الترفيه في القنوات الفضائية العربية: المفهوم والاتجاهات

أ. د. فايزة يخلف باحثة في الإعلام

مقدمة:
بعد ثلاثة عقود من الزمن وأكثر على ظهور المحطات التلفزيونية الفضائية العربية التي أضحت تتكاثر بالتأسيس والانشطار بشكل يصعب إحصاؤه، أصبح الحديث عن كيفية مواكبة ارتفاع ساعات بثها بمحتويات توافق طبيعة الجمهور المتعطش إلى برامج «الفرجة» أمرًا ملزمًا.
ها هنا، تنامت المنافسة بين هذه القنوات لاستقطاب المشاهدين من خلال برامجها الترفيهية بأصنافها وقوالبها المختلفة: المبتكر منها والمستنسخ، المحلي والأجنبي فأصبحنا أمام «فيض» من الحصص والمواد الإعلامية المصورة التي تعرض أنماطًا فكرية وقيمية متعددة الأصول الحضارية واللغوية.
مثل هذا الوضع، فرض على أهل الاختصاص من الناحية المعرفية ضرورة استقراء مفهوم الترفيه (Entertainment) في بعده الدلالي وفي حقيقة اتجاهاته، وهو ما انكبت عليه الدراسات الإعلامية الحديثة سعيًّا منها لبناء تأصيل نظري متكامل عن دور الإعلام.
فما المقصود بالترفيه؟ هل هو إعلام أم صناعة رأي؟ ما حقيقة اتجاهاته الحديثة؟ ما موقعه من صياغة الأهداف الإستراتيجية للمؤسسات الإعلامية وتطلعات الجمهور العربي؟


1-الترفيه: مسار دلالي متحول في سوسيولوجيا الإعلام:
عرف مفهوم «الترفيه» بوصفه أحد الوظائف الاتصالية الأساسية للتلفزيون بعد وظيفة الإخبار والتثقيف تشكلا مغايرًا على مستوى الدلالة فرضته طبيعة التحولات الثقافية في المجتمع العربي، وعلاقة ذلك بموضوع التجديد الشامل الذي أقرته التكنولوجيا سواء على مستوى الخطاب أو على صعيد مقاربة «ظاهرة» الجمهور().
على هذا النحو، أضحى تعريف الترفيه كمعطى إعلامي مرتبطًا بمعاني القديم الموعود بالاندثار «التصور الكلاسيكي للإعلام»، والجديد المرشح للانتشار «الفهم المستحدث للخطاب الإعلامي وللجمهور»، وهو الأمر الذي ألزم إخضاع معارف سوسيولوجيا الإعلام إلى النقد والنقاش.
تعود أصول كلمة «الترفيه» لغة إلى الإرفاه أي التدهن والترجل كل يوم، ورجل «رافه» أي وادع وهو في رفاهة العيش أي سعة و»رفه» فلان أي نفس عنه().
والترفيه في الإنجليزية (Entertainment) مشتق من (Entertain) ومعناه يستضيف أو «يكرم» وافدًا أو «يسليه»، وهو المعنى الذي استثمر في الإعلام للدلالة على استضافة المتلقي المشاهد لقضاء وقت ممتع ولطيف مع مواد إعلامية ذات طابع خفيف بعيدًا عن مشاغل الحياة وإكراهاتها().
لهذا اقترن الترفيه في الأدبيات الإعلامية الحديثة بمعنى التنفيس عن الانفعال بإلهاء الفرد عن مشكلاته وهمومه الخاصة()، فهو النشاط الذي يؤدي إلى توفير اللهو والتسلية ويمنح المشاهد وقتًا للخروج من متاعب الحياة والهموم، من خلال التعرض لأشكال من التمثيليات والأدب، والموسيقى، والمسرحيات الفكاهية، والرياضة، وبرامج الألعاب والمسابقات والرقص… إلخ، وهذا النشاط هو أحد أهداف وسائل الاتصال الجماهيرية().
والقول بأن الترفيه يهدف إلى تسلية المشاهد والترويح عنه لا يعني أن تكون مضامينه خالية من الإفادة بالمعلومات وعنصر التثقيف، فالبرنامج الترفيهي الهادف هو المحتوى الإعلامي الذي يسلي المشاهد وفي نفس الوقت يؤدي خدمة ثقافية، وإن كانت هذه الخدمة أساس المقولة المعروفة في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني: التثقيف بالتسلية والتسلية بالتثقيف().
