الهوية البصرية للقنوات الفضائية العربية.. إشكاليات التميز والتأثير الثقافي

أ. د. فايزة يخلف باحثة في الإعلام – الجزائر



مقدمة
مع التطور الهائل الذي شهده ميدان الإنتاج والبث التلفزيوني العربي، ومع تزايد عدد الفضائيات الموضوعاتية والمتخصصة والقنوات الشاملة، أضحت الهوية البصرية لهذه المنابر الإعلامية مسألة مهمة في رسم توجه ورؤية كل قناة وفي صناعة التميز الفني الذي يكفل الربط بين الاتصالي والإبداعي، الإبلاغي والبلاغي، القيمي والجمالي، الجوهري والرمزي.
إن الحديث عن الهوية البصرية (Visual Identity) وما تثيره من تداخل دلالي مع مفاهيم مشابهة مثل (Branding TV) و(Broadcast design) والمصطلح الفرنسي (L’habillage télévisuel) يفرض علينا إلزامية التوقف عند جملة من الإشكاليات من بينها: ما المقصود بالهوية البصرية تحديدًا؟ ما دلالتها في سياق البث التلفزيوني؟ وهل استطاعت القنوات الفضائية العربية أن تحقق لنفسها هوية بصرية متفردة تتماشى مع متطلبات السوق الإعلامي؟ وهل استلهمت هذه القنوات من نظيراتها الغربية؟ أم أنها تحافظ على خصوصياتها الثقافية؟ وما تأثير الهوية البصرية لهذه القنوات على ولاء مشاهديها؟
أولًا: الهوية البصرية: المفهوم والأبعاد الدلالية
تشير الأبحاث الحديثة في مجال الخطاب وإستراتيجيات التواصل البصري إلى أن مفهوم الهوية البصرية متجذر في تاريخ التصميم والفنون، لكنه تطور بشكل ملحوظ مع ظهور العلامات التجارية الحديثة()، واحتل منزلة مركزية في عديد الحقول المعرفية كان أولها علوم التسويق والإدارة ثم العلاقات العامة، ليرتبط بعدها بفنون الغرافيك ومهاراته، وبتطبيقات التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي().
من هنا يمكن أن نستشف معنى الهوية البصرية، فهي ذلك التمثيل المرئي لعلامة تجارية أو مؤسسة، وهي تتكون من العناصر التصميمية والمميزات والخصائص المرئية التي تميز مؤسسة عن منافسيها().
ولأن الهوية البصرية هي ذلك الجزء المحسوس (المرئي) الذي يكوّن الانطباعات والأفكار في أذهان المتلقين، ويشمل عناصر مثل: “الشعار أو رمز العلامة التجارية (Logo)، الألوان (Color palette)، الخطوط (Typography)، التصوير الفوتوغرافي والرسوم (Imagery and graphics)”، فهو كثيرًا ما يرتبط بمجال بلورة “شخصية” المؤسسات التجارية والاقتصادية.
إن المتأمل في فحوى هذا المفهوم يجده أقرب إلى (Graphic design)، الذي يتوخى بناء صورة فريدة تعزز ولاء العملاء من خلال ربطهم بصريًّا بالعلامة التجارية، وهو ما يجعل من هذه التصميمات المرئية إستراتيجية تسويقية تعكس شخصية العلامة التجارية().
وبالنظر إلى متطلبات العمل التلفزيوني التي تقتضي العناية بالعناصر المرئية والصوتية التي تحدد مظهر القناة، مثل: “الشعار، الألوان، الموسيقى والفواصل التلفزيونية”، وقد أثار مفهوم الهوية البصرية جدلًا في مغزى قدرته على استيعاب أبعاد ودلالات “صنعة” الصورة و”صنعة” المؤثرات السمعية، مما حذا بخبراء الاتصال بتعويضه بمفهوم (TV branding).
يختزل مفهوم (TV branding) حمولة دلالية تتعلق بنمط الإبهار المستمر الذي يفرضه التلفزيون على المشاهد، والذي يتشكل من خلال ما تقدمه الصورة بمختلف مكوناتها ويترجمه الصوت في تعالق وظيفي قد يرتقي بقوة وتجليات المعنى، كما يمكن أن ينحدر بمضمون المشهد كما يتمنى المتلقي أن يكون().
من هنا تأتي ثنائية المشاهدة والتأويل بوصفها خاصية تحل محل القراءة والتفسير وتكشف عمليات التأويل للصورة التلفزيونية، مما يضعنا في حالة استقبال دائمة تتسم بالقدرة على النقد تتوافق فيها ممارسة القبول والرفض، وتحدث خلالها – أيضًا – ثنائية التماهي أو الانكفاء، وفي ذلك كله لا يقف الجمهور سلبيًّا، بل يعبر عمليًّا عن ولائه أو عزوفه عما تسوقه له القناة().
ولأن العين تلتقط “صورة” وتعيد تشكيلها عبر الذاكرة وتخزينها، كان تصميم الهوية البصرية للقنوات التلفزيونية على درجة كبيرة من الأهمية، وهو ما يعزز الحقيقة التي تفيد: “كم هي العين سيدة التمكن على العقل”().
على هذا النحو، أضحى (TV branding) من العناصر الحاسمة التي تؤكد أن عالم الإعلام البصري لا يقتصر على المحتوى فحسب، بل تؤدي فيه الهوية البصرية والصوتية للقناة دورًا مفصليًّا في بناء علاقتها بجمهورها، فكيف يسهم (TV branding) في نجاح القنوات التلفزيونية؟ وما أهم العناصر التي تشكل هوية بصرية قوية؟
يشير مفهوم (TV branding) أو الهوية البصرية التلفزيونية إلى جملة العناصر المرئية والصوتية التي تشكل هوية قناة وتساعد على تمييزها عن غيرها، إنها المكون الإيقوني والصوتي الذي يصنع ملامح قناة ويبلور “شخصيتها” لدى الجمهور().
ويشمل هذا المفهوم توظيف عناصر، مثل: “الشعار، الألوان، الخطوط، الموسيقى، الانتقالات اليصرية…” وغيرها من الجوانب التصميمية والفنية التي تعمل في توافق لبناء تجربة إبداعية متناسقة تعزز انطباع الجمهور وتزيد من ولائه للقناة().


