، هذا الشكل من التعاون بالقول: “يجب أن نغير ذاتنا ونبدع، وننسى كل ما تعلمناه في السابق من أجل إنشاء قناة (MTV) جديدة كليًّا تخاطب الجيل الجديد”.

اشترى موقع شبكة “تويتر” شركة (Snappy TV) الأمريكية والمختصة في إنتاج وتقاسم محتويات البرامج التي تبثـّها القنوات التلفزيونية، لقد مكّنت هذه الشركة الموقع المذكور من إدماج أفضل محتويات الفيديو في شريط الأحداث والمناقشات الآنية التي تدور بين مشتركيه على ما يشاهدونه عبر شاشة التلفزيون مباشرة وتوزيعها على الحوامل المتنقلة، ليس هذا فحسب، لقد قام الموقع ذاته بشراء الشركات المختصة بقياس نسبة مشاهدة القنوات التلفزيونية والومضات الإعلانية وتأثيرها في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل شركة (Gnip) الأمريكية، و(Mesagraph) الفرنسية، و(Second Sync) البريطانية

ويمكن لأي متابع أن يلاحظ الإعلانات التي تظهر باستمرار على شاشات بعض القنوات التلفزيونية الأجنبية في اللحظات الحاسمة من بثِّ برامجها والغرض منها هو زيادة نسبة انتشارها لدى مستخدمي موقع “تويتر”، ففي قناة التلفزيون الفرنسي الأولى تظهر هذه الإعلانات في برامج المسابقات وتلفزيون الواقع، مثل: (The Voice) )الصوت( و” Secret story” (قصة سرية) التي تحظى بشعبية واسعة لدى مستخدمي شبكة الإنترنت، بينما ترفع (Canal+) الفرنسية الإعلانات في برامجها الرياضية مستهدفة الجمهور الرياضي، وقامت قناة “كوميدي سنترال” الأمريكية، من جهتها، ببثِّ “كبسولات” هزلية متلفزة يعلق فيها الممثلون على التغريدات التي حظيت بأكبر قدر من “التعليقات”.

ونظرًا للمكانة التي أضحت تحتلها البرامج التلفزيونية في موقع شبكة “تويتر” لم يتردد البعض في  نعت هذا الموقع  بالحجرة التي ترجع للتلفزيون صداه الاجتماعي!

كل هذه الأمثلة تؤكد بأن علاقتنا بالتلفزيون تغيرت على ضوء تطور استخدامنا لمواقع التواصل الاجتماعي وبقية المنصات الرقميّة، وفي ظل هذا التغيير برز “المشاهد متعدد المهام”، أي الذي يشاهد شاشة التلفزيون ويده على هاتفه الذكي أو لوحه الإلكتروني يعلق مباشرة على ما يشاهده، أو يكبس على زر “التشارك” أو يهتف للتصويت على المتسابقين في البرنامج التلفزيوني الذي يشاهده أو يقرأ الرسائل القصيرة التي وصلته على “الماسنجر”.

التلفزيون الاجتماعي (Social TV)
تُعدُّ هذه الممارسات التي أثرت خبرتنا التلفزيونية الأرضية التي أسست ما يسمى بــ “التلفزيون الاجتماعي”، الذي يعرفه المجلس الأعلى (السمعي/البصري) الفرنسي بأنه: “مجمل التكنولوجيات التي تثري المحتويات التلفزيونية، وتعزز تفاعل المشاهد مع المحتوى الذي يشاهده أو يرغب في مشاهدته، والتفاعل بين المشاهدين حول المحتوى ذاته”، فالمشاهد انتقل إلى قلب العملية الاتصالية التي تصقل تجربته التلفزيونية عبر العديد من الوسائط التي يمكن أن نسميها تجاوزًا “الميديا السائلة”، لو سايرنا ما ذهب إليه عالم الاجتماع “زيجمونت بومان”، والتي تشكل البيئة الإعلامية الجديدة.

يعتقد البعض أن “التلفزيون الاجتماعي” يعمل على جلب المشاهدين للقنوات التلفزيونية الكلاسيكية بفضل مواقع الشبكات الاجتماعية، وهذا أمر لا يجانبه الصواب، وينفي القول: إن مواقع الشبكات الاجتماعية تنافس التلفزيون، لكن غاية التلفزيون الاجتماعي كما تجلت في الممارسة في المجتمعات المتقدمة هو الرفع من شأن الدور الاجتماعي للتلفزيون، ومنح قيمة مضافة لعملية المشاهدة التلفزيونية للبرامج ساعة بثـّها مباشرة والتي تكمن في إثرائها بالتعليقات عليها ومناقشتها وتأويلها.

إن فاعلية التلفزيون الاجتماعي لا تقاس بالكم، مثلما تعبر عنه عملية قياس مشاهدة برامج قنوات التلفزيون الكلاسيكي، بل تقاس بمدى تغلغله في النسيج الاجتماعي ووصوله إلى الفئات التي كفت عن مشاهدة القنوات التلفزيونية لأسباب مختلفة، وبلوغه الجيل الذي يُعرف بـ”أبناء الويب”، فهذا الجيل المرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي لا يختصر في الأفراد المتناثرين جغرافيًّا؛ لأنه جماعات اجتماعية تربطها وشائج مختلفة، يتقاسم أفرادها الهواية ذاتها، وتجمعهم الدراسة أو المهنة أو ممارسة الرياضة، هكذا تستطيع القنوات التلفزيونية أن تعدل برامجها مع جمهورها وبه نتيجة ما تمدّها به مواقع التواصل الاجتماعي من معلومات دقيقة عنه، التعديل الذي يوجد علاقات مع جمهورها الجديد ويمتن علاقاتها بالجمهور المكتسب.

وتأسيسـًا على ما سبق، ألا يمكن القول: “إن التلفزيون الاجتماعي يعتبر ولادة ثالثة للتلفزيون”؟