مصطلح “إعلام الأزمات”! هو مسمى معروف مهنيًّا وأكاديميًّا لنشاط ليس حديث النشأة، ارتبط في بداياته بالحروب والكوارث الجسام، إلى أن تدرج ليشمل بشكل عام الصعوبات المفاجئة التي تواجهها الجهات: مؤسسات وأفراد، مما لها صلة بالرأي العام، ولخصوصيته الطارئة والمتجددة، بات لا يستخدم إلا في فترات متقطعة، ووفقــًا لطبيعة الحدث، ومدته، وبالتالي فإن تطبيقه لا يدوم لفترة طويلة؛ وإنما يتوارى عن الأنظار بانتهاء الحالة التي أوجبته، ولعل هذا ما جعله من أقل المصطلحات تداولاً وحضورًا، ليس في ميدان الممارسة الإعلامية بالمؤسسات والإدارات المعنية فحسب، بل وفي أروقة الكليات والأقسام الأكاديمية المتخصصة، وذلك مقارنة بغيره من المجالات الأخرى.
ويُعدُّ إعلام الأزمات فريدًا في تشكله وتشكيله؛ فهو يتطلب تعاملاً مختلفًا في الأسلوب وكيفية صياغة مضامينه، وهو حين يظهر لا ينطلق من الغرض الرئيس في النشر ذي المغزى التسويقي في معظمه، المتمثل في إيصال مزيد من الرسائل الإيجابية، أو تعزيز آثار تراكماتها عبر مفردات شبه متكررة في المبنى أو المعنى، ووفق طرق تسير بانسيابية في اتجاه واحد، لكنه يُصاغ بعناية فائقة وحذرة من أجل إيقاف معول هدم محتمل لجميع ما تمَّ بناؤه في مجال صناعة الصورة الذهنية، وإن كان – وهذه من خصائصه – يتيح للمتمكن منه، والماهر في بحر الاتصال، استثمار المواقف على صعوبتها لصالح الجهات المعنية بها، ليقلب المعادلة ويحول الأزمة إلى نعمة، والمصائب إلى مكاسب.
يثور إعلام الأزمات مباغتـًا كما هو حال الأزمة نفسها التي توقظه بعنف، وذلك بالنظر إلى فجائيتها المروعة، وهو ما يحتم على مـَن قد يتعرض لها أن يكون في أقوى درجات جاهزيته، خاصة أن الأزمة تشكل كابوسًا يهزُّ، وفقـًا لدرجة تأثيرها، كيان الأطراف ذات العلاقة بأسبابها والمتأثرين بها، لذا ليس مستغربًا أن تهرع الإدارة العليا في الغالب إلى نفسها لتخطيط الكيفية الأنسب للتفاعل مع الأزمة بشكل مباشر، وهي – أي الإدارة العليا – إن تمنّعت عن الظهور في الصورة في بداية الأمر، إلا أنها خلف الكواليس، تستنفر كافة أذرعها وتعقد الاجتماعات وتوالي الاتصالات للتحقق من أنها ستتخذ الإجراء السليم، كل ذلك بهدف تقليل حدة الزلزال الذي لم يكن في الحسبان؛ بل إنها في حالات معينة تعلق البرنامج المعتاد الذي تعرض له أو تبطئه، لتصعد مهمة التعامل مع الحدث المربك في صدارة المهام، ذلك أن الجميع يدرك أنها لحظة استثنائية تتطلب تصرفـًا خاصًا مدروسًا كفيلاً بالتصدي لعاقبة نشوء كرة ثلج ثقيلة تعصف بالمقدرات، وتحدث الكثير من الخسائر، وتهدّد المصالح، ما يؤكد أن إدارة الأزمات إعلاميًّا، مشروع محوري يستحق أي جهد يبذل له، أو مال ينفق عليه، بما يضمن امتلاك جهاز مهني فعال، وكوادر بشرية مؤهلة.
لعل من المفارقات التي تحدث في تعاطي الدول أو المؤسسات أو الأفراد مع الإعلام من حيث نشر المعلومات وسرعة الإفصاح عنها، أن مرحلة الأزمة التي يمرُّ بها أي منها، تشكل في الواقع الحالة المثالية للكيفية التي من المفترض أن يتم بها التعامل مع الرأي العام بكافة أطيافه في بيئة العمل الاتصالي، وألا يكون الاهتمام بالإعلام عملية انتقائية؛ بل منظومة متكاملة يتناغم بعضها مع الآخر.
إن مما يؤزّم إعلام الأزمات، أنه على الرغم من عمق التجارب فيه، والعلم الأكيد بآثارها، ونتائجها، إلا أنه لا يقدم وصفة نموذجية موحدة لعلاج ناجع، وذلك لتفاوت المتغيرات فيه، وحساسيتها، والتي يجب أن تتمَّ قراءتها، والتحرك في فلكها وفقـًا لحسابات تتناسب مع طبيعتها، مما يعني أن كل أزمة تتطلب يقظة عالية لمراحل تطورها وتوجهها، ولكن مما يستفاد من ذلك كله، أن هناك جملة أسس وأطر عامة، تشكلت بشكل جيد، فأوجدت أركانـًا مهمة يُستأنس بها لاتخاذ خطوات سريعة عند وقوع أيه أزمة لإيجاد الحلول الفعالة للتصدي لها، وهو ما يجعل بعض الجهات تلجأ إلى تهيئة خطط استباقية، من شأنها أن تقصِّر حجم الوقت المطلوب للتدخل عند الحاجة، بوصفه عنصر التحدي الأبرز والأهم، ومن تلك الخطط إعداد سيناريوهات متنوعة لأزمات محتملة.
