التجاذبات الإعلامية والقانونية الحالية بين شركات التقنية العالمية، المهيمنة على يوميات الناس بتطبيقاتها الرقمية، وبين أنظمة الدول الداخلية حول حقوق الملكية الفكرية وإعادة بث المحتوى وصناعة الأخبار، فتح آفاقًا جديدة لإحياء وسائل الإعلام التقليدية وبخاصة الصحافة، من خلال مرحلة إنعاش قد تمدّ الحياة المؤقتة لها وسيجبر الدول على سن قوانين لحماية حقوق المحتوى العابر للفضاء والحدود.
المؤشرات تظهر أن الفترة الذهبية التي عاشتها الشركات الرقمية العملاقة مثل: “جوجل وفيسبوك” وغيرها لفترة من الزمن، قد أوشك على الانتهاء، فها هي الصحافة الأوروبية والاسترالية تنجح في إقناع حكوماتها وبرلمانات بلدانها في سن وفرض قوانين ملزمة ضد هذه الشركات لحملها على الدفع مقابل المحتوى، في إجراء يعد علامة فارقة في فضاء الإعلام الجديد!!.
تأتي هذه التطورات في الوقت الذي تراجعت فيه أسهم وسائل الإعلام التقليدية، جراء خسائرها الفادحة لحصصها في السوق الإعلاني لصالح شركات التقنية، وفي الوقت الذي أوشك الكثير منها على التلويح بكلمة الوداع، ولهذا فإن احتمالية تعميم السيناريو الأوربي والاسترالي بتوقيع اتفاقيات إعادة نشر المحتوى بمقابل مادي يعد إكسير الحياة الذي أعاد الأمل إلى ظهور إعلامي أكثر تنظيماً، وأجدى قيمة ومضموناً.
لقد مرت الصحافة خلال السنوات الماضية بفترة عصيبة، وعملت ما في وسعها للتخفيف من حجم الضرر الذي طالها على كافة الأصعدة، أما وقد لاحت بارقة الأمل في إمكانية الحصول على مقابل مالي مستحق قد يعوض جزء من خسائر عدم البيع، وتكدس الأعداد من دون قراءة، فقد آن الأوان إلى العمل على التحول الرقمي الحقيقي إن أرادت البقاء والانتشار والتوسع المستقبلي، وبخاصة أنها الأدرى بالممارسة المهنية، بصورة تنعكس إيجاباً على نوعية المحتوى وحصريته، وكيفية تقديم صحافة استقصائية جاذبة للمتابعين ومحفزة للمعلنين.
إن التغير الذي يشهده العالم في المجال الإعلامي، يوجب التنبه إلى أنه يشكل ظاهرة قد تقود إلى تعزيز عولمته، على نحوٍ تهيمن وتسيطر فيه الشركات الرقمية على مجتمعات العالم بلا جيوش ومن دون حواجز لغوية أو عرقية أو.. أو..؛ لتكون امتدادًا للشركات المتعددة الجنسيات التي نشأت قبل نحو أربعمائة عام وسيطرت على دول وغيرت حدودها وأنظمتها كأداة استعمارية.
السيطرة على المجتمعات سيكون أكثر ربحًا وأفضل تأثيرًا وبأقل التكاليف بعد أن هيمنت الشركات الرقمية العالمية على المشهد والمشاهد والمستمع والمطلع بلا حدود، وأصبحت توجه المحتوى بلا ثمن!!!.
النيران الصديقة التي صوبتها التقنية على الإعلام التقليدي والصحافة تحديدًا هزت العمل الإعلامي وغيرت مفاهيمه، وأكدت أهمية وحاجة الإنسان إلى المعرفة، وإلى حاجة الدول والتكتلات الدولية والإقليمية إلى التعامل مع ظاهرة عولمة الإعلام وفق قوانين وأنظمة تدرك تفاصيله وتستشرف آثاره ومستقبله؛ صحيح أن الموجة الاسترالية قد تكون الشعلة التي ستعيد حقوق وتنعش وسائل إعلامية تقليدية بعضها تنازع وأخرى تعيش على أجهزة مؤقتة يؤجل جاهزيتها للدفن النهائي وكأن كل سراب هو الماء، غير أن الأكثر تأثيراً هو من يملك المنتج الإعلامي الأكثر حضوراً في ساحة الانترنت!!.
وفي الأخير، نحن متفائلون أن ملاك الصحف وصناع المحتوى، في حال حصلت على حقوقها، سيتوقفون قريباً عن تريد قول المتنبي:
وَالهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ
أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