يُعدّ مفهوم حوار الأديان مفهومًا قديمًا يعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر الهجري “الثامن عشر الميلادي”، عندما كان الناس يسعون إلى التفاهم فيما بينهم والاستيضاح من بعضهم البعض حول المفاهيم الدينية المتصلة بمفردات الحياة اليومية، وقد تطور الحوار بين الأديان المختلفة باعتباره طريقة إيجابية لبناء مجتمع متماسك ومواجهة النزاعات العرقية والدينية، لكن مع التطورات التقنية ووسائل الاتصال برزت على المواقع الإلكترونية رسائل التطرف في مقابل الترويج لرسالات الأديان وشرحها.
وقد زاد هذا المد المتطرف والسريع عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفتح المجال واسعًا أمام الحركات التي تحمل أفكارًا وأيدلوجيات راديكالية وعدوانية مع غياب الرقابة العامة الواعية، وبالتالي اتضحت القدرة الهائلة لدى التنظيمات المتطرفة في توظيف الإنترنت لتجنيد الشباب وجمع الأموال، وتوظيف بعض الشخصيات الدينية والمجتمعية المؤثرة.
ومع التطورات الهائلة في التقنية ووسائل الاتصال ودخول التصوير الحي والبث المباشر في معادلة الصراع وسهولة القيام به من قبل الأفراد، فإن هناك من استنتج من كل ذلك التعاظم الديني المتطرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأن الدين يعتبر عائقًا في سبيل التواصل أو التعايش بسلام، في مقابل من يرى بأن لتلك الوسائل أهمية قصوى في فتح قنوات الحوار وتبادل الأفكار الإيجابية للوصول إلى نتائج من شأنها الحد من العنف والكراهية.
وما يهمنا كخبراء وباحثين ومهتمين في مجال الدراسات الإعلامية والاتصال أن نرصد المشتركات بين الأديان القادرة على تكريس الحوار في وسائل التواصل وملء فجوة ثقافة الحوار في علم الاتصال، وبيان أهمية وكيفية تواصل مراكز الحوار على شبكات التواصل الاجتماعي، والأهم من كل ذلك شرح دور شبكات التواصل الاجتماعي في توصيل رسائل الحوار.
وقبل أن نخوض في دور المراكز الخاصة بتطوير الحوار بين أتباع الأديان والثقافات حري بنا تذكّر أن الحوار بين الأديان نفسه قد تبلور لأول مرة في عام 1893م، أثناء المعرض الكولومبي العالمي في ولاية شيكاغو الأمريكية، وقد أسهمت العولمة ومظاهر الانفتاح في تزايد الحوار بين الأديان وكذلك بين الثقافات عن طريق إشراك القادة من مختلف الثقافات والديانات بما في ذلك المسلمين والمسيحيين واليهود والسيخ والهندوس مع بعضهم البعض.
ومن جملة المراكز المعنية بالحوار بين الأديان حاليًّا، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
-برلمان أديان العالم (Council For Parliament Of The World’s Religions).
ويُعدّ منظمة تأسست في عام 1988م، ويتم انتخاب مجلس أمنائه من المجتمعات الدينية المختلفة.
-مركز بيركلي للدين والسلام والشؤون العالمية (Berkley Center For Religions Peace And World Affairs)
وهو مركز للأبحاث الأكاديمية بجامعة جورج تاون في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، تأسس في عام 2006م، وهو معني بدراسات الدين والأخلاق والسياسة.
-مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات KAICID)
ويُعدّ منظمة دولية تأسست عام 2012م، يضم كل من: “السعودية، النمسا، إسبانيا، الفاتيكان، بصفته عضوًا مؤسسًا مراقبًا”، وتعمل المنظمة على معالجة التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات، بما في ذلك التصدي لتبرير الاضطهاد والعنف والصراع، والدعوة إلى التعايش انطلاقًا من أن كل الأديان هي أديان سماوية ورسالات للبشر من رب العالمين.
أما الذين لا يتبعون رسالة سماوية، فيشتركون مع أصحاب الرسالات في مجموعة من القيم ومفردات الحياة القويمة، واحترام حق الإنسان وحريته في كثير من المبادئ الإنسانية التي أكدت عليها ودعت إليها الرسالات.
وفي دراسة بحثية حملت عنوان: “أثر التواصل الاجتماعي على حوار الأديان: حادثة نيوزلندا أنموذجًا”، للدكتورة عهود بنت سلطان الشهيل، أستاذ مساعد بكلية الآداب جامعة الملك سعود، بالمملكة العربية السعودية، فقد حللت الباحثة حسابات التواصل الاجتماعي لتلك المراكز المذكورة أعلاه، وأفادت بأن حقيقة مشكلة حوار الأديان على مواقع التواصل الاجتماعي تتمثل في أنها تنفي وجود حوار حقيقي منتج مع الآخر، وإنما هي تغطية بسيطة للمركز ونشاطاته، ومثل هذا يعتبر اتصال أوحد وليس اتصال فعّال بين جهتين، وتعتبر دائرة المتابعين محدودة، بالإضافة إلى نوعية التغريدات التي لا تفتح مجالاً للحوار أو التفاعل.
