الخط الخلفي للبث المباشر.. نتاج التقنية الحديثة والإعلام الجديد
– رغم محدودية الدعم وغياب المؤسسات.. البودكاستيون يواصلون تشكيل صناعتهم ومجتمعهم، ويؤكدون : (المستقبل لنا)
-مطالبات للأكاديميين والمتخصصين بمواكبة البودكاست بمواد بحثية وتعليمية، ودعوة الهواة لتطوير تجاربهم بالمعرفة
أول العبارات التي تتبادر للذهن عن “البودكاست” هي تلك التي ستقفز غالباً نحو مفهوم المادة الصوتية المستخدمة في ملء المسافة الزمنية لبقائنا في السيارة، ولكي لا نبقى نحن في هذا الصورة الذهنية وحدها، فقد رأينا في “إذاعة وتلفزيون الخليج” أن نتعمق أكثر في تقييم هذه التجربة، بعد مرور سنوات على انطلاقها في الخليج، عقب انتشارها العربي والعالمي، خصوصاً وأنها تجربة وثيقة الصلة بالثقافة وبصناعة الإعلام، وهي إحدى المنتجات المعرفية لعصر التقنية وتطبيقاته الحديثة، حيث انتشرت قنوات البودكاست التي تتناول مختلف الاهتمامات، حتى بات من السهولة لأي شخص الحصول على المحتوى الذي يناسبه، وأن يجعل من هاتفه المحمول مكتبة صوتية متنقلة، بل وأكثر من ذلك، يمكنه أن يجعله محطة بث شخصية، على مدار الساعة.
الاسم والنشأة والانطلاق
جاء اشتقاق الاسم جزئياً من “IPod” جهاز الاستماع الشخصي الذي اشتهر على نطاق واسع مع بداية الألفية، وتراجع استخدام هذا الجهاز نسبياً ولكن الاسم ظل مرتبطاً بهذا النمط الإعلامي بعد أن أضيفت إليه عبارة Cast المشتقة بدورها من Broadcast، تذهب الترجمات كذلك إلى عبارة “البث الجيبي” بالنظر إلى حجم جهاز الاستماع الذي كان يحمل في الجيب، وعلى أية حال، فمع منتصف العقد الأول من الألفية بدأ البودكاست في التوسع كمحتوى صوتي لم يعد مرتبطاً بجهاز معين، حيث يوجد بشكل رئيسي في منصات التطبيقات أو المواقع الإلكترونية.
تُرجع المواقع المهتمة ظهور البودكاست للمرة الأولى إلى أواخر عام 2004م، في حين تتحدث عدة مواد إعلامية منشورة عن برنامج The BackStage Pass كأول قناة بودكاست على الإطلاق، وهو برنامج حواري انطلق في أواخر عام 2003م وكان يستضيف كبار الموسيقيين العالميين، ويبث حلقاته حصرياً عبر الإنترنت.
لن نختلف كثيراً حول الأولوية والتواريخ، فالأرقام تأخذنا عموماً إلى الفترة ذاتها، وفي العموم يمكننا الاتفاق على أن البودكاست لم يكن ليظهر بشكله الحالي دون شركة “آبل” الأمريكية، التي أطلقت تقنيته بشكل مبدئي منتصف العام 2005م ضمن برنامجها المعروف (آيتونز) حين مكنت المستخدمين وقتها من تحميل قنوات البودكاست ومزامنتها والبحث عنها، وهو ما عدّه الكثيرون تدشيناً فعلياً لها كتقنية واعدة تؤسس لميلاد منصة رقمية للبث المسموع عبر الإنترنت.
هل هو تطور لسلالة “الراديو”؟
هناك من يعرّف البودكاست بأنه برامج إذاعية تبث عبر الإنترنت، وهذا لا يبدو دقيقاً حيث أنه يفترض بث نفس المادة الإذاعية ولكن عبر أداة مختلفة، وهذا يجعلنا نتساءل.. هل المواقع الإلكترونية التي تبث الإذاعات التقليدية تقدم مادة بودكاست؟
يتشابه البودكاست في أقرب تصوراته مع الإذاعة بوصفه منتجاً صوتياً بحتاً، وإن كان يختلف عنها في محتواه، كما أنه لا يعتمد على البث المباشر بل على الموضوعات الصوتية التي يمكن تحميلها وتشغيلها والرجوع لها في أي وقت، هو يبدو كتطور في مفهوم الراديو التقليدي، رغم وقوفه في مسافة محايدة بين الإذاعة وبين المواد السمعية المسجلة، هذا الالتباس في مفهوم البودكاست جعله يظهر في تطبيقات الراديو، وفي تطبيقات الموسيقى معاً، فضلاً عن تطبيقاته المستقلة، ولكنّه يظل في كل الأحوال منتجاً عملياً ذو طبيعة نشطة، ويعبر عن أسلوب حياة عصري يحب أن يتكيف معه كل شيء.
