في انتظار (الميديا المتأنية)

د. نصر الدين لعياضي

مَن كان يدري أن حركة الاحتجاج التي قادها المواطن الإيطالي “كارلو بيتريني” على افتتاح مطعم “ماكدونالدز” في ساحة “سبنا” بروما في سنة 1986م، ستؤدي إلى ميلاد حركة دولية مناهضة للوجبات السريعة أو بالأحرى الأطعمة السريعة، وينضم إليها المثقفون والفنانون وعلماء الاجتماع والمزارعون، وتعترف بها الأمم المتحدة في سنة 1989م؟

لم يكن أحد يتوقع في تلك السنة أن هذه الحركة التي اتخذت من الحلزون، رمز البطء، علامتها المميزة (Logo) تتحول إلى تيار فكري وفلسفي يتعدى الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة في إنتاج المواد الغذائية وطبخها واستهلاكها، ويمتد إلى كثير من الميادين، مثل: السفر، والعلاقات العامة، والأخبار، والصحافة، والتلفزيون، والميديا بصفة عامة.
لقد لاحظ كثير من المختصين أن الانتقال إلى العصر الرقمي قد ضاعف كمية المعلومات والأخبار وعجل في تدفقها وسريانها في أرجاء الكرة الأرضية، فالباحثة الفرنسية المختصة في إدارة المعلومات في الشركات (كارولين سوفجول ريالوند)، ترى أن عدد الأخبار يتضاعف كل أربع سنوات، وأن البشرية أنتجت من المعلومات عددًا من الأخبار في السنوات الثلاثين الأخيرة ما يتجاوز ما أنجزته طيلة (5) آلاف سنة من تاريخها!.

تخمة الأخبار
يعتقد البعض أن كمية الأخبار المتداولة بين البشر ما انفكت في التزايد قبل ميلاد العصر الرقمي، فالباحث الأمريكي في العلوم الاجتماعية “برترام ميرون”، ابتكر مفهوم “الإفراط في الأخبار” في سنة 1962م، وقد وظفه عالم المستقبليات الأمريكي “آلفين توفلر” في كتابه المعنون بـ: “صدمة المستقبل”، لتحليل تأثير التكنولوجيا في إدارة المؤسسات وفي السلوك الاجتماعي، ولعل المفهوم الأكثر دقة ودلالة على ضخامة الأخبار التي تطفح عبر مختلف الحوامل الرقمية في العصر الراهن هو “البدانة الإعلامية (infobesity)” الذي ابتكره الكاتب والسينمائي الأمريكي “دافيد شنك” في مؤلف بعنوان: “ضباب البيانات الدخاني: النجاة من تخمة المعلومات”، ونشره في سنة 1993م، ويمكن تعريف هذه البدانة بكمية الأخبار والمعلومات  الرهيبة التي تصلنا عبر مختلف الوسائط التقليدية والحديثة بشكل آني ومتزامن ومتواصل، فتصيب الفرد بالتخمة.

لقد بلغت هذه التخمة درجة أن (60%) من الأشخاص يتقاسمون المقالات التي تصلهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دون أن يقرؤونها، حسب الدراسة التي قامت بها جامعة كولومبيا الأمريكية ونشرتها بمعية المعهد الوطني للبحث في علوم التكنولوجيا الرقمية الفرنسي، ونشرت صحيفة “الواشنطن بوست ” يوم 16 يونيو 2016م ملخصها.

إن كانت التخمة تحول من دون ابتلاع الأخبار فلا مجال للسؤال عن عملية هضمها، أي ترتيبها وفق نظام من الأولويات لأنها تتضمن الغث والسمين والمهم والتافه، وإدراك معناها، وتذكرها.

حقيقة أن قدرات الإنسان الذهنية والعقلية التي تؤهله للاحتفاظ بالمعلومات لفترة طويلة وتذكرها متفاوتة، وتختلف من شخص لآخر، لكنها تظل محدودة في نهاية المطاف، فالتخمة الإخبارية لا تنهك الذاكرة فقط، بل تشتت ‒ أيضًا ‒ الانتباه وتضعفه.

مفارقة
إن التغيير المتسارع في الإنتاج الإعلامي أدى إلى تراجع التقاليد الصحافية، حيث اضطرت كثير من الصحف إلى إنتاج أكبر عدد ممكن من المواد الإعلامية بأقل عدد من المهنيين لمواجهة الأزمة التي تواجهها.

