مشاهدو التلفزيون: هل يقولون عكس ما يفعلون؟

د. نصر الدين لعياضي

تساءل الكاتب ومؤسس القنوات التلفزيونية المتخصصة في فرنسا، سارج شيسك، في مقال له صدر بمجلة ” ميديا” في 2006، قائلاً: هل يعاني مشاهدو التلفزيون الفرنسي من مرض انفصام الشخصية؟!. 

لقد وُلِد هذا السؤال من قراءته الفاحصة لاستطلاعات الرأي التي أنجزتها، تحت الطلب، بعض المراكز المختصة، لمعرفة آراء المشاهدين الفرنسيين فيما يشاهدون من برامج القنوات التلفزيونية، وللاطلاع على حكمهم عليها، فاستخلص أن ما يصرحون به يتنافى مع ما يمارسونه يوميًا.

لقد لاحظ على سبيل المثال، أن القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي لا تحظى بتقدير الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي، لكن قياس المشاهدة التلفزيونية يثبت عكس ذلك تماما، إذ يؤكد أنها تجذب أكبر عدد من المشاهدين مقارنة ببقية القنوات التلفزيونيّة الفرنسيّة، وبالمقابل يولي الفرنسيون أهمية أكبر للقناة الفرنكو- ألمانية (آر تي) ذات الطابع الثقافي ويبجلونها، في حين أن قياس المشاهدة التلفزيونية يبيّن أن عدد مشاهديها متواضع جداً، وتحتل الرتبة الأخيرة في سلم تصنيف القنوات التلفزيونية حسب عدد المشاهدين، ليس هذا فحسب، بل يذهب الكاتب إلى درجة التأكيد على أن قمة التعارض بين أقوال المشاهدين وأفعالهم تتجلى أكثر في برامج ” تلفزيون الواقع”؛ فأغلب الفرنسيين يجزمون، في استطلاعات الرأي، أنها سخيفة وتافهة وسطحية، ولا يترددون في وصف القناة التلفزيونية التي تبثها بتلفزيون النفايات، لكن نتائج قياس عدد مشاهديها تؤكد تزايدهم باستمرار، خاصة أثناء بث الحلقات الأخيرة من التصفيات بين المتنافسين، ويضيف الكاتب ذاته قائلاً: (لو كان هؤلاء المشاهدين على حق فيما ذهبوا إليه لاستطاعت البرامج الثقافية والفكرية في القنوات التلفزيونية استقطاب أكبر عدد من المشاهدين)، فمسؤولو القنوات التلفزيونية لم يكفوا عن التذمر من البرامج الثقافية التي يُفرض عليهم بثّها لأنها تحولت إلى عامل طارد لجمهور التلفزيون!.

نفي

قد يعتقد بعض القراء أن ما سبق ذكره هي حجج دامغة تدل على أن الفرنسيين يعانون، دون غيرهم، من حالة مرضية في علاقاتهم بقنواتهم التلفزيونية.

لكن الكاتب سارج شيسك ينسف هذا الاعتقاد نافيًا أن يكون المشاهد الفرنسي أو أي مشاهد آخر للقنوات التلفزيونية في العالم يعاني من هذه الحالة المرضية.

ويعلل التعارض بين قول المشاهدين وفعلهم بجملة من العوامل، لعل أبرزها يكمن في المراوغة أو الحيلة للتخفيف من الإحساس بتأنيب الضمير جراء تبعيتهم لتلفزيون أو الإدمان على مشاهدته، فالمواطن الفرنسي يخصص ما معدله ثلاث ساعات ونصف من يومه لمشاهدة التلفزيون، وأن 95% من الفرنسيين يشاهدون التلفزيون يوميًا.

وحالة تأنيب الضمير من التبعية للتلفزيون ظاهرة قديمة ولا تتعلق بشعب دون سواه، لكن وطأتها تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن شريحة اجتماعية وعمرية إلى أخرى.

