بموازاة إدراك العالم لأهمية خطاب التسامح والإيجابية، ومحاربة خطابات العنف والكراهية، أُعدت مبادرات كثيرة في مجال شبكات التواصل الاجتماعي للسيطرة على خطاب العنف، واستبداله بخطاب أكثر تسامحـًا وإيجابية، وبدا أكبر تأثير في سياسات وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن شكلت (15) منظمة من منظمات المجتمع المدني شبكة لمكافحة بثِّ الكراهية على الإنترنت، وأسهمت في حشد الدعم لإصدار تشريع دولي ضد التمييز على الإنترنت وتبادل المعلومات وأفضل الممارسات، وضمت الشبكة منظمات من بلدان مختلفة بغرض تمكينها من تعزيز المسؤولية والمواطنة على الإنترنت.
وإزاء تلك التحركات الفاعلة من المنظمات المدنية لضبط الساحة الإعلامية من الانفلات والجنوح نحو الكراهية والعنف، بادر موقع “يوتيوب” لإنشاء فريق من (15) خبيرًا يمثلون الشركات الخاصة للاستفادة من خبرتهم في مجال مكافحة خطاب الكراهية، على الرغم من أن موقع “يوتيوب” نفسه كان قد رفض في بادئ الأمر مسح مقاطع الفيديو المثيرة للجدل الديني، إلا بعد أنْ قادت شركة “غوغل” حملة تشديد ضد خطاب الكراهية وأسهمت في حذف (150) ألف مقطع فيديو مثير للجدل الديني من موقع “يوتيوب” عام 2017م، بعدها اكتفت “يوتيوب” في الإبقاء على بعض الفيديوهات، بحيث يمكن الوصول إليها من خلال البحث عن روابطها مباشرة من دون أن تقترحها للمشاهدة على المستخدمين الآخرين.
واتبع “فيسبوك” خطى “يوتيوب” في أغسطس عام 2018م، وقام بإلغاء (6.502.018) حسابـًا يحرض على كراهية أنظمة وسياسات، أما “تويتر” فقد أطلق موقعـًا خاصـًّا لمتابعة وتعرّف أي حساب يقوم بحملات دعائية على “تويتر”، وما إذا كانت ذات توجهات سياسية تسعى للتأثير في الرأي العام أم دعايات شرعية مسوّغة.
ولم تكن وسائل الإعلام التقليدية في منأى من ذلك التوجه، حيث ارتكزت على ما تهيأ لديها من خبرة وباع طويل في الإذاعة والتلفزيون والصحف، وممارسات متميزة، فواحدة من تلك الشواهد على نجاح الإذاعة في مواجهة خطاب الكراهية وإنشاء منبر لتعزيز التسامح قد سُجلت في بروندي من خلال ستديو “ايجامبو” الذي بدأ العمل في عام 1995م، لمواجهة العنف بين الإثنيات عبر تقديم سلسلة من برامج المناظرات والنقاشات والمسلسلات الدرامية والمداخلات بين القادة السياسيين والشباب، وبعد مضي عشرين عامًا تمَّ تكرار نموذج التجربة الإعلامية البوروندية في بلدان إفريقية أخرى من بينها جمهورية الكونغو الديموقراطية، حيث تُستخدم الإذاعة لتعزيز الرسائل البناءة بشأن تسوية النزاعات.
وعالميًّا تُعدُّ ممارسة هيئات حقوق الإنسان في أستراليا ممارسة متميزة، فبعد أن جاءت نتائج مؤشر الثقة في الآخر بنسبة (19%) في المجتمع الأسترالي، قامت بتدريب المواطنين على كيفية إبداء آرائهم في القضايا الإثنية بطريقة تراعي التسامح والتنوع.
وتبقى مسألة إخفاء الهوية في وسائط الإعلام الرقمية أهم عوائق مكافحة خطاب الكراهية في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك برامج إخفاء الهوية وتطبيقاتها، لأنها صعّبت من تتبع ناشري المحتويات والمؤلفات التي تحثُّ على الكراهية والتعصّب.
وفي خضم مساعي المشرعين لتحصين البيئة التشريعية ومواجهة ثغرات المحرضين على خطابات الكراهية والتحايل على القوانين المحلية، ينبغي على وسائل الإعلام التقليدية في الوقت الراهن بأن تكون ذات نفوذ في تطبيق معايير الصحافة الأخلاقية وعرض إنتاجها الإعلامي بأسلوب مهني ومحايد.
كما يتعين على مقدمي خدمات الإنترنت وضع شروط مفصلة للخدمة لإزالة المحتوى المتعلق بخطاب الكراهية والتحريض.
وفي ورقة عمل قدمها إبراهيم التميمي، أثناء انعقاد القمة العالمية للتسامح في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2018م، ذكر عدة توصيات وحلول لمواجهة خطاب الكراهية في مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها برمجة تطبيقات وروبوتات وظيفتها تحليل خطابات العنف والكراهية، قياسًا على التجربة الأمريكية وتطويرها لروبوت يسمى “ديب موجي” تكمن مهمته في تحليل التغريدات والصور ومقاطع الفيديو، وقد استطاع هذا الروبوت تحليل (2) ملياري تغريدة على موقع “تويتر” ونوع الخطاب فيها، كما أوصى الباحث في ورقته بعدم اعتماد الحكومات على البلاغات والشكاوى ضد محتويات المواقع الإلكترونية ومقاطع الفيديو، بل طالب الحكومات بأن تعمل على مبدأ الاستباقية قبل وقوع الحدث.
ونافل القول:إننا في عالمنا العربي لدينا رصيد هائل من قيم الأصالة والشجاعة والكرم وكلها تضعنا في مقدمة الأمم وأكثرها سعـيـًّا لترك الأثر، وهو ما يستوجب على إعلامنا التقليدي، وقبل ذلك علينا نحن عبر حساباتنا الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إبراز تلك القيم العالية لفضائل التسامح والانفتاح على الآخر وقبول الآخر بكل اختلافاته، مع العمل على تطوير بيئة التشريعات المحلية كي تتوافق مع مبادئ وأخلاقيات الإعلام والصحافة العالمية، التي تنادي بعدم مصادرة حقوق الأفراد في التعبير عن آرائهم واختلافاتهم، فثراء المجتمعات يكمن في تنوع تجاربها واختلافاتها لا قولبتها، لكن الأهم من ذلك القدرة على إدارة التنوع فيها باقتدار.