الذكاء الاصطناعي هو بوصلة الحياة، وهو علامة التفوق والنمو والاقتصاد والريادة، وعلى مدى عقود تمَّ توظيفه في قطاعات متنوعة وكانت آثاره عظيمة في تحقيق وثبات نوعية على أصعدة مختلفة تشمل المبيعات والتوقعات المستقبلية والتعرف على الاهتمامات والشرائح المستهدفة، لكن ماذا عن الإعلام؟!
قبل الحديث عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام لا بد من الإشارة إلى أن من المتوقع أن تضيف التقنية للاقتصاد العالمي أكثر من (15,7) ترليون دولار بحلول عام 2030م، ما يشير إلى مساهمة التقنية واستخداماتها في المستقبل ودخولها في مختلف القطاعات.
إعلاميًّا استخدمت أغلب وسائل الإعلام العالمية تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات محدودة جدًّا للآن مثل تجربة وكالة “أسوشيتد برس” في إنتاج أكثر من ثلاثة آلاف مادة وبالمثل صحيفة “النيويورك تايمز”، والتي تستخدم التقنية في تعرّف شرائح القراء وتطلعاتهم ومن ثم إعداد محتوى بناء على ذلك، فضلاً عن وجود تطبيقات تتيح كتابة نص إبداعي بالكامل ككتابة نص فيلم ورواية وتقارير صحفية وغيرها من أنماط الكتابة الإبداعية من دون تدخل بشري.
والحقيقة أن كل ما ذكر أعلاه لا يعدّ سوى جزء محدود جدًّا من أهمية التقنية وما يمكن أن تقدمه؛ لأنها قادرة على أن تكون في عمق عمليات إنتاج المحتوى وتسويقه وتقدير تطلعات الشرائح الحالية والمستقبلية، ولعل أحد أهم وأنجح تجارب استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام تجربة منصة نتفليكس والتي سنتناولها في هذا المقال بالتفصيل لإبراز أهمية التقنية وكيف نجحت قيادة نتفليكس في توظيف التقنية لتحقيق نمو ضخم في عدد المشتركين من ستة ملايين وثلاثمائة ألف مشترك في العام 2006م لحوالي (200) مليون مشترك في العام الحالي.
يـُعدُّ الذكاء الاصطناعي العامود الفقري لعمل نتفليكس وهو أحد أسباب تقدم ونمو المنصة وزيادة عدد مشتركيها باستمرار، فالمنصة متاحة في أكثر من (190) دولة حول العالم ولدى الشركة أكثر من (100) مليون منتج إعلامي من أفلام ومسلسلات وغيرها، فوجود هذا العدد الكبير من المشتركين بلغات مختلفة في أقطار مختلفة يجعل من إنتاج وإدارة المحتوى وتقديمه لكل شريحة من شرائح المشتركين بما يلائمهم تحديـًّا ضخمـًا جدًّا من الناحية المالية والإدارية والتقنية ولولا توظيف حلول الذكاء الاصطناعي لكان من الصعب إن لم يكن المستحيل النمو والتواجد حول العالم بأكثر من (20) لغة يشكل المحتوى باللغة الإنجليزية قرابة (55%) من إجمالي المحتوى فقط، وفي نفس الوقت تبلغ تكاليف إنتاج بعض الأعمال مئات الملايين فمسلسل (The Crown) على سبيل المثال بلغت تكلفة إنتاج الحلقة الواحدة (13) مليون دولار ومسلسل (House Of Cards)، وتبلغ تكلفة إنتاج الحلقة الواحدة (4) ملايين دولار ونجح في استقطاب أكثر من ثلاثة ملايين مشترك (مليوني مشترك من الولايات المتحدة ومليون مشترك من حول العالم)، كل ذلك يطرح تساؤل مهم وهو أن المنصة لا يمكن أن تغامر باستثمار مثل هذه التكاليف الضخمة في أعمال قد لا تحقق النجاح المطلوب فكيف نجحت المنصة في اتخاذ القرار في إنتاج مثل هذه الأعمال الضخمة والمحافظة على تواجدها العالمي؟
بلغت تكلفت إنتاج المحتوى بنيتفليكس أكثر من (6) مليار دولار سنويًّا وتوفر المنصة أكثر من مليار دولار سنويًّا باستخدام حلول الذكاء الاصطناعي وهو ما مكنها من تحقيق تفوق نوعي من خلال معرفة كل شريحة من شرائح المتابعين وتقديم محتوى يتناغم مع تطلعاتهم، ويمكن إيجاز استخدام المنصة للذكاء الاصطناعي في خمسة مسارات رئيسية على النحو التالي:
المسار الأول: الإنتاج
باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن لنتفليكس اختيار الممثل الأنسب للفيلم أوالمسلسل والمدينة والموقع الذي يتمُّ التصوير فيه والطقس والوقت الأنسب (ليلاً أو نهارًا) وأكثر من ذلك ليشمل تحديد الميزانية التقديرية للعمل وفريق العمل الأنسب ويمتد إلى ما بعد الإنتاج كاستخدام طريقة المونتاج الأفضل والمؤثرات كل ذلك يعطي تصورات واضحة عن العمل ومسارات الإنتاج بما يتوافق مع تطلعات المشتركين ويقلل من إمكانية إهدار موارد مالية في أعمال قد لا تناسب الجمهور.