ويشرح الباحثان البريطانيان المختصان في علم الاجتماع، “دافيد غونتليت” و” آنات هيل” هذه الظاهرة في كتابهما: “الحياة في التلفزيون: التلفزيون، والثقافة والحياة اليوميّة”، الصادر في 1999، أي قبل أن تكتسح شبكة الانترنت الحياة الاجتماعية، بالقول، إن أغلب الناس الذين تسألهم: ماذا فعلتم ليلة أمس؟ يجيبونك بنوع من الاعتذار والأسف: لا شيء سوى مشاهدة التلفزيون، وكأن مشاهدة التلفزيون لا تعني سوى إهدار الوقت، وصرفه فيما لا ينفع، وإن كان القليل منهم يجيبك بالقول إنه تابع نشرة الأخبار التلفزيونيّة، من باب منح نوع من الشرعية للمشاهدة التلفزيونيّة وإعطاء قيمة لما قام به.

                                                 حيل

لعل القارئ الكريم صادفته بعض المراوغات التي يمكن أن تكشف عن سر إصرار البعض على متابعة بعض البرامج التلفزيونية التي يصفها، بإلحاح، بأنها تافهة وساذجة وسطحية.

فبعض الكهول الذين يتذمرون من إدمان أفراد أسرتهم على مشاهدة برامج تلفزيون الواقع، التي يصفونها بأنها تافهة وسخيفة، يتفاجؤون إن قلت لهم: يبدو أنكم تتابعونها أيضا طالما أنكم مطلعون على سخافتها، فيتلعثمون ويرددون على استيحاء قول المثقفين: إنّ فضول المعرفة هو الذي دفعهم إلى الاطلاع على تطور الذهنيات وسلوكيات الجيل الصاعد عبر هذه البرامج.

أما أطرف الحيل في هذا الباب هي تلك التي سمعتها عندما سألت أحد المتذمرين والغاضبين على برامج الترفيه الرمضاني التي بثتها القنوات التلفزيونيّة الجزائريّة عما أجبره على متابعتها طالما أنه يشكو من ضحالتها وسطحيتها وحتى بلاهتها، فأجابني إجابة فلسفية بالقول: إنه الفضول لمعرفة هل أن للتفاهة التلفزيونيّة حدود تقف عندها؟!.

من الممكن أن يجيب المستجوبون عن أسئلة الاستبانة التي توجهها لهم مراكز استطلاعات الرأي، المتعلقة بالقنوات التلفزيونية التي يشاهدونها والبرامج التلفزيونية التي يفضلونها أو التي دأبوا على متابعتها، بما يتماشى مع ” الضمير الجمعي”، أي ينساقون وراء الرأي السائد أو الشائع حتى لا يخرجون عن الإجماع، فيجدّدون عبر إجابتهم انتماءهم إلى الأغلبية الحاضرة بآرائها وأفكارها في النقاش العام.

قيمة

علاوة عن التخفيف من وخز الضمير، يعتبر “سارج شيسك” أن الفصام الذي يعاني منه المشاهد التلفزيوني، إن صحت تسميته كذلك، يحمل قيمة كبرى، إذ يفصح عن عدم رضاه على ما يشاهده، ورغبته في مشاهدة الأفضل، خاصة إذا كانت مؤسسة التلفزيون فقيرة ولا تملك من الإمكانيات ما يسمح لها بشراء المسلسلات والأفلام ذات النوعية الجديدة أو القيام بإنتاجها، هذا علاوة عن وجود تقارب بين ميل المشاهد إلى مشاهدة البرامج الاستقصائية والتقارير الحية إن وُجدت، والتي تعبر عن تفاصيل حياته اليومية، وما يصرح به هذا المشاهد عنها.

إنْ نظرنا إلى موضوع عدم تطابق أقوال مشاهدي التلفزيون مع أفعالهم من زاوية أخرى، نجد أن الكثير من المشاهدين يرون في التلفزيون وسيلة للقضاء على الملل وملء الفراغ حتى بالفراغ، وبعضهم يتعامل مع التلفزيون وكأنه إذاعة، يشغله ثم ينصرف إلى أداء بعض الأشغال في المنزل، ولا ينظر إليه، بل يكتفي بالاستماع إليه من بعيد ليستأنس بالصوت أو الأصوات فقط! هذا فضلا على أن التلفزيون ظلّ موضع سجال متواصل منذ اختراعه، والسبب في ذلك لا يعود لعجز أي قناة تلفزيونية عن الحصول على رضا جميع المشاهدين، فلكل قناة جمهورها أو لكل جمهور قناته، بل لأن التلفزيون عاش ويعيش مفارقة، وهذا خلافا للإذاعة والصحافة والمجلة، إننا نحبه ونكرهه في الوقت ذاته وذلك لحضوره الطاغي في حياتنا اليومية ولاستحواذه على قسط كبير من وقتنا.

