بعد التحولات والتغيرات السريعة التي شهدها ميدان الإعلام والاتصال خلال القرن الماضي، والتي سرعان ما تطورت مع مطلع القرن الحالي، مؤدية إلى ما يعرف بالإعلام الجديد وما تولد عنه من وسائل إعلامية جديدة، بدأ الباحثون يركزون على إيجاد إجابات جديدة تتعلق بكيفية استخدام الجماهير لهذه الوسائل ومدى تأثيرها، خاصة أنها تتميز بالعديد من السمات التي لم تكن موجودة سابقــًا في نظيرتها التقليدية كالتفاعلية وتخطيها لحدود الزمان والمكان.
ومن هذا المنطلق لا بد من مراجعة نظريات التأثير الإعلامي التي برزت في سبعينيات القرن الماضي، وكذا البحث في مدى تأثيرها وقوتها في ظل التحولات والتطورات السريعة التي حدثت في الساحة الإعلامية، وتنامي المميزات والخصائص التي لم تكن موجودة سابقــًا.
لقد أدى الإعلام الجديد بخصائصه العديدة إلى إحداث تغييرات وتطورات في تأثير وسائل الاتصال الحديثة في الجماهير، بخاصة ما تعلق منها بنظريات التأثير الإعلامي القوي، لذا فإننا هنا نطرح تساؤلاً حول مكانة تلك النظريات، كنظرية “حارس البوابة”، ونظرية “دوامة الصمت”، في ظل الإعلام الجديد، وهل لا يزال حارس البوابة يتمتع بنفس التأثير الذي كان يحظى به في الإعلام التقليدي في ظل التفاعلية التي أتاحها الإعلام الجديد؟ وإلى أي مدى يمكن تطبيق دوامة الصمت في ظل خصائص الإعلام الجديد التي حدت من تأثيرها وقوتها؟.
قبل أن نتطرق إلى علاقة الإعلام الجديد بنظريات التأثير الإعلامي لا بد من أن نعرف ما الإعلام الجديد؟.. هو في أبسط تعريفاته الإعلام الذي توَلد من التزاوج بين تكنولوجيات الاتصال الجديدة ووسائل الإعلام التقليدية، والذي أتاح العديد من السمات التي تميزه عن التقليدي، وتعتبر التفاعلية الفارق الرئيس من بين هذه المميزات.
لقد تعددت أسماء الإعلام الجديد ولم تقف على اسم موحد، فمنهم من أطلق عليه الإعلام الرقمي لوصف بعض تطبيقاته التي تقوم على التكنولوجيا الرقمية، مثل التلفزيون الرقمي والراديو الرقمي وغيرهما، أو للإشارة إلى أي نظام أو وسيلة إعلامية تندمج مع الكمبيوتر.
في حين أطلق عليه اسم آخر وهو الإعلام التفاعلي، نظرًا لتوافر حالة العطاء والاستجابة بين المستخدمين لشبكة الإنترنت والتلفزيون والراديو التفاعليين وغيرهم من النظم الإعلامية التفاعلية.
وخصائص الإعلام الجديد عديدة ومتنوعة، أبرزها التفاعلية، حيث يتبادل القائم بالاتصال والمتلقي الأدوار وتكون ممارسة الاتصال ثنائية الاتجاه وتبادلية وليست في اتجاه أحادي، بل يكون هناك حوار بين الطرفين، ثم خاصية اللاتزامنية، وهي تشير إلى إمكانية التفاعل مع العملية الاتصالية في الوقت المناسب للفرد سواء كان مستقبلاً أو مرسلاً.
أما المشاركة فذلك لأن الإعلام الجديد يتيح إلى كل شخص يمتلك أدوات بسيطة أن يكون ناشرًا ويرسل رسالته إلى الآخرين، بما فيها خاصية الكونية، إذ إن بيئة الاتصال نفسها أصبحت عالمية تتخطى حواجز الزمان والمكان والرقابة.
وانتقالاً إلى نظريات التأثير الإعلامي، فتتقدمها نظرية حارس البوابة، إذ ترى هذه النظرية أن المادة الإعلامية تمرُّ بعدة نقاط في رحلتها تسمى بوابات تمَّ فيها اتخاذ قرارات بما يدخل ويخرج، وكلما طالت المراحل التي تمرُّ بها الأخبار يصبح نفوذ مـَن يديرون هذه البوابات له أهمية كبيرة في انتقال المعلومات، وهذه المراحل التي تمرُّ بها الرسالة الإعلامية تشبه السلسلة المكونة من عدة حلقات، وأبسط حلقاتها الاتصال المباشر، وفي كل حلقة في السلسلة مختص ما يتمتع بالحق في أن يقرر ما إذا كانت الرسالة التي تلقاها سيمررها كما هي أم سيزيد فيها أو يحذف منها.
ومن العوامل المهمة التي تؤثر في حارس البوابة معايير المجتمع وقيمه وتقاليده وأنماطه الثقافية، وكذلك المعايير الذاتية للقائم بالاتصال، مثل: “العمر، والطبقة الاجتماعية، ومستوى التعليم، والانتماءات الفكرية”، إلى جانب المعايير المهنية للقائم بالاتصال والتي تتضمن سياسة الوسيلة الإعلامية ومصادر الأخبار المتاحة وعلاقات العمل، لذا فإن القائم بالاتصال في حاجة إلى تحديد جمهوره بدقة وأن تصوّره لهذا الجمهور يؤثر في قرارته تأثيرًا لا يمكن أن نقلل من شأنه.