وبالحديث عن مفهوم التسلية بالتثقيف، نستحضر متعة برامج الزمن الجميل التي تفردت بأفكار هادفة في طرحها، استطاعت إلى يومنا هذا أن تبقى خالدة في الذاكرة العربية، نذكر منها برامج التلفزيون المصري: «سر الأرض» الذي كان يُعرض في إطار درامي نصائح وإرشادات في قطاع الزراعة للفلاحين، وكذا برنامج «عالم الحيوان»، و»العلم والإيمان»، وبرنامج «قصة وكاتب» الذي كان فضاءً إعلاميًّا قد لا يتكرر في استعراض أفكار عمالقة الكتابة آنذاك «طه حسين، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس… وغيرهم كثيرون».
ولم يكن هذا التميز سمة ماسبيرو فقط، وإنما كان التوجه الغالب على كل الإعلام العربي الترفيهي في تلك الفترة، ويكفي أن نذكر هنا برنامج «حروف» الذي كان يُعرض على الشاشة السعودية، والذي أمد المشاهد بكثير من المعلومات الثرية، من خلال ما طرحه على نحو حصري من أسئلة وأجوبة، وكذا برنامج «بنك المعلومات» الذي كان يُعرض على التلفزيون السعودي وعلى شبكة راديو وتلفزيون العرب (ART)، وغيرها من البرامج الناجحة التي مثلت علامات فارقة في الجمع بين فكرة المسابقات والتحديات الثقافية الهادفة.
وأيا كانت طبيعة الترفيه في القنوات التلفزيونية: مسلسلات أو تمثيليات، أغان أو برامج موسيقية، مسابقات، ألعاب أو منوعات، فهي وفقًا للدراسات العلمية الحديثة مواد إعلامية مهمة تساعد على التخلص من الضغوطات وتبث في الإنسان روح النشاط وحب الحياة، حيث يخرج بعدها بطاقة إيجابية وروح معنوية عالية تعينه على تحمل عبء الحياة.
والمقصود بالترفيه هنا لا يعني التسلية الفارغة التي تؤدي إلى تضييع الوقت، ولكنه يدل بالأحرى على ما يدفع الفرد للإنتاج عبر زيادة وعيه وثقافته وتحفيزه بشكل إيجابي، وتساعده على العمل الخلاق والتقدم، لا التراجع والانشغال بما يلهي ولا يفيد.
والمتأمل على مدى بضع سنوات خلت، يلحظ دون شك الفجوة الكبيرة بين نوعية البرامج الترفيهية التي كانت تبثها القنوات التلفزيونية القليلة آنذاك، وحجم الإسفاف الثقافي (Cultural Impudence) والسطحية التي اقترنت ببث قنوات متخصصة في مجال الترفيه، مثل الأفلام والمسلسلات، وتفسير الأحلام والشعوذة والرقص، وقنوات أخرى لابتزاز أموال المشاهدين بمسابقات وهمية، وغيرها من الفضاءات الإعلامية التي تخلو من الأهداف الإستراتيجية، ما عدا التجارية كتحقيق نسب مشاهدة عالية.
ومما يزيد من خطورة هذا النوع من البرامج المقتبس أغلبها من أفكار وبرامج ترفيهية غربية، ما ذهب إليه الباحث الأمريكي «دانييل بل» (Daniel Bell) في قوله: «بأن وصول البث الفضائي المباشر إلى البيوت سيؤدي إلى حدوث تغيرات عميقة في الثقافة وفي القيم، لأن الثقافة المسيطرة هي ثقافة الدول المحتكرة للمواد الإعلامية، وهي تختلف عن الثقافة والقيم السائدة في المجتمعات التي تصدر إليها هذه المواد الإعلامية، مما يعمق من خطورة التأثير بعد أن أصبح انتقال الثقافة من مجتمع إلى آخر ميسورًا في ظل العصر التقني الراهن»().
بهذا المعنى، تحول حضور هذه «الثقافة الوافدة» الماثلة في شكل ومحتوى الكثير من البرامج الترفيهية في القنوات العربية من إعلام يشكل وحدة فاعلة في إنتاج المعرفة وإغناء الأفكار إلى صناعة رأي عام وبناء مواقف بعينها، وهو ما أسهم في توسيع دائرة النقاش حولها:


2-اتجاهات الترفيه الحديثة:
لا شك أن الترفيه كممارسة ووسيلة تواصل إنساني قد ولد قبل ميلاد وسائل الإعلام نفسها، فاقترن بمهارات التقليد وتقمص الأدوار ومحاكاة الطبيعة، فتجسد في عروض حية احتضنها الشارع في أشكال متنوعة بين مسرح، وألعاب، وحلقات وحكايات شعبية كان يسردها الحكواتي في جمع من الناس… إلخ.
