-الثقافة انعكاس لطموح واستشراف الأمم على اختلاف انتماءاتها.
-الإعلام الثقافي العربي سجل تراجعـًا في محتواه وأسلوبه مع انحسار العمل الأدبي.
-يؤدي الإعلام الثقافي دورًا مؤثرًا في حياة الشعوب والأمم، فهو الداعم للمعرفة وركيزة النقد ووسيلة نقل التراث الاجتماعي.
-معظم البرامج الإعلامية الراهنة برامج إعلامية تثقيفية وليس إعلام ثقافي داعم لثقافة الإنسان.
المقدمة
يرتبط تطور المجتمعات البشرية وإنجازاتها الحضارية والفكرية بتطور معنى الثقافة، فثقافة المجتمعات البدائية ليست هي ذات الثقافة التي ظهرت مع المجتمع الصناعي ولا تلك التي تقترن بمجتمعات ما بعد الحداثة (postmodernes)، حيث سيادة العلوم والمعارف وحظوة المخترعات التكنولوجية.
إن الثقافة بالمعنى السابق هي انعكاس لطموحات واستشرافات الأمم على اختلاف انتماءاتها العرقية والدينية، وهي محصلة ما يتزود به الإنسان من معارف وعلوم، وما يحققه لإدراكه وفكره من تقدم وعمق.
وفي هذا الإطار يؤدي الإعلام الثقافي دورًا رياديًّا في تشكيل وتدعيم اتجاهات الأفراد وآرائهم إزاء قضايا الفكر والإبداع والثقافة، بل إن هناك من المفكرين من يربط تطور الوعي النقدي الفكري وانتعاش الثقافة في مجتمع ما بمدى تطور وفعالية الإعلام الثقافي في ذلك المجتمع([1]).
وحرّي التأكيد في هذا السياق أن الإعلام الثقافي العربي قد سجل تراجعًا في محتواه وأسلوبه مع تراجع وانحسار العمل الأدبي النقدي الهادف الذي قادته أسماء كبيرة مثل: طه حسين، وأحمد حسن الزيات، وزكي نجيب محمود، ومصطفى صادق الرافعي، وميخائيل نعيمة، والعقاد … وغيرهم، ممن أثروا الساحة الثقافية والنقدية بأفكارهم التي أوجزت فلسفة معرفة الحياة وكيف نفوز بها، وقدمت للبشرية أسباب تحقيق النجاح والنصر في هذه الحياة وأكدت على أهمية الإرادة والحيوية في تخطي الصعاب وتجاوز العراقيل، وأبانت بوضوح أثر الأخلاق في الوقاية من حالة الانكسار والضعف الذي تعرفه الأمة العربية حاليـًّا.
وحتى نفهم كيف ساد الإعلام الثقافي آنذاك وكيف استطاع أن يدقق في عرض موضوعات شتى بعيدًا عن النوازع الذاتية والتهويمات الشخصية، كان لزامًا علينا أن نتساءل عن معنى الإعلام الثقافي؟ أساسياته؟ وما أهم الرهانات والتحديات التي يواجهها الإعلام الثقافي عربيًّا؟.
الإعلام الثقافي: المفهوم والأبعاد الدلالية
الإعلام الثقافي، هو ذلك الجزء الخاص من الإعلام الذي يهتم بقضايا الثقافة وأسئلة الإبداع، ويناقش قضايا وهموم المعرفة ويطرح أسئلة وإشكاليات الحضارة والهوية وأبعاد الرقي والتطور([2]).
بهذا المعنى يكون للإعلام الثقافي دور مؤثر في حياة الشعوب والأمم، فهو الداعم للمعرفة وركيزة النقد ووسيلة نقل التراث الاجتماعي عبر الأجيال، بالإضافة إلى كونه منظومة لترسيخ القيم الإيجابية وكل ما من شأنه خدمة المجتمع وتحقيق برامجه في التنمية والثقافة، من خلال خطط آنية ومستقبلية وفي إطار رؤى عقلانية ومتأنية([3]).