في الإذاعة، لن تضمن محطة تبث لك أشياء تناسب اهتمامك طيلة الوقت، ولكن هذا ما يوفره لك البودكاست، بل أنه يحتوي على قنوات يمكنك الاشتراك فيها ليصلك كل جديد في موضوعك المفضل، سواء كان الرياضة أو السفر أو العلوم أو الأدب أو ريادة الأعمال أو غيرها، وغالباً ستكون عملية التلقي أكثر بساطة وتأثيراً حيث لن تتقيد حلقات البودكاست وبرامجه بالشكل الإعلامي التقليدي وبالسياسة التحريرية لوسائل الإعلام، وبالطبع بمساحة أكبر من الموضوعات القابلة للنقاش.
عالم قراءة “التدوين الصوتي”
بطبيعة الحال، ولد البودكاست بعد اختراع جهاز IPod، في الولايات المتحدة حيث يوجد اليوم أكثر من 124 مليون مستمع للبودكاست، وهذا ما أوجد سوقاً إعلانياً لهذه القنوات يقدر بأكثر من 250 مليون دولار سنوياً، وتتحدث دراسة Infinite Dial, 2017 عن نسبة نمو ثابتة تقدر بـ 10 إلى 20% في معدلات مستمعي البودكاست على أساس سنوي، في حين تحدث تقرير نشرته صحيفة البيان الإماراتية أن هذه النسبة تصل إلى أكثر من 30% سنوياً.
ووفقاً لتقرير نشره موقع CNN العربي، فقد ظهر البودكاست كمصطلح لأول مرة في مقالة للصحفي البريطاني بن هامرسلي عام 2004، بعنوان “ثورة مسموعة” والذي وصف البودكاست بأنه برنامج “تدوين صوتي”، في حين مازال هذا النمط يعد منتجاً جديداً نسبياً في العالم العربي والخليج، حيث ظهرت أول قنواته بعد العام 2008م، وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت الانطلاقة الأكبر للبودكاست العربي، خصوصاً مع تطور خيارات الترفيه وأنشطته، وتنوع الوسائط الرقمية، بما ترتب عليها من تطور مفهوم “صناعة المحتوى”، ومع بساطة إنتاج البودكاست، أصبح بإمكان الشخص إنشاء المحتوى الصوتي الخاص به وصنع جمهوره، لكن البساطة لا تعني السهولة، ولا تعني أن بإمكان أي شخص أن ينجح بمجرد قيامه نشر أي شيء.
مزايا البودكاست.. بتجرد تام
في زخم الحياة السريع، يمكنك أن تقوم بأنشطتك اليومية على مدى سنوات دون أن تقوم بتحميل بودكاست واحد، وربما ستفضل أن تملأ مساحتك السمعية بأشياء أخرى، ولكن دورنا في هذه المساحة أن نكتشف ما الذي يمكن أن يضيفه البودكاست، وما الذي يتميز به، وستكون البداية من مرونته الواضحة، فهو المحتوى الذي يمكن سماعه في أي وقت خلال اليوم، وفي أي مكان، دون الحاجة إلى النظر نحو شاشة، ما يجعل المجهود الذي يتطلبه أقل من غيره، أقل حتى من مجهود تصفح شبكة اجتماعية على هاتف محمول، هذه المرونة تجعله كذلك نشاطاً مسانداً لقيامك بأي أمر آخر، فأنت لست مضطراً لإعطاء التركيز الكامل له، هذا حين نتحدث بمنطق سهولة الاستخدام.
بمنطق الفائدة، يعد البودكاست مصدراً ثقافياً لاقتناص مجموعة لابأس بها من المعارف في المجالات التي يحبها الإنسان، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين لا يجدون وقتاً للقراءة التقليدية، فالاستماع المنتظم لهذا المصدر سيعني بالضرورة تنمية الأفق والشغف وزيادة القدرة على الإبداع، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك فيراه أداة فعالة للتعلم وللتطور الشخصي والمهني، فهو وقت مفيد بشكل لا شك فيه، أياً كان حجم الفائدة، وهو كذلك خيار يحمل طبيعة ترفيهية لا تجعل منه نشاطاً جدياً محضاً، علماً بأنه يحتوي كذلك على المحتوى الترفيهي المحض، كما أنه قد يكون عالماً زاخراً بالاكتشاف بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا فقط على سماع قوائم موسيقية لا تتجدد غالباً.. إضافة إلى كل هذا، يمكن للبودكاست أن يخاطب فيك تلك الحاجة النفسية البسيطة لوجود الإحساس بشخص بالقرب منك، يتحدث إليك بلغة سهلة فيما تحبه، ويمكنك أن تقاطعه وقتما تريد، وتجعله يعود لإكمال موضوعه متى شئت، هذه الميزة التي قد يفطن إليها صناع البودكاست، وقد لا يفطنون إليها فيبالغون في الجهد الإنتاجي والمونتاجي، فيبدو الأمر كبرنامج إذاعي تقليدي.