وحين نطالع بدايات الترفيه والتسلية آنذاك، نجدها على بساطتها كانت تصنع رأيا محركًا للتغيير منتجًا للأمل ومعززًا للقيم المثلى، من خلال ما تضمنته من تسلية مفعمة بالحكم والعبر.
هذا النهج الذي سار عليه الإعلام الترفيهي لعقود، أفرز برامج متفردة نشأت عليها أجيال واكتسبت منها معلومات وخبرات جعلت من أوقات فراغها أكثر متعة وفائدة.
ومن منظور تحليلي تقويمي راهن، يجمع خبراء الاتصال على أن تضافر عوامل: تراجع ثقافة القراءة وحظوة الكلمة في الكتب الرصينة، إضافة إلى الرهانات المتعددة التي أقرها العالم الرقمي المتغير باستمرار قد فرض من منطلق سوسيو إعلامي تحولات عميقة في اتجاهات الترفيه، بما يتوافق وبروز ظاهرة «جمهور ما بعد الحداثة»().
وتمثل مسألة اتجاهات الترفيه في سياق التحولات الراهنة مثالاً جيدًا لتبين الرهانات النظرية المرتبطة بالعلاقة بين وسائل الإعلام والجمهور، وما تقتضيه هذه العلاقة من تفكير متجدد حول التأثير ونظرياته، وصولاً إلى إشكاليات التلقي().
لنا هنا أن نشير إلى أن الترفيه بمفهومه الحديث قد اتخذ ألوانًا مغايرة عما كان متداولاً سابقًا، فهيمن عليه خطاب السطحية الذي يروج للشكل أكثر من المغزى، ويبني الأطر المادية دون الأطر العقلية().
لذا ساد في القنوات الفضائية العربية نمط الترفيه القائم على السخرية والاستهزاء واستخدام الألفاظ غير اللائقة والمناقشات السطحية وعدم قبول الرأي الآخر، وفقدت الأفلام والمسلسلات بريقها بعد أن حادت عن الخط الدرامي الهادف وتشرنقت في حبال الحبكة التافهة.
هكذا، أصبحت الإثارة هي عنوان أغلب البرامج الترفيهية التي تبثها القنوات الفضائية العربية، وهو ما حصر المشاهد في معلبات ثقافية جاهزة للاستهلاك تتراوح بين أفلام المقاولات وبرامج المقالب التي تعتمد على الخدع وإثارة الرعب والخوف والمواقف المفبركة، وكذا الضحك على الضيوف الذين يكونون شركاء في اللعبة ولكنهم يتظاهرون بكونهم ضحايا وقعوا في شباك مقدم البرامج، وقد يكونوا أصدقاء حميمين على أرض الواقع.
وبين الإمساك بالعالم الحقيقي بكل تفاصيله، وملاحقة العالم المفبرك المزيف الشديد الإبهار والتأثير في المخيال المجتمعي والفردي، تتأكد أطروحة «التلاعب بالعقول» التي تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي «بيار بورديو» (Pierre Bourdieu)، ونوه فيها بدور وسائل الإعلام والتلفزيون على وجه التحديد في غسيل العقول وصناعة الآراء وتشكيل الاتجاهات، من خلال المضامين المضللة التي تقدم بصورة مثيرة تركز على الربحية في المشاهدة، بغض النظر عما إذا كانت هذه المضامين التي تبث عبر شاشة التلفزيون ذات قيمة أم لا().
وعبر هذه الإستراتيجيات المشتتة للتفكير والتي تتوارى خلف «ثقافة الصورة» وفكرة «الاستعراضات المسلية» ينشأ التناقض بين الواقع الفكري والواقع الإعلامي المقدم، فالأول يحتاج إلى قدر كبير من التأني والتدقيق والملاحظة. أما الثاني فيحتاج إلى السرعة في تقديم المنتجات الثقافية التي تهدف إلى جذب الجمهور ورفع عدد المشاهدات تحقيقًا للربح المادي فقط().
وعلى الرغم مما تشير إليه المعاينة النقدية للبرامج المنتشرة حاليًّا عبر شاشات الفضائيات من جنوح نحو الابتذال والإسفاف الذي يؤدي كما يقول «أنطوني جيدنز» (A. Giddens) إلى فصل المكان عن الهوية()، فإن هذا الوضع لم يقابل بعزوف الجمهور، ولكنه أنتج فهمًا مغايرًا لظاهرة الجمهور الذي أصبح يتقبل أنماطًا من الأداء الإعلامي لم يكن يتقبلها في أوقات سابقة ويتعامل معها باعتبارها أمرًا طبيعيًّا.