ها هنا يتبدى الطابع الشمولي للإعلام الثقافي وتتأكد رؤيته الواسعة لمجالات بناء القناعات وتشكيل الرأي، فالإعلام الثقافي ليس لقاءً حواريًّا لمرة واحدة، ولا جلسة نقاش أو قدرة فكرية تمرُّ كعابر سبيل، ولا مقالة صحفية ناقدة سرعان ما يخفت واقعها، إنما هو إعلام يلاحقنا أينما تواجدنا: في الشارع، والبيت، والمدرسة، والجامعة، ووسائل المواصلات، والنوادي، والتجمعات العديدة اليومية، وأحيانـًا أماكن العمل، فالإعلام الثقافي هو كل كتاب جديد يحمل في طياته مادة علمية أو أدبية راقية، وكل إصدار أو منشور يستبطن فكرًا ثقافيًّا هادفًا، وكل ملتقى أو مؤتمر يطرح أفكارًا ويناقش قضايا ومسائل تؤدي إلى مستوى رفيع في الأداء والوعي الثقافي لدى المشارك والمتلقي والمهتم([4]).
مما سبق، يتضح أن الإعلام الثقافي هو ذلك الإعلام المتخصص الذي يوحد بين الثقافة كمضمون وبين الإعلام كوعاء يقدم من خلاله المضمون الثقافي، مستفيدًا من إمكانات الإعلام ووسائله، وهنا تتأكد العلاقة الوثيقة بين الثقافة والإعلام، وتتأكد معها وحدة الهدف القائمة على توصيل المعلومة، فلا ثقافة من دون إبلاغ وتعبير عن محتواها ولا إعلام جيد من دون ثقافة تؤازره([5]).
ولأن الإعلام الثقافي يضطلع في المقام الأول بمهمة نشر الوعي العلمي والمعرفي في أوساط المجتمع، وكذا تنمية المواهب والقدرات الفكرية لدى الأفراد كان من أساسياته الجوهرية أن يعمل على:
-النهوض بالإنتاج الفكري، من خلال تشجيع وإبراز كل أشكال الإبداع والابتكار الفكري، الفني والمادي، ونشره وتوزيعه على أوسع نطاق بين البشر([6]).
-تفجير الطاقات الإبداعية الكامنة في الأشخاص وتمكينهم، كل من موقعه، من الإسهام في الارتقاء بمستوى الثقافة وتهذيب الذوق العام، وحث الجماهير على التفاعل مع كل إنتاج فكري متوازن.
-تبسيط العلوم ونشر الثقافة العلمية ومحاربة الجهل والخرافة وغيرها من المظاهر البالية التي تغرق الشعوب في أوهامها وخرافاتها.
-التأكيد على أهمية الأسلوب والنهج العلمي في حل المشكلات، ومحاربة كل معوقات التقدم والتطور العلمي.
على هذا النحو تؤدي هذه المقاصد إلى تدعيم ديموقراطية الثقافة، وهو ما تعثر الإعلام الثقافي العربي في بلوغه.
رهانات وتحديات الإعلام الثقافي العربي
يعزي النقاد المعاصرون تراجع دور الإعلام الثقافي بالوطن العربي إلى عدم قدرته على التأثير في المجتمع وعدم تمكنه من تقديم ثمرات الفكر والفن والعلم على أوسع نطاق، فالمحتوى الثقافي الذي لا يدفع إلى مزيد من التفوق والإجادة هو محتوى ‒ وفقًا لهؤلاء النقاد ‒ فارغ لا يعمل إلا على إلهاء المتلقي وصرفه عن قضايا جادة وعميقة([7]).
وما يصدق على الإعلام الثقافي المكتوب في هذا المجال، يصدق أكثر على البرامج الثقافية في التلفزيون باعتباره الوسيلة الأنجع لتحقيق التكامل بين فروع الثقافة المختلفة([8]).
فالبرنامج الثقافي الصحيح، هو البرنامج الذي يعمل على الارتقاء بمستوى الثقافة من خلال تبسيطها وجعلها مفهومة، وهذا يستوجب وجود سياسة إعلامية ثقافية هادفة ترتكز على إيجاد توازن بين الأنماط الثقافية شفوية ومكتوبة، مسموعة ومرئية، كلاسيكية ومعاصرة، علمية وفنية.