دافعو ضرائب النجاح والفشل
من زاوية الجمهور، ليس هنالك أفضل ولا أكثر راحة من رفاهية الاختيار والتقييم، ولكن الزاوية الأخرى ليست بذات السهولة، فصناع البودكاست هم الطرف المعني ببذل الجهد دون توقف، وهذا عادل في ظل كونهم كذلك الطرف الذي سيحظى بالشهرة والتأثير، وإن كان بعض مخرجي ومقدمي برامج البودكاست قد جاؤوا من خلفيات عمل إذاعية وتلفزيونية إلا أنهم لم يستطيعوا بعد أن يجعلوا من التدوين الصوتي وظيفة كاملة، أو حتى نصف وظيفة، فالنموذج العربي لم يصل بعد إلى تمكين صناع البودكاست من إيجاد مشاريع مستدامة تضمن لهم مصدر دخل ثابت من وراء هذا العمل، هناك الكثير من الإشادة التي لا يمكن تحويلها إلى أوراق نقدية، ومازالت الإعلانات لا تملك الجرأة الكافية للمراهنة على المحتوى العربي للبودكاست كما هو الحال في أوروبا وأمريكا مثلاً، لهذا فعجلة التدوين الصوتي مازالت تدور –حتى الآن على الأقل- بالاعتماد على محركات الشغف وتطوير التجربة، والسؤال هنا.. هل سيستمر هذا الوضع إلى ما لا نهاية؟
خارج العوالم الوردية للتفاؤل، فإن سيناريوهات نجاح البودكاست وازدهاره مستقبلاً تبدأ من رسم صورة ذهنية قوية لهذا المحتوى تبدأ من ضمان أن يمتلك صناع هذا المحتوى القدرة على الاستمرارية والتطور التنافسي والاحترافي، وأن يصبح منصة موثوقة الإقبال بالنسبة للمؤسسات الكبرى لتبدأ في الاستثمار فيه، أو تجعله أحد منصاتها الإعلامية الرسمية، يمكن لهذه الفرضية كذلك أن تستفيد من تراجع التركيز على الوسائل التقليدية كالصحف والإذاعة والتلفاز، وأن تقدم نفسها كخيار لا يقل تميزاً، ولا تعني سهولة إعداده عشوائية محتواه، سيتطلب هذا المزيد من الاستقراء النقدي لهذا المنتج، ودخوله في نقاشات صناعة الإعلام الحديث.
المنصات الرسمية وعمالقة التقنية
ينبئ رصد المنجزات التي حققها البودكاست حتى الآن عن تحركات مشجعة، كان أحدثها في نوفمبر 2020 حيث أطلقت الإمارات العربية المتحدة منصة “بودكاست الشباب العربي” كمنصة جديدة لتقديم المحتوى المسموع، ووفقاً لما أعلنته معالي شما بنت سهيل المزروعي، وزيرة دولة الإمارات لشؤون الشباب، فإن هذا الوسيط يعد أحد الوسائل التفاعلية التي يمكنها توسيع مساحات إبداع الشباب وتحويل أفكارهم إلى واقع، هذه الخطوة الإماراتية تسهم في إثراء المحتوى العربي في الإنترنت، لكنها كذلك تراهن على توظيف البودكاست في بناء ثقافة مفيدة للمجتمعات، هذا الهدف يبدو واقعياً حين ننظر إلى تجارب المستمعين وحجم التأثير الذي اكتسبوه، والذي انعكس على شكل نجاحات شخصية، استفادت من هذه البرامج الصوتية المتخصصة.
في استطلاع أجرته مبادرة “بودكاست بالعربي” في عام 2019، فإن أعمار مستمعي البودكاست العرب بين 18 و34 عامًا، وبنسب متساوية تقريباً بين الجنسين، مع وجود إقبال واضح لحاملي الشهادات العليا وهو ما يدعم فرضية هذا الوسيط كمصدر معرفي، ليس ثقيلاً تماماً، ولكنه كذلك ليس خفيفاً بشكل مطلق، بدورها، تشير دراسة نشرت عبر Podcastinsights إلى أن أرجح أوقات الاستماع للبودكاست هي بمعدل 49% في المنزل، و22% تتم في السيارة، و11% في العمل، و4% في المواصلات العامة، و3% أثناء السير، و7% أخرى، في حين أجرى موقع البودكاست العربي استبياناً وصل خلاله إلى أن السيارة تشكل أكثر من 50 % من استماع الخليجيين للبودكاست، بينما تزيد نسبة الاستماع في المنزل لديهم بقليل عن 30%.
هذه الإحصائيات تتغير بشكل متسارع مع تسارع الإقبال على هذا النمط الإعلامي الجديد، الأرقام في ارتفاع مضطرد منذ 2015م وحتى الآن، سواء من حيث القنوات والبرامج أو المستمعين، وهي أرقام تسهم في تحديد ملامح البودكاست من حيث كونه مادة انتقائية رغم شعبيتها المتزايدة، وأنها – في كثير من الأحيان- تبدو جاذبة أكثر لجمهور يملك وعي البحث عن معلومة معينة في قالب عملي، وليس لجمهور يبحث عشوائياً عن مادة استهلاكية سريعة.