لقد وجدت وسائل الإعلام نفسها مضطرة إلى ركوب موجة التكنولوجيا الرقمية لمنافسة “الميديا الجديدة” في أرضية ليست لصالحها: أرضية الآنية، والسبق الصحفي من دون التأكد من مصدر الأخبار، والسعي للحصول على أكبر عدد من المتابعين والمعجبين بكبسة على الأيقونة قصد الحصول على أكبر نصيب من الإعلانات، ففي هذا الإطار يقول مؤسس المجلة البريطانية “ديلايد غراتفيكشن Delayed Gratification” في مقال له بعنوان: “الإشباع المتأخر”: “إننا انتقلنا من شراء منتجات مادية بفضل الإعلانات التي تنشرها وسائل الإعلام إلى نموذج إعلاني خالص يتمثل في التحريض على نشر المحتويات المستفزة، والتي تتسم بالإثارة والخالية من أي قيمة مضافة أو إبداع، مجانـًا للحصول على المال مع إدراج الإعلانات الغازية: شرائط الإعلان المنبثقة في الشاشة بشكل فجائي، وفيديوهات إشهارية مبرمجة آليًا، وغيرها.  

ظهرت “الميديا المتأنية” في سنة 2009م، لمعالجة المفارقة الكبرى التي أصبحت تعاني منها البشرية: ففي الوقت الذي تزايدت فيه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطبية والمناخية تعقدًا، اتجهت “الميديا” بمختلف أنواعها، إلى التبسيط الذي يخل بالفـَهمِ، وإلى التسطيح الذي يتماهى مع التتفيه، وإلى الكتابة المستعجلة القائمة على الصور النمطية والكليشيهات على حساب التروي والتأمل، فالجمهور لا يهمه تعرّف ما الوسيلة الإعلامية التي سبقت غيرها في نقل خبر انتخاب فلان في هذا البلد أو ذاك، ما يهمه حقـًّا هو الشرح الذي يفسر له أهمية هذه الانتخابات وتأثيرها في حياته بشكل مباشر أو غير مباشر، وما ينتظر بلده منها.     

ما “الميديا المتأنية”؟
تُعرف الصحافية “إميلي موغي” العاملة في الموقع الفرنسي في شبكة الإنترنت “كاتر أورQuatre heures ” أي “أربع ساعات”، هذا الضرب من الميديا بأنه: “نوع من العقد الذي يبرمه الناشر مع القارئ، إنه أكبر من دعوة إلى القراءة بل انغماس في الأحداث، يمثل قطيعة مع إيقاع الإنتاج الإعلامي وتوزيعه”. وتقول عنها الصحافية “كلير برثليم” من المجلة الرقمية الفرنسية “لانبريفي l’imprévu” أي “غير المتوقع”: إنها تتطرق إلى المواضيع التي تمرُّ عليها وسائل الإعلام الكلاسيكية مرور الكرام،  تعالجها بعمق وتحللها: القضايا القضائية، والكوارث الطبيعية، والنزعات الاجتماعية، أي كل القضايا التي تبرزها وسائل الإعلام لفترة، فتثير زوبعة من ردود الفعل، ثم تنصرف عنها بسرعة وتطوى في غياهب النسيان”. 

يعتقد البعض أن مسمى “الميديا المتأنية” يحيل إلى المدة الزمنية التي تُصرف في إنتاج ما تبثه أو تنشره، خلافـًا لوسائل الإعلام التقليدية التي تسعى إلى تغطية أكبر عدد من الأحداث والموضوعات في أقصر فترة زمنية ممكنة وبطريقة سطحية، فالميديا المتأنية تشرك الكتـّاب والمثقفين والفنانين والباحثين في الكتابة عن الموضوعات المختلفة من وجهات نظر متنوعة تتضمن طائفة من الأفكار المتعددة، إنها تنأى قليلاً عن الأحداث الطارئة والملتهبة لتنظر إليها مليًّا وبتأمل من أجل إنتاج نصوص لا تموت في لحظة إنتاجها، ويمكن العودة إليها بشغف بعد أشهر.

لذا نلاحظ أن الصحافة المتأنية استثمرت في الأنواع الصحفية التعبيرية والاستقصائية المطولة، مثل: “الريبورتاج، والتحقيق الصحفي، والبورتري”، وأعادت المجد للسرد الصحفي الذي يعتبر أفضل وسيلة لاستعادة الذاكرة الجماعية وبعث الحياة في أحداث الماضي.

