“لم تتكشف أستار الغيب، ولكن تقدير العزيز الكريم، ولعلها دعوة خفية من والدتي رحمها الله، ساقتني إلى أن أعايش التطور من يومه الأول، فهذه المنظمة التي انطلقت من شقة صغيرة وبعدد يقارب عشرين موظفاً، غدت صرحاً يُشار إليه بالبنان”.
كلمات نقشتها أربعة عقود لشاب متفائل، استلم وثيقة التخرج للتو من جامعة الملك سعود.. دخل منزله وإذا بوالدته (رحمها الله) تخبره أن هناك من اتصل به من جهة لها علاقة بالخليج وتقول “بلغوا أحمد يأتي إلينا بعد غد السبت”، استوعب الشاب الرسالة لأنه سبق أن قدم أوراقه للعمل لدى جهة حديثة يقال لها “مجلس التعاون لدول الخليج العربية”.
كان ذلك قبل أربعين عاماً وتحديداً في الأسبوع الأول من يوليو 1981م والذي صادف الأسبوع الأول من رمضان ١٤٠١هـ.
مبنى صغير، على شارع الستين في حي الملز بمدينة الرياض، حيث مقر مكتب التربية العربي لدول الخليج، وكانت وجهته تحديداً إلى شقة صغيرة داخل ذلك المبنى، استقبله فيها المسؤول الأول عن التوظيف في الأمانة العامة لمجلس التعاون الأستاذ/صالح السماعيل وسلمه خطاباً يتضمن الموافقة على طلبه بالعمل في الأمانة العامة، وذلك قبل أن تتبين معالمها، أو يكون لها نظاماً لشؤون الموظفين وهيكلاً تنظيمياً، بل وقبل أن يكون للأمانة العامة مقراً مستقلاً.
أقل من ثلاثة أشهر كانت كفيلة بأن تنتقل المنظمة من “شقة” صغيرة إلى مقر حديث من ثمانية أدوار في مكان بارز وحيوي يضم معظم الأجهزة الحكومية في المملكة العربية السعودية، وهو طريق الملك عبد العزيز، وكان لذلك الموظف أسبقية بأن يتشرف برفع أعلام الدول الأعضاء على المبنى.
في فبراير 1982م وبرعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله (إذ كان ولياً للعد حينها)، أقامت الأمانة العامة احتفالاً لانتقالها إلى هذا المبنى، وبحضور عدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء، في مقدمتهم الملك عبدالله والأمير نايف رحمهم الله جميعا، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله.
في نهاية عام 1986م، وتحديداً بعد انتهاء قمة أبو ظبي، كان توجيه الملك فهد رحمه الله ببناء المقر الدائم (الحالي) للأمانة العامة، الذي تم انشاؤه ضمن نطاق الحي الدبلوماسي، خلال وقت قياسي تم إنشاء الصرح الذي أصبح من معالم الحي في الرياض، فاستقر به الموظفون في أكتوبر 1987م، وحظي بزيارة أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس خلال مشاركتهم في قمة الرياض ديسمبر 1987م، وكان في استقبال القادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز امير الرياض في حينه حفظه الله.
معايشة العمل الفعلي
معايشة هذه التطورات السريعة، في مشهد خارج إطار عملك وهو المقر، مؤشر إيجابي يشعرك كأنك جزء من هذا الكيان، فكيف إذا كنت جزء من بدايات عمله الفعلي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أول أيام عملي بأمانة مجلس التعاون كلفني الأمين العام بإرسال برقية لوزارات الخارجية بدول المجلس بشأن الموعد المقترح للدورة الأولى للمجلس الوزاري، وكانت فرصة لي أن أتعرف أولاً على أسماء وزراء خارجية دول المجلس، ثم على آلية جديدة لم يسبق لي معرفتها وهي، التحضير لاجتماع وزاري وتوجيه الدعوات، وتفاصيل أخرى تتعلق بطبيعة عمل الأمانة العامة.
وفي يوم الإثنين 31 اغسطس 1981م عايشت فعاليات اجتماع المجلس الوزاري في دورته الأولى بفندق الشيراتون في الطائف، برئاسة الأمير سعود الفيصل رحمه الله، والتي تم خلالها الموافقة على تعيين السفير إبراهيم الصبحي مرشح سلطنة عمان ليكون أميناً مساعداً للشؤون السياسية، والدكتور عبدالله القويز مرشح المملكة العربية السعودية لمنصب الأمين المساعد للشؤون الاقتصادية.
وخارج جلسات الاجتماع، عملت مع فريق الأمانة العامة على استعراض بعض التصاميم المقترحة لاختيار شعار مناسب للأمانة العامة، ونظراً لضيق الوقت فقد تكفلت وزارة الخارجية السعودية باستكمال هذه المهمة قبل انعقاد الدورة الثانية للمجلس الأعلى، والتي عقدت في مدينة الرياض، برئاسة الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله في العاشر من نوفمبر 1981م. والتي تم خلالها المصادقة على الاتفاقية الاقتصادية بين دول المجلس.
وبعد القمة، ومن مميزات أن تكون مع فريق التأسيس، استدعاني الأمين المساعد للشؤون السياسية، لأكوّن نواة إدارة الإعلام، التي نص الهيكل التنظيمي أن تكون إدارة ضمن قطاع الشؤون السياسية.
وإن سُئلت يومًا عن السبب الذي دفعني للتوجه لهذه المنظمة التي لم تكن ملامحها قد تبينت بعد على رغم الفرص العديدة في حينه؛ سأجيب:
“ما كانت كل هذه الأولويات وغيرها الكثير أن أعايشها أو أكون جزء منها لو لم تكن إرادة الله بأن أتقدم للعمل بهذا الكيان قبل أن تتضح معالمه”.
والله الموفق