في أبريل 2020 قررت منصة المحتوى الصوتي الترفيهي العالمية “ديزر” أن تضيف إلى خياراتها قسماً خاصاً بالبودكاست يتضمن أكثر من 15 اهتماماً، وربطت ذلك بأهداف مثل الترفيه والتسلية بالإضافة إلى تعزيز المعرفة وتطوير المهارات بها “خلال فترة الحجر المنزلي” التي رافقت الإجراءات الاحترازية لجائحة كورونا المستجد (كوفيد-19) ورغم أن هذا الارتباط لا يبدو دقيقاً بالنظر إلى كون البودكاست منتجٌ لا يقتصر الاستماع إليه على مكان معين، إلا أن هذه الخطوة أثبتت أهميته وإمكانية انضمام قنواته ولو كخيارات إضافية إلى المنصات الترفيهية الكبرى حول العالم.
الاستثمار في البودكاست
خلال الشهرين الماضيين فقط، شهد سوق البودكاست نشاطاً واضحاً مع دخوله في أجندة الصفقات الاستثمارية الكبرى في العالم، ففي نوفمبر الماضي فقط كانت شركة Wondery التي تصنف كأكبر منتج مستقل للبودكاست عالمياً، محل مفاوضات لاستحواذ محتمل من قبل (آبل) أو (سوني) في صفقة تدور في فلك نصف مليار دولار، وفي ديسمبر كشفت “سبوتيفاي” الشركة الشهيرة في مجال الصوتيات عن توسع غير مسبوق في البودكاست، تضمنت استحواذات وشراء الحقوق الحصرية لبرامج شهيرة بصفقات تجاوزت مئات الملايين من الدولارات، وجميعها مؤشرات على السوق المتنامي للبودكاست الذي يتوقع أن يكون منصة إعلانية يصل الإنفاق عليها إلى حاجز (1) مليار دولار في العام الجديد 2021م، وفقاً لدراسة emarketer التي أشار إليها تقرير في صحيفة القبس الكويتية، ولم تكن شبكة نتفلكس بمعزل عن هذه التطورات فقد تفاعلت معها بطريقتها، حيث قامت بتحويل بعض برامجها المرئية إلى محتوى صوتي فقط.
و في الوقت الذي تواصل عشرات المشاريع بث برامجها بشكل مستقل عبر الشبكة أو عن طريق تطبيقات متخصصة في البودكاست، بدأت بعض المؤسسات العامة في إنتاج برامجها الخاصة مثل بودكاست “إثراء”، التابع لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي المدعوم من أرامكو السعودية، في حين يعوّل كثيرون على عمالقة التقنية مثل “غوغل” و”آبل” للتوسع في منصات البودكاست المعتمدة لديهم، والتي تحظى اليوم بتفاعل متنامٍ، بالإضافة إلى إمكانيات تطوير التطبيق الصوتي الشهير “ساوندكلاود” الذي يعد أحد المكتبات المهمة للتدوين الصوتي.
البودكاست العربي.. الموجة الثانية أقوى
“لقد شعرنا بأننا وحدنا.. عندما بدأت في إنتاج بودكاست “تيار” مع أصدقائي في السعودية عام 2017م لم يكن هناك مجتمع لصانعي المحتوى من حولنا لنتبادل معهم الخبرات والأفكار” هذا ما قاله صانع البودكاست السعودي عبدالرحمن العمران عن تجربته الأولى، ولكن هذه الأمنية لم تبق لوحدها حين تحالفت جهود عبدالرحمن نفسه مع مبادرة قديمة لأرشفة البودكاست العربي تعود إلى العام 2013 على يد صانع محتوى آخر هو محمد كشميري، ليطلقا معاً موقع (مجتمع البودكاست العربي) الذي يعد اليوم المرجع الأول لهذه المنصات على المستوى العربي، وهو مصدر مهم للمهتمين بهذا المجال.
هذه المبادرة التي اكتملت أركانها مع نهايات العام 2020م عرفت نفسها بلغة مباشرة بسيطة، أقرت فيها بضعف المحتوى العربي في التدوين الصوتي، ولكنها رغم ذلك وصفت البودكاست بـ”العملاق النائم” الذي سيستيقظ حين يجد الدعم والاهتمام، وقد أرّخ هذا الموقع انطلاقة البودكاست العربي على مرحلتين وصفهما بالموجتين، الأولى من العام 2008 -2011 بعدها تراجع أمام ظهور منصات اليوتيوب وشبكات التواصل، أما الموجة الثانية فقد بدأت -.بحسب الموقع- في العام 2015م وسارت بعد ذلك في اتجاه تصاعدي، في حين استوقفنا خلال جولتنا البحثية في هذا الملف، نتائج دراسة نشرها “معهد دول الخليج العربية في واشنطن” تفيد بأن حجم البودكاست في الخليج قد تضاعف لثلاثة مرات في عام 2018 وحده.
بالعودة إلى موقع مجتمع البودكاست العربي فهو يرى أن “الموجة الثانية” غيرت قواعد اللعبة وأعادت تعريف المجال، ويضيف بتفاؤل واضح “يسجل لدينا المئات من برامج البودكاست الجديدة وكل سنة نلاحظ البرامج الجديدة تتضاعف والأرقام تشير إلى شي واحد: المستقبل للبودكاست”.
