“البودكاست” وافد جديد يحمل متناقضات لا حصر لها

عماد عبد المحسن

عندما انتقلت برامج “التوك شو” إلى شاشات التلفزيونات العربية، حدثت نقلة نوعية على مستوى البرامج بشكل عام، وعندما ظهرت على الشاشات شخصيات قادمة من العمل الصحفي لتحاور ضيوف هذه البرامج ازدادت الحوارات عمقًا وأصبحت أكثر فائدة للمشاهدين، وكذلك الحال بالنسبة لبرامج المنوعات التي حاولت جاهدة أن تستعين بعوامل جذب للمشاهدين، وفي ذات التوقيت كادت الإذاعة أن تتراجع لولا أن إذاعات الـ(إف إم) تمكنت من أن تستعيد قوتها لتصبح الوسيلة الأكثر متابعة خاصة لقائدي السيارات.

ثم جاءت المفاجأة وهي برامج الـ”بود كاست” التي تمكنت من الجمع بين كل الحلول التي تتيح للأفراد متابعتها في أي وقت وفي أي مكان، خاصة وأننا نعيش عصرًا متسارعًا يمر فيه الزمن كالبرق ولا يتمكن المرء من اللجوء إلى أي من وسائل الترفيه إلا قليلاً.

وأتاح البودكاست فرصًا كبيرة للتنوع بين السياسة والدين والفن والاجتماع وكافة الموضوعات التي تتنوع اهتمامات المتابعين لها، وكما انتقل كتّاب الصحف إلى شاشات التلفزيون، انتقل الفنانون والكتّاب والمطربون، بل ورجال الأعمال ليقدموا برامج البودكاست ويتسيدوا الساحة الإعلامية المرئية والمسموعة، وصارت رقعة الإعلام أكثر اتساعًا وتنوعًا وتشويقًا؛ لكن تساؤلات عديدة تدور حول الوافد الجديد، إذ لا محاذير من الممكن أن توقف بثه، ولا مهنية إعلامية يعول عليها، ولا وثيقة تتضمن بنودًا يسير عليها القائمون عليه، فلكل محاور منهجه الذي يضعه لنفسه، ولكل ضيف الحق في الحديث كيفما يتراءى له.

الـ”بود كاست” استمرار لطوفان الإعلام الهادر غير المسيطر عليه، والذي تجلى في وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت مصدرًا إعلاميًّا لا يخلو من شوائب الشائعات المغرضة ومن الأخطاء المهنية التي لا حدود لها.

لكن الرأي الآخر يقف إلى جانب التطور الذي لا بد وأن يحدث لا محالة، سواء على المستوى التقني، أو المهني، ونحن – أيضًا – لا يمكننا أن نجابه هذا التطور أو نعمل على إيقافه، ولكن يحق لنا أن نتساءل عن معايير هذه النوعية من البرامج التي ستكون الأوسع تأثيرًا وانتشارًا.

لقد أصبحت العوائد المادية المهولة هي الهدف لدى الكثيرين، والتكسب من وراء “الترند” هو الغاية التي تبرر العديد من الوسائل، ولكن المأسوف عليه هو المشاهد أو القارئ أو المستمع، الذي صار صيدًا سهلاً أمام هذه المغريات التي قد تهبط به إلى بئر عميق.

لذا فمن الأصوب أن تُعقد مؤتمرات فكرية متخصصة لمناقشة هذه الأمور ووضع حلول ملائمة لها، والدعوة إلى تحفيز الجادين من رجال الإعلام إلى تقديم برامج تتسم بالمهنية وتستعين بعوامل الجذب حتى تستأثر بالمتابعين بدلاً من سيرهم خلف برامج سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع، كما يجب أن تضع الهيئات الإعلامية محاذير على هذه النوعية من البرامج حتى لا تنزلق بنا إلى موضوعات لا يصح أن تطرح على المجتمع.

لقد أصبح الآن الأمر سهلاً لدرجة أنك من الممكن أن تبث برنامجك من المنزل أو المقهى، دون اعتداد بعناصر العمل الأخرى من ديكور، وإضاءة ووو..الخ، وتوارى إعداد البرامج وعاد خطوات إلى الخلف، كما اختفى مقدم البرامج المحترف الذي تعلم أكاديميًّا ودرس تخصصات متعلقة بالعمل الإعلامي، وصار الأمر خارج السيطرة أو بالأحرى بدون توجهات متخصصة، وهو ما يجعل العمل الإعلامي في مهب الريح، ما يستدعي التكاتف من أجل الحرص على المتابعين، الذين صاروا عرضة إلى تعميق مفاهيم مغلوطة بداخلهم، وتوصيل رسائل قد تكون مغرضة في بعض الأحيان.

لقد أصبح الإعلام المعاصر محاصرًا بين وسائل تواصل اجتماعي تلهث خلف الملفت من الأخبار والموضوعات دون اعتداد بمدى مصداقيتها، وثورة جديدة في البث البرامجي عبر منصات مغرية من حيث العائد المادي، وأخيرًا المجهول القادم وهو الذكاء الاصطناعي صاحب الوجود المرعب على كافة المستويات.

إن القادم يحمل تقنيات جديدة غامضة ستؤثر حتمًا في مسيرة الإعلام، ولكن الأمر لن يخلو من سلبيات لا ندري إلى أين ستصل بنا؟.