ولأن اختلاف الجماهير في الاستجابة إلى الرسائل الإعلامية يرجع إلى الاختلاف في حاجات الأفراد ودوافعهم، عزا خبراء الاتصال هذا التوجه الجديد للجمهور إلى:
(أ) حالة اللاتوازن النفسي، التي غالبًا ما يكون عليها المشاهد نتيجة ضغوطات وإكراهات الحياة، هي السبب الرئيسي للإقبال على المواد الترفيهية التي تحقق له ما يعرف بـ»التطهير النفسي والعاطفي»، فتخرجه من عالم الحزن والمعاناة إلى عالم التكيف والتوافق النفسي().
هنا، يُسهم الترفيه في تعزيز آليات الهروب من الواقع والانصراف إلى عالم الخيال، من خلال تحقيق ما يسمى بـ»الإشباع التعويضي»، وهو «الإشباع البديل» الذي لا يستطيع الفرد تحقيقه إلا من خلال مشاهدة البرامج الترفيهية التي تقدمها وسائل الإعلام المختلفة().
(ب) «الملاذ الحالم»، الذي توفره الصور الجميلة التي تتضمنها المحتويات الترفيهية، سواء كانت أفلامًا أو مواد درامية، إعلانات أو فيديو كليب مصور من ديكورات، وإقامات وسيارات فارهة، وأخر «صيحات» الملابس والتسريحات والماكياج، وغيرها من الجماليات الحديثة (Neo esthètes) التي يسوق لها التلفزيون ويستغلها المشاهد في إقامة العلاقة بين ما هو نفسي وما هو اجتماعي، أي بين أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وبين الرفاهية والمتعة التي توفرها صناعة الترفيه.
هذا الأمر، كان قد أكد عليه الباحث الأمريكي «شرام» (L.J.Shrum)، حين أشار إلى أن غالبية أفراد المجتمع يلجؤون إلى المواد الترفيهية لإشباع حاجاتهم التي لم تسمح لهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية المزرية بإشباعها، منوهًا بأن مثل هذا الإشباع هو إشباع وهمي، لكنه كفيل بأن يعوض هذه الفئات عن الخيارات المادية التي حُرمت منها طوال فترة المشاهدة، وقد يستمر هذا التعويض ساعات بعدها، حسب الخصائص الفردية للذات المشاهدة().
ووفقًا لهذا الطرح، يؤدي هذا «العالم الجميل» الذي تسوق له المواد الترفيهية إلى انخراط الأفراد في العالم المثالي الذين يسعون لتحقيقه، من خلال تمثل حياة الشخصيات التلفزيونية، أدوارهم الاجتماعية، عوالمهم الخاصة، وهو ما يمنحهم فرصة التخلي ولو مؤقتًا عن حياة الكآبة والروتين الذي يحاصرهم بشكل مستمر.().
(ج) التنفيس العاطفي الذي تتيحه متابعة مثل هذه البرامج، حيث يرجع الخبراء إقبال الجمهور بكيفية مذهلة على مشاهدة فيلم جذاب أو متابعة إعلان مغر أو التعلق بأغنية مصورة أو برنامج حواري كبير… إلى الإحباط الذي يواجه الأفراد في حياتهم، أي إلى تلك القوى اللاشعورية الخفية التي يكبتها الأنا الأعلى وتبقى مستمرة في منطقة اللاشعور.
لذلك، فإن ما يشد الجمهور لهذا النوع من الأعمال يعكس دون شك الصراع اللاشعوري الذي يحدث في النفس البشرية، فبكاء الناس على مكروه يلحق ببطلة فيلم هو بكاؤهم على أنفسهم، وضحكهم دليل على زوال توترهم لا توتر البطل كما أن جمال قصة حب أو نهايتها في فيديو كليب أو مسلسل هو ضرب من الإسقاط على تجربتهم الخاصة، وهكذا يكرس الإعلام الترفيهي فكرة تمثل الذات أو الصورة المرآة().
على هذا الأساس، تحول الترفيه إلى أحد الأهداف الإستراتيجية للمؤسسات الإعلامية التلفزيونية ولا سيما الخاصة، وهذا ما يفسر تضاعف عدد القنوات الفنية والدرامية ويبرر طغيان البرامج الترفيهية على مضامين الإعلام العمومي.