وفي هذا السياق، يحيل الشعار (Logo) إلى تلك الهوية الرمزية التي تعكس رؤية القناة وتوجهها، فهو الرمز البصري الذي يعبر عن هوية القناة ورسالتها الإعلامية، والذي عادة ما يتكون من نص “عبارة ألسنية” أو رمز أو مزيج بينهما، يعكس فلسفة القناة ومجالها الإعلامي “إخباري، ترفيهي، رياضي، ديني…”، ويعمل كعلامة مميزة تفرقها عن باقي القنوات في المشهد الإعلامي المحلي والعالمي().
ولأن الشعار هو الواجهة البصرية لأي قناة، يحرص القائمون على المنابر الإعلامية على تصميمه بشكل جذاب ومتفرد يسهم في ترسيخ صورة القناة في ذاكرة المشاهدين ويربطهم عاطفيًّا بها، مما يجعلها جزءًا من ثقافتهم اليومية()، مثل شعار (MBC)، الذي يعكس الترفيه العربي الحديث أو شعار (BeiN Sports)، الذي أضحى رمزًا عالميًّا لمتابعي الرياضة، وكذا شعار قناة (KSA Sports)، الذي يعكس الشغف بالرياضة وروح التفوق.
ويستأثر اللون بمكانة متميزة في تحديد أبعاد ودلالة الهوية البصرية للقنوات، فهو لغة ومدخل فني وسيميولوجي يستخدمه المصممون بعناية، من أجل موافقته ومجال القناة ورسالتها وشخصيتها، مما يجعل لكل لون دلالة تتواءم و طبيعة المحتوى.
وتشير المعاينة النقدية الأولية إلى أن اللون السائد في المشهد الفضائي العربي، هو اللون الأخضر، الذي نجده في عديد من القنوات العربية باعتباره لون الهوية والاستقرار، فهو اللون السائد في القنوات السعودية وبعض القنوات الدينية مثل قناة (Saudi Tv).
ومن الاستخدامات المهمة في هذا الإطار توظيف اللون الأزرق في القنوات الإخبارية ذات الطابع الرسمي لما له من رمزية تتعلق بالهدوء، الموضوعية، والمصداقية، مثل قناة “الإخبارية” السعودية، بينما تلجأ القنوات الترفيهية إلى توظيف مختلف الألوان كالأحمر والأصفر والأخضر، وهو المسعى الذي تبنته قنوات “روتانا” في بناء قاعدة جماهيرية واسعة وتموقع مخصوص في سوق الإعلام الفضائي.
وعلاوة على اللون، يمثل اختيار الخط في تصميم الهوية البصرية للقنوات التلفزيونية عنصرًا إستراتيجيًّا في رسم تميز وتفرد القناة، ولذلك فهو غالبًا ما يكون بتصاميم مرنة تتناسب مع طبيعة البرامج ومحتوى كل قناة، ومن أشهر هذه الخطوط: “خط النسخ، وخط الرقعة، وخط الثلث”، وهي خطوط تستخدم كلها بتعديلات رقمية حديثة لتناسب الشاشات.
ومن أمثلة هذه الخطوط الخط الحداثي المتأثر بالكوفي في قناة “العربية”، والخطوط المختلطة (Hybrid Fonts)، التي توازن بين الأصالة والمعاصرة، وهي اللمسة التيبوغرافية التي نجدها في قناة الحدث.
ومثلما يقوم تصميم الفضاء الإعلامي على المكون البصري، يستند في بنائه – أيضًا – على المؤثرات الصوتية والموسيقى التي تصوغ هوية كل قناة، ومن أنماط هذه المؤثرات: “النغمات الإيقونية” لقنوات الأخبار أو قنوات الأطفال أو القنوات الترفيهية أو الرياضية، وكذا الفواصل الإعلانية “جينيريك” بداية ونهاية إرسال القنوات والهوية المتكاملة للبرامج().
ويُعدّ مفهوم الهوية المتكاملة للبرامج من المفاهيم التي تعكس مدى قدرة القنوات التلفزيونية على الفصل المميز والاحترافي بين البرامج، من خلال التأكيد على الأسلوب البصري والصوتي لكل برنامج، بحيث يكون له شعار، ألوان، خطوط، موسيقى وانتقالات بصرية (Visual Transitions) خاصة به، مما يجعله مميزًا عن غيره، لكنه يظل متناسقًا مع هوية القناة كبرنامج “في الصورة” أو “الليوان” على قناة “روتانا خليجية”، الذي اختص بنمط بصري وموسيقي متفرد لكنهما ظلًا متناسقان مع هوية القناة.
إن هذه العلاقة المشتبكة القائمة بين المكونات البصرية والتوظيف الصوتي، والتي توفرها الشاشة على نحو دائم للمشاهد هي التي تضعنا أمام إشكالات جادة تتعلق بكيفية تصميم هويات بصرية مرتبطة بالأصل متصلة بالعصر، مؤثرة في الجمهور المستهدف، وهو الانشغال الذي يقودنا إلى استنطاق حضور المعنى في “صنعة الفضاء الإعلامي العربي”.