المسار الثاني: الإعلان
تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحديد الوسائل الإعلانية الأنسب للترويج للمحتوى الإعلامي والشرائح المستهدفة ليضمن تواجد المحتوى أمام الشرائح المستهدفة بدلاً من الاعتماد على خبرات فريق التسويق والتي قد لا تتطور بنفس مقدار التغير في سلوك المشتركين، أو أنهم لا يمثلون مختلف شرائح المشاهدين فكريًّا.
المسار الثالث: الغلاف
ويتمثل في تحديد تصميم الغلاف الأنسب للفيلم، ويتم اختياره باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال تحليل آلاف اللقطات في الفيلم أو المسلسل للحصول على أنسب لقطة لتكون الغلاف ضمن قائمة الأفلام والمسلسلات وأهمية ذلك تكمن في أن الغلاف سواء للفيلم أو المسلسل يؤدي دورًا رئيسـًا في اختيار المشتركين لمشاهدة المحتوى بنسبة تزيد على (80%) وأن عملية بحث المستخدم عن الفيلم تستغرق قرابة دقيقتين، وبالتالي يعدُّ الغلاف أحد أهم أسباب مشاهدة المحتوى، فالاختيار الدقيق للغلاف ينتج عنه مئات الملايين من ساعات المشاهدة يوميًّا.
المسار الرابع: قائمة التوصيات
بدأ العمل على حلول للتوصيات في العام 2006م عندما طرحت الشركة مسابقة بقيمة مليون دولار للأفراد والمجموعات لتطوير لوغارتميات تسهل على المنصة تحديد قائمة المنتجات والمسلسلات الأنسب وإضافة تصنيفات جديدة للأفلام، ونتج عن هذه اللوغارتميات توفير أكثر من مليار دولار سنويًّا وتطوير أكثر من (75) ألف تصنيف ووضع قائمة بالأفلام المناسبة للمشتركين من خلال تحليل نتائج المشاهدين الذين سبق أن شاهدوا نفس الفيلم مما يسهل على المستخدمين مشاهدة المحتوى الأنسب لهم، وكنتيجة لاستخدام التقنية فنسبة دقة التوصيات تصل لأكثر من (75%) وهي نسبة تُعدُّ عالية جدًّا وتسعى المنصة لرفع المعدل لضمان مناسبة التوصيات للمستخدمين وفي نفس الوقت فإن هذا ما يفسر أحد أسباب اختلاف نسخة المحتوى المقدم في كل منطقة في العالم، ومن أهم أهداف توظيف حلول الذكاء الاصطناعي في هذا المسار هو زيادة دقائق المشاهدة وزيادة عمليات البحث عن عناوين الأفلام والمسلسلات الأنسب وزيادة ولاء المشتركين للمنصة والمحتوى المقدم كل ذلك من خلال تحليل نوع المحتوى ووقت المشاهدة والجهاز المستخدم في المشاهدة وطريقة تفاعل الجمهور مع خلال تبني تصورات واضحة عن مدى مناسبة المحتوى للمشتركين، ولذلك من باب المبالغة يقال: إنهيوجد أكثر من (190) مليون نسخة من نتفليكس في إشارة إلى قدرات المنصة على تقديم توصيات مناسبة لكل مستخدم.
المسار الخامس: جودة الصورة
من خلال تحليل البيانات لجميع المناطق يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي معرفة الخوادم الأكثر استخدامًا وقت الذروة ليتم تحويل بعض المشتركين لخوادم بديلة مما يسهم في المحافظة على جودة الصورة والحصول على تجربة مشاهدة مميزة.
الخلاصة: تُعدُّ نتفليكس اليوم أكبر منصة مشاهدة محتوى في العالم ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تنجح نتفليكس في اكتساح أسواق جديدة وضمان توافر المحتوى المناسب لمختلف شرائح المتابعين من دون استثمارات ضخمة في حلول الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يوضح كيف أن صناعة الأفلام في هوليود لم تتطور بشكل كبير خلال العقود الماضية بينما الوضع مختلف بالنسبة لنتفليكس، والسبب في ذلك أن نتفليكس تستثمر قرابة (10%) من إيراداتها في حلول الذكاء الاصطناعي والتي بدورها ترفع من جودة المحتوى المقدم ومناسبته لمختلف شرائح المشتركين، ولا تقف النتائج على ذكر أعلاه على الرغم من أهميته، بل يتعدى ذلك لقياس نسبة مشاهدة الأفلام وعدد الدقائق في كل محتوى ومعدل إتمام مشاهدة المحتوى ومعدل الرضى العام عن المحتوى وغيرها الكثير من المؤشرات التي تعطي تصورات واضحة لتقييم الإنتاج وفي نفس الوقت تمكن المنصة من تجاوز أكبر تحدي يواجهها والمتمثل في المحافظة على ملايين المشتركين شهريًّا من خلال تلبية احتياجاتهم من المحتوى واستقطاب الشرائح الجديدة وليس أقدر من تقنيات الذكاء الاصطناعي في تقدير وتنفيذ الأهداف لا سيما أن التقنيات متوافرة عبر خدمات أمازون للإنترنت، ما يعطي مساحة أكبر لنتفليكس في التركيز على تطوير وابتكار المنتجات، وتعزيز إنتاج محتوى يناسب المشتركين، كل ذلك يمثل طوق النجاة للإعلام مع انخفاض معدلات المشاهدة لضمان استمرار الصناعة في تقديم رسالتها.