إن الحوار الأكثر أهمية والناتج عن التفاعل اليومي يكمن من خلال العيش في المجتمع، وذلك يتطلب نشاطاً متبادلاً وإيجاد طرق لتعزيز القيم الإيجابية، خصوصًا بعدما انتشرت الكراهية والتعصب بأساليب إبداعية من خلال طرق غير مباشرة تمس حاجات فطرية كالانتماء.
القاعدة في مفهوم الحوار هي احترام التعدد والتنوع، من خلال إيجاد وعي وتفاهم بين الأديان والتعريف بالهويات بعيدًا عن نقد الآخر وتجريحه، فوسائل التواصل الاجتماعي لديها القدرة على المساعدة في التواصل الفعّال والحوار عن طريق وضع وتطبيق إستراتيجيات التواصل، وإنما يبقى التحدي هو تأهيل العنصر البشري في علوم الدين لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لدعم التماسك المجتمعي ونشر مفردات السلام، دون الإغفال عن ضرورة زيادة وعي الجمهور المتلقي في التفاعل وقدرة وسائل التواصل الاجتماعي عبر ذاك التفاعل الجماهيري في تعزيز الحوار والتفاهم لنبذ الكراهية والعنصرية.
أما عن مسألة تجديد الخطاب الديني عبر وسائل الاتصال التقليدية والجديدة، فإنني أعرض لكم أبرز ما جاء في أطروحة الدكتوراه التي نلت عنها درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة القاهرة، وكانت تحت عنوان: “دور الخطاب الديني في تشكيل اتجاهات الجمهور نحو القضايا السياسية”، ففي تلك الأطروحة ذكرت بأن هناك عدة تحديات تقف أمام مسألة تجديد الخطاب الديني في وسائل الاتصال العربية ومن بينها وسائل الاتصال في الخليج، مردها أن المسألة الدينية وتحديدًا الإسلامية وقعت تحت تأثير التوظيف السياسي للخطاب الديني من قبل بعض الجماعات الدينية المتشددة، دون أن تظهر أو تتبلور مدرسة عربية في التجديد الديني، فما هو موجود لا يعدو محاولات قليلة وغير منتشرة.
ومما لا شك فيه بأن قيادتنا الخليجية على وجه الخصوص، ومن خلال الوسائل الإعلامية والقنوات الاتصالية الرسمية سواء العامة أو المتخصصة تحرص على نقاء الخطاب الديني بكل توجهاته عن الطروحات المتشنجة أو التي تدعو إلى الإقصاء، ناهيك عن نبذ دعوات العنف والتطرف والإرهاب، وتدعو بين الحين والآخر إلى تبني قيم التسامح والمحبة واحترام حقوق الأديان والطوائف الأخرى، ولا تكاد تخلو المواد الصحفية والمضامين الإعلامية عبر التقارير الرسمية، أو ما ينشره الكتّاب والمثقفون والإعلاميون من تأكيد هذه القيم، والتأكيد على أهمية تجديد الخطاب الديني، لكن السؤال يدور حول مدى وجود جهد ممنهج أو برنامج عمل من أجل تجديد الخطاب الديني؟!
لقد خلصت في لقاءاتي الاستقصائية أثناء إعداد الأطروحة مع رؤساء الأوقاف والمشايخ الذين يقومون على إنتاج وتقديم الخطاب الديني في وسائل الإعلام، إلى جانب نتائج الدراسة التحليلية والميدانية التي أجريتها بأن الخطاب الديني لا يزال دون مستوى طموح متابعيه والسبب يعود إلى أمرين، هما:
-عدم وجود جهة مستقلة تُعنى بدراسة ومتابعة الخطاب الديني على أسس علمية قائمة على البحث والدّراسة، بالإضافة لافتقاد وضع برامج وخطط إستراتيجية واضحة تعمل من خلالها جميع وسائل التوجيه والإعلام.
-عدم وجود التنسيق الفعلي بين المؤسسات الرسمية ذات العلاقة المشتركة في وضع خطة واضحة يسير عليها جميع منتسبو تلك المؤسسات في خطابهم الديني، وهذا لا يعني عدم وجود تفاهمات آنية في بعض المناسبات وفي أوقات الأزمات بين تلك المؤسسات، إنما لا يسهم أبدًا في ضبط وتيرة الخطاب الديني والنأي به عن التشدد والتطرف، وعليه فالمؤمل أن تكون هناك هيئة مستقلة عليا من ذوي التخصصات الشرعية المعتدلة والإعلامية يناط بها وضع الخطط الإستراتيجية العامة للخطاب الديني.
ونافل القول نحن بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى الحوار الديني الحقيقي في هذا العالم المتشابك الذي تشترك فيه كل الأديان، إذ لم يعد الحوار مقتصراً على الأمور الدينية البحتة، بل أصبحت الأيديولوجيات الدينية في قلب النقاش المتبادل وتحديداً من دعاة للعيش بسلام إلى صناع السلام والبحث عن الحقيقة في عالم معقد، وليس هناك فرصة أفضل سوى الاستفادة من مناخ حرية التعبير و الثراء الاتصالي المتاح عبر قنوات الاتصال التفاعلية لنشر القيم المشتركة بين الشرائع السماوية السمحة و قيمة قبول الآخر بين كل الثقافات والحضارات الإنسانية.