ثانيًا: الهوية البصرية للفضائيات العربية: السمات والمعالم
على الرغم من أن النقاد وخبراء الاتصال يتوزعون على قراءات مختلفة لتجليات المنجز البصري المميز للإعلام الفضائي العربي، إلا أنهم يجمعون على أن تصميم الهوية البصرية لهذه المنابر يعتمد في جله على عناصر ثقافية عربية وإسلامية، وأنه يستخدم ألوانًا مختلفة بغرض تعزيز الإحساس بالانتماء الحضاري والثقافي، وعلى الرغم من ذلك قد لا ينتبه المشاهد العربي لمثل هذه التفاصيل لأنه تعود على تكوين آرائه من خلال تقييمه لجودة المحتوى وطبيعة البرامج والقضايا المثارة فيها().
وعلى الرغم من ذلك تؤكد الدراسات الحديثة أن تصميم الهوية البصرية للقنوات التلفزيونية التي تعكس ثقافة المشاهد تكون أكثر صمودًا في وسط المنافسة من غيرها، وهو ما من شأنه أن يجعل المشاهد أكثر انجذابًا لمحتواها ما يعزز استمرارية متابعته لها.
لهذه الاعتبارات، وتعزيزًا لولاء المشاهد العربي سعت بعض القنوات إلى الحفاظ على هويتها الثقافية، بينما اتجهت أخرى نحو التأثر بالنماذج الغربية في محاولة منها لمواكبة التطورات العالمية لجذب جمهور الشباب مثل قنوات (MBC Action) التي تتبنى هوية قريبة من القنوات الأمريكية.

خاتمة:
نخلص مما سبق إلى أن الهوية البصرية للقنوات التلفزيونية ليس معطى جمالي فني فحسب، ولا هي من أدوات إنتاج فنيات (السمعي/البصري) المضافة، بل هي من أساسيات نجاح القنوات، حيث تؤثر بشكل مباشر على جذب المشاهدين وتعزيز ولائهم، من خلال الاستخدام المدروس للألوان المميزة والشعارات القوية والتصميمات الجرافيكية التي تجمع بين التأصيل الثقافي والحداثة.
وعلى الرغم من أن الاهتمام بالتلبيس التلفزيوني أو (TV branding) قد تطور إلى درجة إنشاء شركات ومدارس متخصصة في هذا المجال، وهو الجانب الذي تنافست فيه الدول الغربية بغية الفوز بالتفرد الإعلامي، لا تزال الهوية البصرية للقنوات التلفزيونية الفضائية العربية تواجه بعض الانتقادات، مثل التشابه الكبير بين القنوات، والإفراط في المؤثرات البصرية وعدم مواكبة التحديث المستمر، مما قد يؤثر سلبًا على تجربة المشاهدة في الفضاء الإعلامي العربي.

الهوامش