بقي أن نشير إلى الأرقام التي ينشرها الموقع كجهد أرشيفي وحيد تقريباً من نوعه، فنحن اليوم في ذروة الإنتاج من حيث المنحنى التصاعدي، في الثلاثة الأشهر الأخيرة فقط ظهرت (407) برامج جديدة، وعلى مدى أكثر من عام مضى توقفت (341) برنامجاً، فحتى ديسمبر 2020 تم تسجيل (26593) حلقة بودكاست في العالم العربي، في حين تشير إحصائية نشرها الموقع أن السعودية تصدرت نسب الاستماع عربياً في العام 2019م بـ(٥٦٪) تليها عمان بـ(١٤٪) ومن ثم الإمارات بـ(٦٪) ومصر بـ(٥٪).
توجس نقدي من استسهال النشر
رحلة هذا الملف مع البودكاست كانت متباينة في زواياها، ولكنها قادتنا بالفعل إلى نمط إعلامي واعد يستحق أن يقف مع وسائل الإعلام الجديد الأخرى، وخلال البحث عثرنا على تدوينة للناقد محمد العباس قال فيها: “أتابع بعض البودكاست التي تعرج على الثقافة فأصاب بحالة من الأسى حيث تكشف معظمها عن جهل فاضح بأبسط المفاهيم الأدبية والفنية، كما تحيل إلى أنوات متضخمة لم تنحت شخصياتها الثقافية بمحك التواضع”.
هذا التعليق، يبدو كتعليق للجرس أيضاً، ولعله وإن كان إيجابياً من حيث تعامله مع البودكاست كمنتج ثقافي قابل للنقد، إلا أنه يدعو لمزيد من تقنين هذا المحتوى في جانبه الثقافي الذي يتعامل معه الكثيرون على أنه مصدر للمعرفة، وأنه يجب ألا يتحول إلى حالة مستمرة من تسجيل الحلقات لمجرد قول شيء ما، مع العلم بأن استسهال النشر يعد مشكلة تواجه الثقافة في منصات كثيرة، بما فيها اليوتيوب، وتجعلها عرضة للمعلومات الخاطئة.
في سياق ذي صلة، وبعد ظهوره في حلقة طويلة على برنامج “فنجان” التابع لمنصة “ثمانية”، عبر الناقد الدكتور سعد البازعي في تغريدة على حسابه بتويتر عن تفاؤله بظهور منصات البودكاست ووصفها بالمؤشر المبهج على الطرح الثقافي الجاد على منصات التواصل الاجتماعي، في حين عبر كذلك عن نقده لبعض النماذج التي احتوتها منصات البودكاست والسناب وغيرهما والتي أشار إلى أنها وقعت في النزعة التجارية الطاغية.
الفضاء الافتراضي.. مولد التجربة ومختبرها
هذه النزعة التجارية التي تحدث عنها الدكتور البازعي، واحدة من عدة انتقادات وجهها مستخدمو الشبكات الاجتماعية إلى برامج البودكاست التي ارتفع مؤشرات إنتاجها بشكل واضح، بدا كما لو أنه يحدث على حساب الجودة وفقاً لعدد من المتابعين الذين طالبوا صناع المحتوى بالتركيز على القيمة والأهمية والتأثير، وأن يحرروا حلقاتهم وبرامجهم من متلازمة “البحث عن المعلنين”.
ولابد هنا أن نشير إلى أن الفضاء الافتراضي الذي شهد مولد تجربة البودكاست وانتشاره، هو ذاته الذي يشكل اليوم أول مختبراتها النقدية، فبين العشرات من التغريدات والتدوينات التي تجتهد في جمع قوائم البرامج المفضلة والتعريف بها، هناك من يقدمون آراءهم المختلفة باستمرار، فبينهم من يؤكد أن البودكاست قد أخذهم لمناطق تفكير ومعرفة غير مأهولة من قبل، وهذا الرأي بالطبع لا علاقة له بنوعية الوسيلة وإنما بإعداد المحتوى، وهو قد يأخذنا إلى منطقة نقاشية ذات طابع فلسفي تطرح فيها أسئلة من قبيل ” هل يقال في البودكاست ما لا يقال في غيره”؟
من حيث المبدأ، بالتأكيد لا، ولكن التجارب التي وصلت إلى الجمهور حتى الآن، صنعت ارتباطاً نفسياً وموضوعياً بين مادة البودكاست، وبين درجة لا بأس من الجودة والعمق، عزز هذا الارتباط العمل الاحترافي الذي يميز أهم قنوات البودكاست وأكثرها تداولاً اليوم، والتي تكاد تضاهي القنوات الإذاعية والبرامج من حيث إخلاصها لمفهوم الصناعة الإعلامية وتقيدها به.
نقاشات الفضاء الافتراضي عامرة كذلك بعدة اقتراحات لتطوير تجربة البودكاست الخليجية والعربية، من أبرزها إيجاد إطار تدريسي وبحثي ملازمين لها، وقيام المؤسسات الأكاديمية بدور واضح، وينتقد بعض المغردين غياب كثير من الأكاديميين، ولاسيما المختصين بالإعلام، عن هذا الوعاء المعرفي الجديد، وأن بعضهم لم يسمع حتى الآن حلقة بودكاست واحدة!
