في عام 2012م لاحظ الشاب “بالمر لوكي” ضعف نظارات الواقع الافتراضي المتوافرة في العالم، كانت آنذاك تعاني من كبر حجمها وضعف أدائها وارتفاع سعرها، ومساحة محدودة لمشاهدة المحتوى، جمع “لوكي” (50) نظارة واقع افتراضي مصنعة من التسعينيات واشتراها بمبلغ (39) ألف دولار، كان قد جمعها من عمله في إصلاح أجهزة الهواتف الذكية.
قرر بمعاونة عدد من أصدقائه إنتاج نسخة أولية لنظارة واقع افتراضي في جراج منزله، ثم أعد محتوى مرئي يشرح واقع ومستقبل التقنية، تلتها حملة لتمويل إنتاج نظارة “أوكيولس ريفت” عبر منصة التمويل الجامعي (Kickstarter).
كانت الإستراتيجية تعتمد على محورين، الأول الدعم المادي (التبرع)، بينما الخيار الثاني الشراء قبل الإنتاج، ونجح “لوكي” في جمع (2,5) مليون دولار خلال بضعة أيام، ما أعطى مؤشرات إيجابية للمشروع الريادي الناشئ.
الانطلاقة
نجحت المرحلة الأولى في توفير نموذج عصري لنظارات الواقع الافتراضي، ثم بدأت تطور الشركة الناشئة نظارات الواقع الافتراضي حتى استحوذت عليها شركة “فيسبوك” بعد أربع سنوات، في صفقة قدرت بملياري دولار، وشككك حينها بعض المراقبين بمبلغ الصفقة، وأعلن الرئيس التنفيذي لفيسبوك “مارك زوكربيرج” أن تقنية الواقع الافتراضي والمعزز ستكون جزءًا من حياة الناس اليومية.
اليوم تُعدُّ شركة “أوكيولس” من أهم شركات إنتاج نظارات الواقع الافتراضي، حيث تصنع نوعين رئيسين من النظارات ذاتية لا تحتاج لهاتف أو حاسب لتشغيلها، وأخرى مرتبطة بالحاسب الآلي، فالنوع الأول مهم جدًّا ومناسب لأغلب مستخدمي التقنية لسهولة استخدامها، بينما النوع الآخر يستخدم بشكل رئيس في مجال الألعاب الاحترافية وفي قطاع الأعمال.
التاريخ يعيد نفسه
تقنية الواقع الافتراضي ستغير العالم مثلما فعل الحاسب قبل عقود من الزمن، ويدعم ذلك محورين رئيسين: الأول على مستوى الإنتاج، ويتمثل في الانخفاض التدريجي للتكلفة والتطوير المستمر، والذي يقلل من حجم النظارة ويزيد من مساحة المشاهدة، والمحور الثاني ما تملكه التقنية من عوامل تجعل من النظارة أكثر تأثيرًا من وسائط عرض المحتوى المتوافرة حاليًّا، ويتمثل ذلك في عدم وجود عنصر وسيط، وهو عادة ما يكون المحرر أو المصور الذي ينقل الحدث، ما يسهل على المشاهد أو المستخدم المشاهدة بمستوى (360) درجة، ما ينتج عنه تصور حقيقي للمشاهدة، وهي نقطة تحول كبيرة في صناعة المحتوى.
من ناحية أخرى، هناك عوامل عدة نجحت في تعزيز تجربة المستخدم للتقنية، تتمثل في وجود أكثر من (10) منصات لاستخدام الواقع الافتراضي، تحوي أكثر من (4) آلاف تطبيق في مجالات متعددة، تشمل التعليم والترفيه والإعلام والأفلام، فضلاً عن زيارة الفضاء وغيرها من المجالات، ما يعزز من تجربة المستخدم ودخول التقنية في مختلف القطاعات الاقتصادية لصناعة محتوى وتأثير لا يمكن إنتاجها عبر الوسائط المتاحة حاليًّا.
نماذج ناجحة
أما على مستوى تأثير التقنية، فيمكن الإشارة إلى عدد من الأمثلة التي توضح حجم تأثير التقنية على المشاهد أو المستخدم، وسأكتفي بشرح مثالين:
الأول: يتمثل في تجربة الأمم المتحدة في جمع تبرعات للاجئين السوريين من خلال إنتاج فيلم واقع افتراضي، حيث استعانت المنظمة بأحد بيوت الخبرة لإنتاج فيلم يحكي معاناة اللاجئين السوريين، وتمَّ عرضه على المانحين في منتدى “دافوس” الاقتصادي، وكانت النتيجة أن تمَّ جمع تبرعات بقيمة (3.8) مليار دولار، (60%) أعلى من المبلغ المستهدف.