إن التأكيد على فكرة ارتباط البرامج الثقافية بمفهوم الثقافة لا يبرر بأي حال من الأحوال خلطها بالبرامج التعليمية، فهذه الأخيرة ترتبط بمفهوم التعليم وما يتطلبه من مضامين توجه إلى الكبار في قضايا تتصل بمحو الأمية، أو تعليم اللغات أو التدريب على بعض المهارات([9]).
من هنا كانت الثقافة كما يقول الدكتور طه حسين أوسع من التعليم، وأن كل متعلم ليس مثقفـًا بالمعنى الدقيق للكلمة، وهو الرهان الذي يجعل معدي هذا النوع من البرامج أمام جملة من التحديات، أهمها:
-كيفية بلوغ مستوى ثقافي يؤهل المعد لتقديم برنامج ثري ومفيد، فلا يكون مجرد معد ومقدم بسيط للمادة الثقافية، بل عليه أن يقوم بإثراء وتطوير المادة المراد إيصالها للمشاهد.وفي هذا الخصوص تصبح الثقافة الواسعة والخبرة بالنسبة لمعد البرنامج أهم من المؤهل الأكاديمي.
-أن يتسم معد ومقدم البرنامج بحبـّه وتفانيه في تقديم المادة الثقافية، وهو ما يستلزم بالضرورة أن يكون مثقفـًا وعلى درجة كبيرة من الاطلاع تؤهله لتقديم برنامج ثقافي هادف.
-أن يكون ذو شخصية رزينة، عميقة الفهم، جديرة بالثقة، قادرة على كسب احترام الجمهور، توحي بالعمق الذهني والحضور اللافت.
ولا يرتبط الحضور بمجرد الاهتمام بالمظهر الخارجي والأسلوب واللغة، بل يرتكز بالأساس على ما يمتلكه المقدم من مهارات وقدرات إقناعية، وتصبح هذه المسألة مهمة جدًّا في التلفزيون لأن المشاهد سرعان ما يكتشف ويفرق بين المقدم المتمكن الناضج المتوازن وبين النجم التلفزيوني الذي يلمع فقط من فوق السطح.
-أن يكون ذو بديهة حاضرة، فيقدم المادة الثقافية بكل بساطة ووضوح، بعيدًا عن كل تصنع ومغالاة في عرض الأفكار الثقافية.
-عليه أن يعرف جيدًا طبيعة الشريحة الاجتماعية التي يتوجه إليها، مع توسيع قاعدة البرامج الثقافية ذات الطبيعة الجماهيرية.
خاتمة
بالعودة إلى الضوابط السابقة تفضي المعاينة النقدية لواقع الحال إلى وجود برامج إعلامية تثقيفية وليس إعلام ثقافي عربي داعم لثقافة الإنسان العربي الباحث عن ذاته وعمـّا يحقق له وجوده في إطار العولمة وسيطرة الآخر على أساسيات الفكر.
إن التحدي الكبير الذي يواجه هذا النوع من الإعلام في منطقتنا العربية هو كيفية الحياد عن الرداءة الثقافية التي تبثـّها الفضائيات إلى جمهور عريض يظن نفسه قد أصبح مثقفـًا، وتبقى هويتنا في ثقافتنا العربية الإسلامية هي الامتياز الذي يشكل مع غيره من المقومات التغيير المطلوب.
([1]) Serge Grazioni, La communication culturelle,édition Payot, Paris, 2010, p7.
([2]) عبد الله تايه، الإعلام الثقافي في الإذاعة والتلفزيون، منشورات دار المجد، رام الله، 2006م، ص5.
([3]) المرجع السابق، ص6.
([4]) Pierre Antoine Pntoizeau, La communication culturelle, édition Armond Colin, Paris, 1992, p11.
([5]) Ibid., p12.
([6]) مصطفى المصمودي، النظام الإعلامي الجديد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985م، ص198.
([7]) عبد الفتاح فرغلي، الإعلام الثقافي العربي. أي مستقبل؟، عالم الكتب، القاهرة، 2010م، ص8.
([8]) المرجع السابق، ص9.
([9])سهير جاد، البرامج التلفزيونية والإعلام الثقافي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987م، ص73.