في المقابل، فإن اعتماد البودكاست اليوم على الهواة بصفة كاملة أمرٌ جعلهم يستحقون تقدير وثناء جمهور التواصل الاجتماعي، ولكنه لم يعف الصناع الهواة من تلقي ملاحظات ونصائح تتضمن إشعارهم بعدم الارتهان للاجتهاد وبضرورة تعزيز معرفتهم والاطلاع على التجارب العالمية وإخضاع محتواهم وبرامجهم بشكل مستمر للنقد والتقييم العلمي.
صناع البودكاست على “مايك” المجلة
التقينا في “إذاعة وتلفزيون الخليج” مع عدد من صناع البودكاست، سألناهم عن عوامل نجاح التجربة وأبرز تحدياتها، وعن كيفية صنع الجاذبية في البودكاست كمحتوى صوتي فقط دون وجود العنصر البصري في وقت يزيد فيه الاهتمام باليوميات المرئية والمصورة، كما سألناهم عن مستقبل البودكاست وإمكانيات تأثيره على الواقع الثقافي والإعلامي.
الصوت يتحدى الصورة بالخيال
حاتم البدراني، مقدم “بودكاست أم اللغات” على إذاعة “MBCFM” يقول “من واقع المتابعة للبودكاست يتبين بأن هناك عدد من العوامل التي تساعد على نجاحها، من أبرزها قلة القيود المرتبطة بالسياسات التحريرية والعوامل التجارية، إضافة إلى إمكانية تأسيس بودكاست دون تكاليف عالية، وهي أمور تتيح الفرصة للمبدعين للظهور عبر البودكاست بشكل مميز”.
ويضع البدراني الاستمرارية ضمن أهم التحديات التي تواجه البودكاست، موضحاً “شهدنا خلال الفترة القصيرة الماضية عدداً كبيراً من البودكاست لكن الباقي والمستمر قليل بل وقليل جداً، وكأن الأمر نشوة في البداية تنتهي سريعاً بعد جزء يسير من الحلقات، إضافة إلى تحديات أخرى، منها التطوير في المحتوى، والوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور”.
ويؤكد البدراني، وهو أكاديمي متخصص في الإعلام، أن المحتوى العربي في البودكاست متنوع ما بين الجيد جداً وحتى الضعيف، معتبراً أن هذا التنوع الحاصل في حد ذاته ميزة تثري هذه التجربة، أما فيما يتعلق بافتقاد جانب الصورة، فيقول “الصوت يصحبنا إلى التفكير والإلهام والخيال، في حال تركيزنا على المحتوى الجيد الثري بالمعلومات والغني بالمتحدثين والملامس لأفكار الناس وهمومهم ورغباتهم وشجونهم، وكذلك مشاعرهم، فأعتقد أن المحتوى المميز سيغني عن الصورة، بالرغم من أن كثير من البودكاست تحول كذلك إلى الصورة.”
في جانب آخر، يرى البدراني إمكانية اعتبار البودكاست منافساً للإذاعة ولكن ليس بديلاً لها بأي حال، مؤكداً أن الإذاعة باقية في تفاصيلها المختلفة وتميزها عن باقي الوسائل الأخرى، ومشيراً إلى أن الإذاعة مازالت تحتفظ برونقها وبريقها وميزتها، وأن كل الوسائل التي ظهرت لم تتسبب بإلغاء أي وسيلة قبلها، بل طورتها بما يتناسب مع الزمان والجيل.
ويعلق مقدم برنامج أم اللغات على التأثير الثقافي للبودكاست بقوله “أحياناً بودكاست ناجح يحقق إثراءً ثقافياً واضحاً وعلى مدى بعيد وفي مجتمعات مختلفة، لكن ربما يتسبب الكم الهائل من البودكاست بفقدان نوع من الهوية التي تثري الحركة الثقافية بشكل عام”.
البودكاست يتكامل مع ما قبله ولا يلغيه
معدة ومقدمة بودكاست “الخطة ب” بشرى الداوود قالت إن عوامل نجاح التجربة تكمن في قلة المنافسين، خصوصًا في حال التطرق إلى موضوع جديد، وتضيف “في البحث عن المحتوى العربي مثلاً، مازال هناك مساحة لم يتم التطرق لها في مجالات كالتخصص المهني والرغبة الدراسية”.
في المقابل تبدي الداوود سعادتها بما تجده من ترحيب في مجتمع البودكاست بأي محاولات جديدة، وتوضح “يتفاعلون معنا بشكل سريع ويدعموننا بالأفكار والرأي كما يعيدون نشر حلقاتنا عبر منصاتهم الاجتماعية الرسمية أو الشخصية” وترى أن أبرز التحديات تتمثل في صعوبة الوصول للفئة المستهدفة وصعوبة إيجاد كفاءات للعمل على إعداد الحلقات وإنتاجها، وهو ما يجعل صاحب البودكاست يتعامل معه كعمل تطوعي جانبي بدلاً من التفرغ الكامل له وإخراجه بشكل احترافي.
وتشير بشرى إلى أن جاذبية المحتوى الصوتي تبدأ من تركيزه ووضوح هدفه، الأمر الذي يسهم في الحصول على مستمعين بولاء عال يستمعون البودكاست ويدعمونه، خصوصًا مع سهولة الاستماع في السيارة أو أثناء القيام بأعمال أخرى في نفس الوقت، كما لا تميل إلى اعتبار البودكاست بديلاً لأدوات إعلامية قديمة، بل ترى أنها مكملة لها، وأن المستقبل قد يشهد منصات موحدة تحتوي كل المنتجات الإعلامية معاً.