الثاني: تجربة جمعية “تشيريت ووتر” غير الربحية في نيويورك، والمتخصصة في إيصال المياه الصالحة للشرب للدول النامية، حيث أنتجت المنظمة فيلم واقع افتراضي يجسد معاناة ملايين الأطفال حول العالم، من خلال قصة طفلة أثيوبية لا تستطيع الذهاب للمدرسة لانشغالها بتأمين مياه غير صالحة للشرب لأسرتها، وعُرض الفيلم في حفل جمع تبرعات بمتحف “ميتروبولتون” وكانت النتيجة جمع أكثر من (2) مليون دولار في ليلة واحدة من خلال (400) شخص، وهذه أمثلة توضح أهمية التقنية وتأثيرها.
على مستوى وسائل الإعلام يوجد العديد من التجارب لإعداد تطبيقات على منصات الواقع الافتراضي، ومن أبرزها تجربة صحيفة “نيويورك تايمز” حيث وزعت أكثر من نصف مليون نظارة “جوجل” الكرتونية في عام 2015م للمشتركين مع النسخة الورقية؛ حتى تتيح لهم مشاهدة المحتوى (360) درجة عبر تطبيقات الصحيفة في المنصات المختلفة، وأنتجت الصحيفة تجارب مختلفة من نقل فعاليات الموضة والألعاب الرياضية إلى المحتوى الإخباري المنوع.
وهنا يتبادر سؤال.. ما مستقبل التقنية وصناعة المحتوى في العالم؟
الواضح وبلا شك أن صناعة المحتوى على مستوى توظيف الحواس في المحتوى لم تتغير لعقود طويلة، فهي تستند على حاسة أو حاستين في أفضل الأحوال وهي السمع والبصر، لتأثير الحاستين على العقل، وهذا يوضح التطور المتسارع لشاشات العرض بدرجة أولى والسماعات بدرجة أقل، بينما تقنية الواقع الافتراضي قادرة على توظيف الحواس الثلاث المتبقية، اللمس، الشم، والتذوق، بحسب التجربة المستهدفة، وأهمية توظيف الحواس الثلاث المتبقية يتمثل في رفع مستوى التأثير في المستخدم، ومن الأمثلة على إنتاج محتوى بتوظيف حاسة اللمس، على سبيل المثال تجربة بعض شركات التوعية المرورية والتي تعطي المشاهد تجربة الركوب في مقصورة قيادة ثم تجربة افتراضية لحادث سير باستخدام حزام الأمان ومن دونه، ما يعطي للمشاهد تجربة افتراضية واقعية (مرعبة) لحاث سير من دون استخدام حزام الأمان، بينما توظيف حاسة الشم يتم استخدامه في المجالات الطبية العلاجية، وتوظيف الحواس الخمس يستخدم في إنتاج الأفلام بمختلف المجالات، لا سيما المجال السياحي، كعرض تجربة زيارة وجهة سياحية أو التجول في غابة أو منطقة بها مزارع للورود، مما يعزز من حجم الشعور بالتواجد في الموقع الافتراضي.
اتحاد التقنيات
من ناحية أخرى تتيح تقنية الواقع الافتراضي دمج تقنيات أخرى معها لصناعة المحتوى (التجربة)، فعلى سبيل المثال؛ يمكن دمج تقنية الذكاء الاصطناعي معها، مثل التحدث مع رجل آلي في الفضاء الإلكتروني، أو تنفيذ حجوزات السكن، أو شراء أسهم من خلال الطلب من الرجل الآلي افتراضيًّا بتنفيذ عملية الشراء.
كل ذلك يضعنا على أعتاب مرحلة جديدة في الحياة والتفاعل عبر تقنية الواقع الافتراضي والتي تتيح خيارات غير محدودة في ابتكار طريقة صناعة التجربة.
نقلت تقنية الواقع الافتراضي صناعة المحتوى من كونها مشاهدة لأن تكون تجربة (Experience) وهذا يعطي بُعدًا أكبر، حيث إن الشخص عند مشاهدة المحتوى يقترب ذهنيًّا من الإحساس بوجوده في ذات المكان الافتراضي، لذلك نشاهد اليوم نمو إنتاج نظارات الواقع الافتراضي والتوسع في استخدامها في مختلف المجالات، ما يعطي فرصة لتغيير العالم بالاستناد على حجم التأثير، لا سيما في المجال الإعلامي والرعاية الصحية، وغيرها من المجالات التي يمكن الاعتماد عليها في تحسين الصورة الذهنية.