لقد ظل التلفزيون ردحًا من الزمن منظمًا لإيقاع حياتنا الاجتماعية والأسرية وفق مؤشر وقت ذروة المشاهدة “Prime Time”، الذي يجمع أكبر عدد من المشاهدين، والذي تحدّد على أساسه أسعار اللقطات الإعلانيّة والبرامج التلفزيونية، علاوة على ما يثيره من توتر داخل بعض الأسر بسبب البرنامج الذي يُفْرض على جميع أفرادها متابعته، فالكثير من البحوث الاجتماعية حاولت معرفة العلاقة بين أفراد الأسر عبر التلفزيون عندما كانوا يجتمعون لمشاهدة برامجه، لقد سعت هذه البحوث إلى معرفة ممارسة السلطة داخل الأسرة، فمن يملك جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون يفرض على الجميع متابعة القنوات التلفزيونية التي يرغب في مشاهدتها لأنه يتمتع بسلطة فعلية على أفراد الأسرة. 

لقد كشف الباحث المغربي، عبد الرحمن الزيري، في أطروحة الدكتوراه التي أعدها بعنوان: “مقاربة اثنوغرافية للتلقّي المباشر لبرامج القنوات الفضائية عبر الأقمار الصناعية في الوسط العائلي المغربي” في 1998، جانبًا من أشكال التفاوض من أجل تحقيق إجماع الأسرة على البرامج التي يشاهدها الجميع معًا، إذ لاحظ أنه بمجرد أن يتراجع دور الوالد في تلبية حاجيات الأسرة بعد زوال دخله المالي أو تناقصه، ويتولى أحد أفراد الأسرة مسؤولية إعالة الأسرة، وليكن الابن البكر، فتنتقل إليه سلطة الفصل في هذا التفاوض.

                                         تعقيد

لا تنفي كل التوضيحات المذكورة آنفًا أن علاقة المشاهد بالتلفزيون أضحت معقدة جدًا، إذ يندرج ما يجري بين المشاهد وما يشاهده على شاشة التلفزيون في خانة الأسرار التي لم تتمكن بعد آليات قياس المشاهدة التلفزيونية من كشفها على الرغم من تطورها ودقتها.

إنها الآليات التي استطاعت الوصول إلى أدق التفاصيل عما يفضله المشاهد ومدة المشاهدة وأوقاتها، ومن يشاركه في المشاهدة، ورأيه فيما يشاهد.

لقد دفعت هذه الأسرار البحوث الاثنوغرافية إلى الطعن في صحة بحوث التأثير المطلق للتلفزيون على المشاهدين، فاهتدت إلى أن مشاهدة التلفزيون سواء كانت فردية أو جماعية )مع الأهل أو الأصدقاء( تظلّ ممارسة اتصالية بامتياز، إذ تتحول إلى ذريعة للتفاعل وإثارة النقاش على هامش ما يعرضه التلفزيون، ومادة لتجديد روابط الانتماء، أو تصبح مجرد وسيط لاكتشاف الذات وتقويمها، حيث يختلط فيها خطاب التلفزيون مع الخطاب عن التلفزيون.

فالخطاب عن التلفزيون، مثلما يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي دومنيك بويي، ليس مجرد نص مشفر يحال إلى عالم السيميائيات ومُحَلِّل المحتوى ذي الكفاءة في فك رموزه، فالمشاهد يحتفظ دائما بهامش يفصله عن خطابات التلفزيون، ويعكس علاقته بهذا الجهاز وبما تثيره فيه برامجه.

إنّها العلاقة التي بدأت تفصح عنها الشاشة الثانية، التي تكون بيد من يشاهد التلفزيون ولا يستغني عنها أبدًا، ويضعها بجانب جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون، وهي شاشة الهاتف الذكي أو اللوح الإلكتروني والذي يتواصل عبره المشاهد مع أترابه أو أصدقائه للتعليق على ما يشاهد على شاشة التلفزيون مباشرة وبشكل متزامن، أو للتعبير عما تثيره المشاهد التلفزيونية أو التصريحات من مشاعر أو أحاسيس، أو تستدعيه من أفكار أو تستحضره من تجارب، فالتلفزيون في آخر المطاف هو مجمل ما يبثّه، أي خطاباته، وكلّ ما نقله عنه، أي خطاباتنا عنه.