ما أصعب البودكاست لولا فسحة الأمل
من جانبها تقول صانعة المحتوى الصوتي جوري جلال، مقدمة بودكاست “الفسحة”، إن عوامل النجاح كثيرة جدًّا، مضيفة “لقد أثبت البودكاست أنه وسيلة أقوى مما نتخيل لإيصال أفكارنا من خلاله، بدليل دخول العديد من الجهات الحكومية والأهلية لمجال البودكاست في الآونة الأخيرة، مثل بودكاست “غذاء ودواء” التي تنتجه الهيئة العامة للغذاء والدواء”.
في المقابل ترى جلال أن من أهم التحديات صعوبة إيجاد مصدر دخل مستقل ومستدام يسهم في تطوير البودكاست، وتضيف “رغم معرفة الناس بالبودكاست وأعداد الاستماع الكبيرة ووجود شركات وجهات خاصة بصناعة المحتوى عبر البودكاست، إلا أن ثقافة الاستماع أو ثقافة البودكاست بشكل خاص مازالت بحاجة لثقة المجتمع ودعمه بشكل أكبر”، وتوضح:
“حديثي هنا ليس حصرًا على جمهور المستمعين فقط، بل نحن كصناع المحتوى في هذا المجال حيث بدأنا بشكل عفوي وبإمكانيات بسيطة، لكن مع الوقت أصبحنا نحتاج لدعم مادي ومعنوي لتطوير هذا المحتوى ولتطوير هذا النوع، وإنتاجه للناس بشكل أفضل، لذلك نحتاج من الرعاة والمعلنين وأصحاب الشركات إيماناً أكبر بالاستثمار في هذا السوق”.
وتضيف جوري جلال “أصبحنا نشاهد الكثير من الأشخاص الذين يرغبون في صناعة محتوى،
وكما يقال إن العرب لديهم عادة السماع بالفطرة، هناك العديد من برامج البودكاست العربية التي تنتج بشكل شبه يومي أو أسبوعي، وما يقوم به صناع البودكاست العرب بشكل عام والسعوديون بشكل خاص هو عمل وجهد كبيرين، وبدأ يُقلِّص شيئًا فشيئًا من الفجوة الموجودة بين المحتوى العربي والمحتوى غير العربي عبر الانترنت”.
وتؤكد مقدمة بودكاست “الفسحة” أن أكثر ما يميز البودكاست سهولته، وإمكانية سماعه في أي وقت، ما يجعل من البودكاست وسيلة قوية للتأثير في المتلقي، مشيرة إلى أنه يتميز كذلك بالاختلاف، حيث تعودنا على استهلاك المحتوى المرئي والمصور بشكل كبير، لكن الأمر الذي لم يتعود عليه الكثيرون هو إحداث قصة وإيصال فكرة عبر السماع وحده.
وتصف جوري الحديث عن مستقبل البودكاست بأنه حديث طويل وشيق جدًّا، معلقة “عندما تقرأ عن أرقام وإحصائيات المستمعين، والاستثمارات التي بدأت تضخها الشركات العالمية، ستدرك أن البودكاست هو المستقبل، وهو المادة الأكثر تداولاً خصوصاً لجمهور المحتوى المسموع، وهذا الأمر لا شك فيه، فالبودكاست قادر على إحداث تأثير قوي على الصعيد الإعلامي وعلى المشهد الثقافي أيضًا؛ لأن مختلف برامج البودكاست تحمل في طياتها شيء من العمق في الطرح مع السهولة في المتابعة، وهذا ما يبحث عنه مستمعو البودكاست غالبًا ولا يجدونه إلا في البودكاست”.
وتختم جوري حديثها بالتفاؤل قائلة: “مع توهج الإعلام الرقمي في هذا الزمن، أرى أن البودكاست هو الوسيلة الصوتية الأقوى، حيث قام البودكاست بإعادة تشكيل مستقبل المحتوى المسموع، وأعاد إحياء الراديو بطريقة تتناسب مع تطورات هذا العصر”
قراءة وتحليل.. في نماذج “بودكاستية”
في دقائق قليلة من التجول بمتاجر التطبيقات أو في شبكات التواصل الاجتماعي، ستمتلك تصوراً كاملاً عن مدى انتشار “البودكاست” وما يحققه من تفاعل يومي، وستكتشف بسهولة أن هذا الواقع قد ولد خلال السنوات القليلة الماضية فقط، ومازال يكبر منذ ذلك الوقت، وستتعرف بشكل سريع على أبرز النماذج التي تتصدر مشهد هذه البرامج الصوتية العصرية.