وحتى لا يكون الترفيه في قنواتنا مجرد مضيعة للوقت يرى النقاد ضرورة العودة إلى البرامج الهادفة مرة أخرى، البرامج التي تضيف للمتلقي رصيدًا معرفيًّا يوافق انتظاراته ولا يعاكس بوصلة أخلاقياته.
ويشكل مطلب التعرف على جمهور مشاهدي الترفيه وانتظاراتهم شرطًا أساسيًّا لفهم إشكاليات التلقي وتفسير السلوك الثقافي إزاء وسائل الإعلام الترفيهية.
ويزداد هذا المطلب إلحاحًا إذا علمنا أن نسبة كبيرة من المواد الترفيهية التي تبث في القنوات الفضائية العربية سواء كانت أفلامًا أو مسلسلات أو برامج، هي صناعة أجنبية أو محتويات مستوحاة من أفكار غربية.
وكما هو معروف فإن تدفق الثقافة والمفاهيم، والقيم والأفكار والسلوكيات إلى دول العالم بلا حواجز أو ضوابط في إطار تنافسي تجاري بين الشركات متعددة الجنسيات، من شأنه أن يفقد الإعلام مصداقيته وثقته من قبل المتلقي، الذي يكتشف أن هذا الإعلام لا يقيم له وزنًا، ولا يحترم ثقافته وعقليته، ولا يعتبره إلا أداة أو بالأحرى سلعة().
هذا الطرح كان قد أكد عليه عالم الاجتماع الألماني «أولريش بيك» (U. Beck) فيما أسماه «مجتمع المخاطر»، وقصد به المجتمع الذي تعمل فيه وسائل الإعلام على قلب نظام القيم بالاعتماد على غواية الصورة ومنطق الإثارة، ومن هذا المنظور فإن ما يتربص بالمتلقي فعلاً هو دون شك كارثة المحتوى().

خاتمة:
على الرغم من أهمية الترفيه بالنسبة للصحة النفسية والجسدية للأفراد، وعلى الرغم من دوره في التخلص من الضغوطات والتوتر وتجديد طاقة الإنسان، فإن الدراسات الحديثة تشير إلى وجود قلق بخصوص تأثير بعض المواد الترفيهية على الذوق العام، فحين تعتمد البرامج على الترويع، الخوف والرعب أو إثارة المشاعر، وتستخف الدراما والكوميديا بعقلية المشاهد، ويتحول الطرب إلى استعراض لافت لا قيمة فيه للكلمة والوزن، هنا يجب دق ناقوس الخطر.
وحتى لا يستفحل هذا الاستخفاف الثقافي في قنواتنا العربية، وجب النهوض بصناعة الترفيه والسهر على مراقبة ما يقدم ضمن هذه القوالب الإعلامية من مضامين واتجاهات، ومثل هذه الأهداف تستوجب تكريس جهود واسعة، وإمكانيات هائلة، وتخطيط علمي ومنهجي سليم؛ لتحقيق ترفيه تثقيفي هادف قادر على بناء الإنسان العربي، فالكلام الذي هو كما يقول عبد الرحمن ابن خلدون هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى.


الهوامش:

Alain Barry, Comprendre les médias, édition Payot, Paris, 2010,

P17.
انشراح الشال، مدخل إلى علم الاجتماع الإعلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 2001م، صَ10.
Charles Rosen, Media Entertainment, MIT press, London, 2012, P61.
Paul Laven, Medias et Loisirs, édition Gallimard, Paris, 2016, P32.
Ibid, P33.
() Ibid, P34.
محمد شومان، عولمة الإعلام ومستقبل النظام الإعلامي العربي، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999م، ص161.
() Stuart Cunningham & David Craig, Social Media Entertainment, New York University Press, 2019, P25.
() Ibid, P26.
() Ibid, P27.
()بيار بورديو،التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة: درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، 2004م، ص17.
بيار بورديو، قواعد الفن، ترجمة: إبراهيم فتحي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1992م، ص41.
Charles Rosen, media entertainment, op, cit, P87.
Peter Vorderer, Media entertainment: The psychology of its appeal, Routledge, London, 2000, P79.
Ibid, P80.
L.J.Shrum, The psychology of entertainment media, Routledge, London, 2012, P19.
Ibid, P21 .
Peter Vorderer, Media entertainment: The psychology of its appeal, op, cit, P91.
Alain Barry, Comprendre les medias, op, cit, P56.
فرانك كيلش، ثورة الأنفوميديا: الوسائط المعلوماتية وكيف تغير عالمنا وحياتك؟، ترجمة: حسام الدين زكريا، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000م، ص42.