لم تعد مهنة الإعلام كما كانت، الجمهور لم يعد يطارد السبق الصحفي، والكاميرا لم تعد بحاجة إلى مصوّر دائم، والمحرر الصحفي بات يشاهد زميلًا رقميًّا يقترح له العناوين، وربما يصوغ له خبرًا أوليًّا، والذكاء الاصطناعي لم يطرق باب غرف الأخبار فحسب، بل استقر فيها، وأعاد ترتيب الطاولات، وحدد الوظائف التي ستبقى، وتلك التي ستتحول، وربما تغيب.
هذا التحول، وإن بدا مفزعًا للبعض، إلا أن في عمقه فرصة تاريخية لإعادة ابتكار الإعلام في العالم، ووصل مداه الإعلام السعودي والخليجي، مما أسهم في تحديد مجالاته وقدراته، ورسم طبيعته وأشكاله وأنماطه، وتجديد مسارات التوظيف فيه بما يتماشى مع طموحات العصر.
في تقرير صدر عن منظمة اليونسكو عام 2023م، حول مستقبل وظائف الإعلام، أشار إلى أن أكثر من (40%) من الوظائف الإعلامية التقليدية حول العالم ستتأثر بفعل أتمتة المهام التي يتقنها الذكاء الاصطناعي، مثل المونتاج، وتحرير الأخبار العاجلة، وتحليل بيانات التفاعل، ومع ذلك، فإن التقرير ذاته أكد أن عددًا من الوظائف الجديدة ستولد، تركز على تحليل البيانات، والإشراف على الأنظمة الذكية، والتدقيق الأخلاقي على محتوى الذكاء الاصطناعي، ما يعني أن التحول ليس تهديدًا صريحًا، بل دعوة للتطور.
في دول مجلس التعاون، حيث يتقاطع الطموح بالتقنية، تأتي تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين لا إقصاء، ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، بدأ عدد من المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل “هيئة الإذاعة والتلفزيون” و”وكالة الأنباء السعودية” باعتماد أنظمة ذكية تساعد في تصنيف الأخبار تلقائيًّا، وترشيح أبرز القصص وفقًا لاهتمامات الجمهور، بل واستخدام روبوتات نصية لكتابة الموجزات الصحفية.
وعلى الرغم من أن هذا قد يقلل من بعض المهام الروتينية، إلا أنه في المقابل يحرر الإعلامي السعودي من قيود التكرار، ويمنحه وقتًا ومساحة للإبداع، والتحقيقات العميقة، وإنتاج محتوى يليق بمستوى الوعي الحديث.
وحين نتأمل تجارب خليجية أخرى، نجد في دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا متقدمًا حيث تم إطلاق أول مذيع افتراضي بتقنية الذكاء الاصطناعي في قناة دبي، يتمتع بمظهر رقمي واقعي ويقدّم الأخبار وفق سيناريوهات يتم تحديثها من خلال قاعدة بيانات ذكية، كذلك قامت مؤسسات إعلامية في دولة قطر ومملكة البحرين بتجربة برامج توليد المحتوى الإعلامي آليًّا بلغات متعددة، وهو ما يدعم الرسالة الخليجية في الوصول لجمهور عالمي متعدد الثقافات.
الإحصاءات تشير إلى نمو وظائف الإعلام الرقمي والتحليل الإعلامي القائم على البيانات بنسبة (27%) في منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بحسب إحصائية صادرة من شبكة التواصل الاجتماعي (LinkedIn) في 2024م، هذا النمو يدفع مؤسسات الإعلام لتوظيف مختصين في تحليل البيانات الصحفية، ومديري إستراتيجيات محتوى معتمد على الذكاء الاصطناعي، ومنتجي محتوى تفاعلي يعملون بالتعاون مع أنظمة التعلّم الآلي. بمعنى آخر، الذكاء الاصطناعي لا يُغلق أبواب العمل، بل يفتح أبوابًا جديدة تتطلب عقليات مختلفة ومهارات مستقبلية.
وفي هذا السياق، بدأت الجامعات الخليجية في تعديل مناهج كليات الإعلام، وإدخال مسارات جديدة في “إعلام البيانات”، و”الإعلام التفاعلي”، و”الذكاء الاصطناعي والاتصال الجماهيري”، في خطوة تهدف إلى إعداد جيل إعلامي جديد قادر على التفاعل مع التكنولوجيا لا التنافس معها، وقد أعلنت جامعة الملك سعود في الرياض مؤخرًا عن إطلاق أول ماجستير متخصص في الإعلام الرقمي الذكي، في شراكة مع مؤسسات تقنية وطنية مثل “سدايا” و”أرامكو التقنية”.
البعد الإيجابي الأهم هو أن هذا التحول يدفع نحو توطين التقنية، فبدلًا من الاعتماد على أدوات أجنبية لا تراعي السياق الثقافي الخليجي، بدأت المؤسسات الإعلامية في تطوير خوارزميات محلية تفهم اللغة العربية بلهجاتها، وتفهم الخصوصية الاجتماعية، وتلتزم بالقيم الخليجية، هذا التمكين التقني يعزز السيادة الإعلامية للمنطقة، ويجعل المحتوى أكثر مصداقية وتأثيرًا لدى الجمهور المحلي والعالمي على حد سواء.
الذكاء الاصطناعي سيغيّر طبيعة العمل الإعلامي، هذا صحيح، لكنه لن يُلغي الحاجة إلى العقل البشري، فما زال الإنسان هو من يُلهم القصة، ويطرح الأسئلة العميقة، ويمنح المحتوى روحه وسياقه، وما تقوم به الجهات التي تطبق تقنيات الذكاء الاصطناعي هو إعادة توزيع الأدوار بين الإنسان والآلة؛ فالآلة تحلل وتفرز وتقترح، والإنسان يبدع ويقرر ويصنع المعنى، وهذه المعادلة، إذا ما أُديرت بذكاء، ستجعل من الإعلام الخليجي نموذجًا عالميًّا في التفاعل مع الذكاء الاصطناعي، لا مجرد متلقٍ له.
في النهاية، الإعلام لم يختفِ، بل تغيّر، والوظائف الإعلامية لم تندثر، بل تطورت، ومنطقة الخليج العربية، بحكم استثماراتها التقنية وسرعة تبنيها للابتكار وشغف شبابها بالتعلم، تمتلك فرصة تاريخية لقيادة مستقبل الإعلام العالمي، لا بوصفها منطقة مستهلكة للتقنيات، بل كصاحبة فكر، وهوية، ونموذج يُحتذى به.
فدول الخليج العربية لا تكتفي بأن تواكب الزمن، بل تصنعه، والذكاء الاصطناعي، في هذه الرحلة، ليس النهاية… بل بداية جديدة لمجد إعلامي ذكي.