ما الذي يصنع المحتوى في الصحف؟
ما الذي يجعل القارئ أو المتلقي يستقبل الرسالة الإعلامية عبر المحتوى؟
ما سمات الجمهور في مرحلة الثورة الصناعية الرابعة؟
جميع هذه الأسئلة وأسئلة غيرها كثيرة يتمُّ تداولها في الساحة الصحفية حين يجرنا الحديث إلى الفروق بين الصحافة الإلكترونية والورقية، إذ إن جميع هذه الاسئلة يمكن أن تكون إجاباتها واحدة وهي أن الصحافة أصبحت صناعة وتغيرت ملامحها، لكن الأفضل تجاوز مثل هذه النقاشات إلى مرحلة متقدمة من التفكير حول مستقبل الصحافة، وهذا ما يجعلنا نتحدث عن صحافة البيانات، إذ إنها بما تتميز به من مواصفات استحقت بها توصيف الباحثين والممارسين لها بأنها صحافة المستقبل حسبما تتميز به من تحليل للبيانات ودقة في المعلومات وآليات تشويق للقارئ.
وفي الواقع تزداد قوة العلاقة بين البيانات والصحافة في جميع أنحاء العالم؛ ففي عصر البيانات المكثفة تكمن الأهمية المتزايدة لصحافة البيانات في قدرة ممارسيها على إيجاد المضمون العميق، وربما يكون الأهم هو إيجاد الحقيقة من بين الكم الهائل للبيانات في العالم، حتى وإن كانت الحقيقة نسبية، وهذا لا يعنى أن وسائل الإعلام التقليدي ليس لها دورٌ اليوم، بل بالعكس تمامـًا ففي عصر المعلومات نحتاج للصحفيين أكثر من ذي قبل للإشراف على المعلومات والتحقق منها وتحليلها.
ولذلك بدأت بعض الدول العربية تدخل صحافة البيانات كمنهج في جامعاتها مثل مصر وتونس، وذلك لتأهيل الطلاب لسوق جديدة أصبحت الصحافة فيها من روافد الاستثمار، ومع ذلك نجد أن المؤسسات الصحفية الخليجية غالبـًا لا تمارسها في محتواها.
وبادئ ذي بدء فإن تعريف صحافة البيانات لا يخلو من الجدلية، إنما يمكن أن نقول: “إنه كل نشاط صحفي يحلل مجموعة من البيانات، ومن ثم تكون في رابط واضح يجمعها ليكون جسم القصة صحفيـّا، ثم يقوم بنشرها في شكل جذاب باستخدام اساليب بصرية”، كما أن تاريخها في صحافتنا العربية يسير ببطء فإن كانت قد بدأت في عام 2016م، إلا أنه لا يمكن لأي باحث حصر عدد المؤسسات الصحفية العربية التي تستخدمها.
الجزء الذي أودُّ الحديث عنه هو الإمكانات التي تتمتع بها صحافة البيانات مما جعل الباحثين والممارسين يجزمون بأنها صحافة المستقبل، حيث إن صحافة البيانات تجمع بين أساليب البحث عن البيانات وطرق نشرها، ويستخدم صحفي البيانات لتحقيق ذلك عديد من البرامج الحاسوبية ‒ التي لم يكن الصحافي يهتم بتعلمها ‒ لربط وتحليل مجموعة واحدة من البيانات أو مجموعات بطريقة آلية لجعلها مقروءة، كل هذه المراحل التي يمرُّ بها صحفي البيانات ينتج عنها مجموعة بيانات لم تكن واضحة ما لم يكشفها الصحافي للقارئ من خلال تجميعها وتحليلها ومن ثم تحويلها إلى قصة صحفية عميقة، لا تقتصر على نشر النصوص والصور فقط بل تُعرض دائمـًا في تصور جذاب مستعينة بالوسائط المتعددة.
وتبرز أهمية صحافة البيانات والحاجة إليها في عصر التكنولوجيا الرقمية تحديدًا وهي ما تسمى بمرحلة الثورة الصناعية الرابعة والتي هي ثورة التكنولوجيا، فالمعلومة مقدمة على الرأي الشخصي، وهكذا تفكر الصحافة في العالم الجديد، ومع بزوغ نجم صحافة البيانات في الغرب بدأت غرف الأخبار المتقدمة هناك في تقليص عدد المحررين لديها واستبدالهم بآخرين مهتمين بالاستقصاء وجمع وتحليل المعلومات بشكل عام حتى يمكن للصحفي العمل بشكل مستقل دون الاعتماد على المصادر الإنسانية.
لقد وُجدت صحافة البيانات لإنقاذ المؤسسات الصحافية من عزوف الجمهور عن قراءة الصحف الورقية، وارتفاع معدل استخدام الإنترنت على مستوى العالم، بعد أن كان الصحافي يعتمد في عمله على التغطية الميدانية لكتابة الأخبار، وعناوين الصحف الصباحية التي تنشر ما حدث في الليلة الماضية، أصبح اليوم يتعامل مع تدفق البيانات والأرقام من خلال مصادر متعددة تنتشر سريعـًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بفضل صحافة البيانات التي أوجدت صحافيين ينشرون قصصـًا أعمق بشأن الأحداث حولنا وما يؤثر فينا.
ولذلك فصحافة البيانات ليست بديلاً من الصحافة التقليدية، لكنها إضافة إليها، في وقت تحولت فيه المصادر التقليدية إلى مصادر رقمية فقد أصبح واجب على الصحفيين أن يستثمروا تلك المصادر، مع وجود الإنترنت، لذا يبدو أن صحافة البيانات جاءت كبداية في طريق التطور نحو ممارسات عملية أكثر دقة.