لقد ابتكرت الصحافة المتأنية شكلاً جديدًا من الإنتاج المكتوب وهو “موك”، وهذه الكلمة عبارة عن تركيب لمختصر الكلمتين الإنجليزيتين: “ماغازين magazine المجلة” و”بوك” أي الكتاب، وأبرز مثال على ذلك هي المجلة الفصلية الفرنسية المسماة “XXI” التي تصدر في (256) صفحة وتباع في المكتبات، وهي في الحقيقة نموذج متطور للمجلات الصادرة باللغة الإنجليزية، مثل: “ذو نيويوركر
The New Yorker” و”أمبير Empire”.

إعادة النظر
إن “الميديا المتأنية” تعيد النظر في علاقة الوسيلة بالجمهور؛ لأن مادتها الإعلامية لا تسلك اتجاهًا أحاديًا من الصحافي إلى الجمهور، ولا تعدّ هذا الأخير قاصرًا أو من دون مستوى، بل تتعامل معه كصاحب تجربة اجتماعية، ويملك خبرة في مجال معين، ويمكن أن يكون طرفـًا في عملية إنتاج موادها، وقد تلجأ بعض وسائل الإعلام التي تنتمى إلى هذا النوع من الميديا، مثل الموقع الهولندي “دو كرسبوندنDe Correspondent “، أي “المراسل” في شبكة الإنترنت إلى عرض بعض مقالته على متابعيه  قبل نشرها!.

ويمكن أن نذكر بالمناسبة أن هذا الموقع يشكل النموذج الناجح لهذا الضرب من الميديا الذي حقق ما وعد به: إحداث القطيعة مع اقتصاديات وسائل الإعلام الكلاسيكية، فلا ينشر أي إعلان ولا يعتمد على المعلنين في تمويله، بل يستند إلى جمهوره فقط، وقد استطاع أن يجمع خلال أسبوع واحد مليون يورو، تبرع بها (15) ألف مستخدم لشبكة الإنترنت، ولازال هذا الموقع يجذب (30) مشتركًا جديدًا يوميًا، وتؤكد إحدى صحافياته، “ماييك غوسانغا”، أن ثلاثة أرباع المشتركين الجدد يظلون أوفياء للموقع بعد مرور سنة على اشتراكهم.

قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أن هذا الضرب من الميديا يروج النوع وليس الكم، ولا يسعى ليكون جماهيريـًّا، فهل هذا يعني أن جمهوره نخبوي؟ لا يفضل رواد “الميديا المتأنية” صفة النخبوية، وإن كانوا يعترفون أن الصحافة غير المجانية تتطلب من القارئ الذي تعود على المواد الصحفية المختصرة والمبسطة التي تنشرها الصحف المجانية أو مواقع التواصل الاجتماعي بعض الجهد، وبهذا يؤكدون ما قاله مؤسس صحيفة (لوموند) أي “العالم” الفرنسية،”هربرت بوف ميري”، ذات مرة، بأن ثمن جريدته يكمن في سعرها في السوق إضافة إلى الجهد الذي يبذل في قراءتها!. 

مبادئ
إن “الميديا المتأنية” فلسفة قبل أن تكون منتجًا، هذا ما أكده البيان الذي أصدره بعض مناصريها الألمان في يناير سنة 2010م، وصاغوه في جملة من المبادئ، وترجمته الصحافة “الأنجلوساكسونية، والفرنسية، والسويسرية، والكندية”؛ لكن لم نعثر، مع الأسف، على أي ترجمة له في الصحافة العربية، لذا نحاول أن نختصرها في النقاط التالية: تسهم هذه الميديا في ديمومة المحتوى خلافـًا للمقولة التي تنصُّ على أن المادة الإعلامية، مثل الأخبار، شديدة التلف “تموت بسرعة”، وتشجع التركيز على المنتج والمتابعة في زمن يمجد السرعة ويعزز تشتت الذهن وانصرافه إلى الاهتمام بأكثر من شيء في الوقت ذاته، وتروج التميـّز والجودة التي يمكن التماسها على مستوى المحتوى والإخراج، وتسعى إلى إشراك الجمهور في مسار الإنتاج بأفكاره وآرائه، وتُعدّ الميديا المتأنية خطابـًا يغذي الحوار مع الجمهور.