هذه المقدمة، تقودنا إلى أزمة الأزمات التي اجتاحت العالم هذا العام، الذي ربما يلقب بها “جائحة كورونا”، فقد جسدت بحق أزمة غير اعتيادية في كثير من سماتها، بدءًا من المتضررين بها، فهي لم تستثن أحدًا: أفرادًا ومؤسسات، ودولاً بكافة مكوناتها، وعلى الرغم من أن القطاعات الصحية تبدو المعنية بها بالدرجة الأولى، إلا أن دائرتها أوسع من ذلك بكثير، فقد شكلت ظاهرة عريضة لأزمات متداخلة، سياسيًّا، واقتصاديًّا ومجتمعيًّا، وعلى ذلك لم يكن مستغربًا أن يتقدم قادة زعماء الدول إلى الصفوف الأمامية لإيجاد الوعي اللازم لتجنب مخاطرها ومحاولة معالجة آثارها الجسيمة، بما في ذلك بثّ الطمأنينة في نفوس شعوبهم، على نحو ما فعل خادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله، حين وجه كلمة عميقة ووثيقة، ذات رسائل مباشرة وشفافة حول الإجراءات المتخذة لمواجهتها، وحول ما يجب على المجتمع القيام به لضمان تضافر الجهود ونجاحها، واكب ذلك كله طوفان نشر غير مسبوق من المعلومات القيمة أولاً بأول، سواء عبر مؤتمر صحفي للمتحدث الرسمي لوزارة الصحة تشاركه فيه مجموعة من متحدثي الجهات ذات العلاقة، وكذا إطلاق حملات متناغمة في هيئة حملة مكثفة شاركت بها المؤسسات الحكومية والخاصة؛ مما أبقى المجتمع على اطلاع تام على المستجدات، يساندهم في ذلك أفراد المجتمع النشطون اتصاليًّا، الذين شاركوا بكم هائل من الرسائل التوعوية عبر شبكات التواصل، ومن خلال النتائج الإيجابية، يمكن القول:إننهج الدولة في معالجة الأزمة شكل في تدرج خطواته وتناغمها، واستباقها لتطورات الأزمة، أسلوبًا استثنائيًّا أدى إلى تقليل الخسائر، وهو نجاح يمكن أن يعرف بـ”النموذج السعودي”.
بطبيعة الحال لم تكن النماذج الدولية متشابهة، بل كانت تتباين بناءً على معطيات مختلفة ومتنوعة، غير أن اللافت منها أن جمهور العالم أجمع أصبح على موعد يومي مع مؤتمر صحفي متلفز حول الجائحة، عبر العديد من المحطات، لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وربما اضطره إلى ذلك، من بين أسباب أخرى تتعلق بإدارة الأزمة، أنها باغتته في فترة تهيئه للترشح لفترة رئاسية ثانية.
كما أن من أبرز الأساليب الإعلامية التي استخدمت في التعامل مع أزمة الأزمات اللافتة، أسلوب (أندرو كومو)، حاكم ولاية نيويورك الأمريكية التي تفشى فيها فيروس الوباء بنسبة مخيفة مقارنة ببقية الولايات، فقد أقدم بذكاء على تكثيف حضوره الإعلامي عبر مؤتمر صحفي يومي، وحوارات متتالية مع أبرز نشرات الأخبار التلفزيونية، ليسلط الضوء على واقع الحالات في الولاية، ويستثمرها في ممارسة الضغط على الحكومة الفيدرالية بالتدخل الفوري لتدارك الوضع الصحي في ولايته قبل انهياره، وهي سياسة حقق من خلالها هدفه، ارتكزت في محورها الرئيس على وضع الدولة إعلاميًّا أمام الأمر الواقع، وتبرئة ساحة الولاية من أية تبعات.
خلاصة الأمر؛ إن جائحة كورونا لم تكن أزمة تقليدية، ولأنها طالت العالم أجمع، فقد عرّفت بنماذج مختلفة ومتعددة في طريقة التعامل معها إعلاميًّا، وهو ما يعني أن الظاهرة أوجدت كمـًّا هائلاً من التجارب التي ستنعكس إيجابًا في ميدان الممارسة، كما وفرت مخزونـًا ثريًا في ساحة البحث العلمي، يجب أن يفيد منه أصحاب الاختصاص الذين سيجدون في منجمه فرصًا وموضوعات عديدة، لدراستها وتحليل أبعادها ونتائجها لسنوات غير قصيرة، ليس هذا فحسب؛ بل إن الجائحة أسهمت بطريقة غير مباشرة في فتح أعين القائمين بالاتصال، وبخاصة مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، على مسؤولياتهم الجسيمة في أهمية التحقق من دقة المعلومات، والاعتماد على مصادر موثوقة يعتد بها، وهو ما أعاد – في رأي
كثيرين – شيئـًا من الاعتبار إلى الوسائل التقليدية، التي شكلت في معظم الحالات مصدر المعلومات الرئيس لسائر المصادر الأخرى، وهو ما ساعد إلى حد كبير في تقليص الشائعات التي تترعرع عادة في أوقات الأزمات ومحيطها.