أما نظرية دوامة الصمت، فإنها تُعدُّ واحدة من النظريات المهمة التي تؤكد على قوة وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام، إذ ترى مطوِّرة هذه النظرية “إليزابيث نويل نيومان، 1974م” أن عملية تكوين الرأي العام عملية دينامية تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام كدور محوري في تكوين الاتجاه السائد حول القضايا المثارة في المجتمع.
وتعتمد نظرية دوامة الصمت على افتراض رئيس فحواه أن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة خلال فترة ما، فإن معظم أفراد الجمهور يتجهون ويتحركون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام، وبالتالي يتكون الرأي العام بما يتناسق مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام.
وبعد أن تعرفنا على نظريتي “حارس البوابة ودوامة الصمت”، نعود إلى المقدمة.. ما مدى تأثير تلك النظريتين في ظل الإعلام الجديد؟
لقد تبين من خلال التدوين وتطور الكتابة عبر الإنترنت الذي مرَّ بعدة مراحل كانت بدايتها بالمنتديات التفاعلية، ثم شهدت الصحافة الإلكترونية طفرة هائلة ثم انتقلت إلى التدوين كتويتر، بأن الإعلام الجديد قد ألغى دور حارس البوابة بحيث أصبح المدون يتحكم فيما ينشر من دون أن يكون هناك أي شخص يملي عليه ما يريده وما يكتبه، كما أنه لا يحتاج إلى إذن من جهات رسمية ليؤسس مدونة، بهذا يكون الإعلام الجديد من خلال التدوين واليوتيوب قد أنهى دور حارس البوابة الذي ظل لفترة طويلة من الزمن يتحكم فيما ينشره الإعلام ويؤثر في الجمهور.
تراجع دور حارس البوابة وتأثيره في تشكيل الاتجاهات بعد ظهور الإعلام الجديد، وما أتاحه من إمكانية الحصول على المعلومات من مصادر مختلفة، بخاصة بعد بروز شبكات التواصل الاجتماعي مثل “الفيس بوك وتويتر والمدونات”، فأصبح الفرد بإمكانه صناعة الخبر بنفسه، ومع ميزة التفاعلية التي أتاحها الإعلام الجديد أضحى بإمكان المتلقي التفاعل مع الرسائل الإعلامية وإبداء وجهة نظره حولها، مما يعني انتقال نظرية حارس البوابة من التأثير القوي والسيطرة على اتجاه وهدف الرسالة الإعلامية إلى التأثير المحدود، بخاصة أن المستخدمين لوسائل الإعلام الجديد يتأثرون ‒ أيضًا ‒ بعوامل معينة تدخل في تحديد مضمون ونوع الرسالة التي يتلقونها، وهذه العوامل تتلاقى مع العوامل التي يتأثر بها حارس البوابة أثناء أدائه لمهامه، ومنها معايير المجتمع وقيمه وتقاليده، ومعايير الجمهور الذي يتفاعل مع منشوراتهم.
أما نظرية دوامة الصمت والإعلام الجديد، فقد جاءت وسائل الإعلام الجديد كمنصة حرة لتبادل الآراء والأفكار والانفتاح على المعتقدات والإيديولوجيات المتنوعة، وهذا الانفتاح على الآخر لم يتعد حدود شبكات التواصل الاجتماعي، التي شعر فيها الفرد بعض الشيء من الحرية في التعبير وتبني الآراء، لكن في غالبيته تحت غطاء الاسم المستعار، فيما لا يزال صاحب الاسم المستعار صامتـًا في واقعه الحقيقي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد استطاع الإعلام الجديد أن يقدم آراء الأقلية الصامتة للعامة من خلال الدلالة على وجود هذا الفكر المختلف وإجبار القراء على الاطلاع عليها، وبالتالي أسهم في التعويد على رؤية هذه الآراء والتعرف عليها وربما يتقبلها ويتبناها مستقبلاً.
هذا يعني أنه في ظل الانفتاح الإعلامي وظهور الإعلام الإلكتروني انتهى تأثير دوامة الصمت وما عادت الجماهير تخشى العزلة الاجتماعية، كما كان سابقـًا في ظل الإعلام التقليدي، فالإعلام الجديد بخاصة شبكات التواصل الاجتماعي وما أتاحته للجماهير من ميزات للتعبير عن الآراء، وإن كانت متناقضة مع آراء الجماعة سواء بأسماء مستعارة أم حقيقية، أدى إلى إبطال الفرضية العامة لنظرية دوامة الصمت، والتي تقول: “يخشى معظم الناس من العزلة وهذا الخوف يدفعهم إلى اتباع الأغلبية في محاولة للتوحد معهم، حتى لو كان ذلك على حساب إخفاء وجهة نظرهم التي قد تختلف مع الأغلبية، وبالتالي التزام الصمت حولها، ليزداد هذا الصمت عندما تعمل وسائل الإعلام على تدعيم آراء الأغلبية”، وبذلك وضع الإعلام الجديد حدًا لهذه العزلة ولتأثير دوامة الصمت، من خلال ما أتاحه من ميزات لم تكن موجودة في الإعلام التقليدي، بخاصة ما يتعلق بالتفاعلية وما أتاحته للجماهير من الحرية في التعبير عن آرائهم المختلفة إزاء القضايا المطروحة.