 تعددت التجارب الصحفية منذ سنة 2009م، تاريخ ميلاد “الميديا المتأنية”، لتشكل اليوم نماذج، فإضافة إلى مجلة (XXI) التي ذكرناها سابقـًا، والتي توزع (22) ألف نسخة وتهتم بالشعر والأدب وتترجم كثيرًا من النصوص من المجلات الصادرة باللغة الإنجليزية، يمكن أن نذكر المجلة الفصلية “Delayed Gratification” “الإشباع المتأخر” البريطانية التي صدرت في سنة 2011م، والتي تغطي الأحداث والقضايا التي طُرحت خلال الفصل بنظرة مغايرة وبأشكال تعبيرية ومرئية مختلفة تباع في العديد من بلدان العالم، والمجلة الفرنسية  “فيتون” التي صدرت في سنة 2011م، والتي طورت أشكال السرد الصحفي، إنها تسحب عشرين ألف نسخة توزع في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وكندا.

التلفزيون المتأني
لم يتأخر التلفزيون عن تيار “البطء” الذي يسعى إلى إعادة النظر في إنتاج الإعلام واستهلاكه، فالقناة التلفزيونية النرويجية “إن. أر. كيه NRK” نصبت كاميرا في مقدمة القطار الذي يربط العاصمة “أسلو” بمدينة “بيرغت” على مسافة (500) كم في سنة 2009م، وبثــّت ما صورته لمدة سبع ساعات، وجمعت (1.2) مليون مشاهد، أي ربع السكان، وقد شجعها هذا النجاح على إعادة التجربة في رحلة بحرية بثت لمدة خمسة أيام، وتابعها (3,2) مليون مشاهد.

وفي فرنسا خاضت القناة الرابعة تجربة مماثلة بعنوان: “طوكيو، الاتجاه المعاكس” الذي يسرد رحلة من طوكيو إلى فرنسا، لكنها لم تجمع سوى (1,4) مليون مشاهد خلال تسع ساعات من البث، لكن الغريب أن بعض الصحافيين الفرنسيين أكدوا أن هذا البث لفت نظر رواد موقع “تويتر” فأرسلوا (13) ألف تغريدة عنه، وكان عددهم أكثر من الذين غردوا على تعيين “مانويل فالس” الذي عُين رئيسًا للحكومة الفرنسية في اليوم الذي بثَّ فيه هذا الشريط. 

هل التلفزيون المتأني يختلف عن التلفزيون الكلاسيكي في طول المدة الزمنية التي يستغرقها بثّ مواده؟ إن كان الأمر كذلك فكثير من البرامج  انزاحت عن المعايير المعروفة والمعتمدة في إنتاج المواد التلفزيونية، وهي (20، و52، و90) دقيقة، فبرامج تلفزيون الواقع، على سبيل المثال؛ كانت السباقة في هذا المجال. 

للإجابة عن هذا السؤال يؤكد “بوريس رازون” مدير الكتابات الجديدة في التلفزيون الرسمي الفرنسي قائلاً: إن تلفزيون التأني لا يقول للمشاهد ما الأشياء التي يجب أن تفكر فيها، فخلافًا لبرامج تلفزيون الواقع، لا يتضمن تلفزيون التأني سيناريو، ولا أدوارًا سردية، إنه يعبر عن الأصالة، فالوقت الذي يقضيه المشاهد أمام الشاشة هو الزمن الحقيقي.

خلافـًا لما يعتقد، إن حركة التأني تنمو ‒ أيضًا ‒ في حضن شبكة الإنترنت التي تتميز بالسرعة، فالتقارير المتلفزة وأفلام “الواب” الوثائقية التي تستغرق وقتًا طويلاً لمشاهدتها بدأت في الانتشار، والمواقع مثل: “نيوز دوت كم News.com”، و”بريف دوت مي Brief.me” وغيرها تنتقي من الأحداث والأخبار التي يعتقد أنها أكثر أهمية وتسلط عليها الأضواء، ليس هذا فحسب، لقد بدأت كثير من التطبيقات الرقمية التي تسمح بتأجيل قراءة المواد الصحفية في الانتشار لتضاف إلى التلفزيون الاستدراكي والمشاهدة بأثر رجعي، والتي تبين أن للمرء حياة أخرى وليس سجين شبكة الإنترنت ومنصاتها الرقمية.

أخيرًا، متى يحن موعد انطلاق “الميديا المتأنية” في المنطقة العربية؟