شركة إنتاج في بودكاست
تعد تجربة “ثمانية” من أهم النماذج السعودية والخليجية التي يعد البودكاست أحد منتجاتها ذات الشهرة الواضحة، انطلقت في العام 2016 وهي اليوم “شركة ثمانية للنشر والتوزيع” كما يصفها القائمون عليها، والذين أكدوا أنهم يستهدفون صنع صحافة استقصائية جديدة بمحتوى مرئي ومسموع ومكتوب، وقد تجسد ذلك في برامج واسعة الانتشار مثل “فنجان” و”سقراط” وغيرها، جمعت أحياناً بين تسجيل البودكاست وتصوير الفيديو في حوارات ذات طبيعة عفوية مع ضيوف في مختلف المجالات، فضلاً عن أن “ثمانية” تعد بمثابة مدونة تضم مزيجاً إعلامياً وفنياً من المقالات والأفلام والوثائقيات، شكلت جميعها تنوعاً لافتاً أسهم في اختيار مؤسس ثمانية عبدالرحمن أبو مالح كأحد الفائزين بجائزة الإعلام الجديد في السعودية مطلع العام 2018م.
قصص مسموعة
الكاتبة والأديبة لبنى الخميس، كانت بدورها إحدى الفائزات بهذه الجائزة من خلال بودكاست “أبجورة” وهي تجربة أخرى “تضيء” في أغلب قوائم القنوات الأكثر تفاعلاً على ساحة البودكاست اليوم، حيث بدأت أول حلقاتها في العام 2017م، مؤمنة بأن لدى كل شخص قصة يود أن يشاركها العالم، ولم تستغرق وقتاً طويلاً حتى استطاعت تقديم محتوى احترافي ميّزته بلمستها في الكتابة، فلم تكن سرداً مجرداً بقدر ما كانت تحمل طابعاً درامياً وبنية متسلسلة جعلها تظهر كنص أدبي أو فلسفي مقروء له أجزاؤه وأجواؤه واضحة الملامح، وقد تنوعت موضوعاتها اجتماعياً وثقافياً وكانت لا تخلو كذلك من استضافة متحدثين آخرين ضمن فترة البرنامج.
وجبات استماع شبابية
“ماذا لو كنا نكبر بالعكس، فنصغر كلما مرت بنا السنوات”.. لقطة فكرية تضمنتها إحدى حلقات “مخرج طوارئ” الذي تقدمه عهد العتيبي ضمن البودكاست الشهير “ساندوتش ورقي”، وهو اليوم من الخيارات المفضلة لاسيما لمن يحبون الحصول على محتوى ثقافي تحليلي بلغة سهلة وعميقة في الوقت ذاته، وفي هذا الصدد يمكننا وصف البودكاست بأنه أرض أحلام “اللهجة البيضاء” حيث يبدو جلياً اعتماده عليها في تشكيل صورته الذهنية وتسريع وصوله العقلي للمستمعين.
وفي تجربة مثل “محتوايز” تبدو اللغة الشبابية واضحة، وكذلك هو الحال في العديد من البودكاست التي تهتم برواد الأعمال أو بالمهتمين بألعاب الفيديو والهوايات المختلفة.
بديل القراءة
في جولتك بين عوالم البودكاست، ستجد قناة باسم المفكر المعروف مصطفى محمود، وقنوات للتلاوات القرآنية، كما ستجد قنوات متخصصة في تقديم مقالات لكبار المفكرين والأدباء لتصبح مقالات صوتية متجددة ذات مادة ثرية يقرؤها مذيعون ومذيعات لا يقلون احترافية عن نظرائهم المحترفين في الإعلام، ولعلنا نشير هنا إلى أن بعض الوجوه التلفزيونية المعروفة قد بدأت بالفعل في تقديم برامج “بودكاستية”، ويبدو هذا طبيعياً حين نجد قنوات وشبكات تلفزيونية وإخبارية شهيرة مثل “سكاي نيوز عربية ” قد دشنت بالفعل منصاتها الرسمية عبر البودكاست.
وفي المجمل، نجد أن حلقات البودكاست التي تكون مدتها ما بين ربع الساعة إلى ثلثها، قد تم العمل على الكثير منها بحرص لكي تجعل المستمع، في عصر السرعة، يشعر بالجاذبية الكافية لإكمالها، وللانتقال فوراً إلى حلقة أخرى، أو قناة بودكاست أخرى.
عالم “البودكاست” له مستقبله الكبير الذي يتشكل اليوم في قرية إعلامية صغيرة تكاد تنعدم فيها حدود التصنيف، فهذه البرامج بمثابة الخط الخلفي لفترات البث المباشر، وهي مزيج مسموع من الصحف والمجلات والوثائقيات والتدوين، مزيج لا يمانع في تصويره ليصبح مادة تلفزيونية أحياناً، ورغم سهولة الوقوع في فخ الحديث لمجرد الحديث في تجربة كهذه، إلا أنها قدمت مواد ثقافية احتوت الحكمة والمراجعات والتأملات، كما قدمت المواد الإعلامية التي تُصنع وفق سيناريو ومؤثرات صوتية وبنية إخراجية، وإن كان البعض قد وصفها بأنها أعادت مجد الإذاعة، إلا أنها تبدو حتى الآن كشيء لا يمكن حصره على هذا النحو فقط، لقد شكلت مدارها الخاص، إعلامياً وتقنياً، واستغنت عن عنف المقاربات التنافسية، بعنفوان الدهشة الاستثنائية.