“التلفزيون يبلّد الأشخاص المثقفين، ويثقف الأشخاص الذين يعيشون حياة بليدة”، بهذه الجملة حكم الفيلسوف الإيطالي ” أومبرتو إيكو” على التلفزيون.
نعتقد أنه لا يوجد من يستطيع أن يتهم هذا الروائي والباحث الإيطالي بجهل عالم (السمعي/البصري)، وبعدم التمييز بين الأنظمة التلفزيونية في العالم.
ربما كان حكمه هذا يحمل تنبؤًا بما تؤول إليه التحولات التي يعيشها التلفزيون المعاصر التي تهدد بالقضاء على الفروق القائمة بين أنظمته، أو بالأحرى بين نظاميه الأساسيين: نظام التلفزيون التجاري، وتلفزيون الخدمة العمومية، أي التلفزيون الرسمي الناطق باسم الدولة، وليس ذاك الذي يقوم بدور اللسان الناطق باسم السلطات التنفيذية في بلد تتناوب فيه الأحزاب الفائزة في الانتخابات البرلمانية على إدارة هذه السلطة.
ففي نظر الباحثين ومحترفي العمل الإعلامي في الدول الغربية لا يعقل أبدًا أن يظل التلفزيون، الذي هو أصلاً مرفقًا عامًا، حكرًا على الحزب السياسي الذي يشكل الحكومة فيتلاعب به كما يشاء، ليسلمه لحزب آخر ليفعل به الشيء ذاته عندما يفوز بدوره في الانتخابات.
بالفعل إن التقارب الكبير بين النوعين المذكورين من أنظمة التلفزيون والذي يوحي بتطابقهما في المستقبل القريب، دفع الكثير من محترفي العمل التلفزيوني والباحثين إلى الحديث عن أزمة تلفزيون الخدمة العمومية، فما هي مظاهر هذه الأزمة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الإشارة أولاً إلى أن الخدمة العمومية في القطاع (السمعي/البصري) شكلت هاجسًا سياسيًّا ومعرفيًّا، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، في دول أوروبا الغربية بعد أن أقدمت فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا، وغيرها من الدول على إعادة التنظيم القانوني للبث الإذاعي والتلفزيوني، وفتحت قطاع (السمعي/البصري) للاستثمار الخاص، فظهرت العديد من القنوات التلفزيونية التجارية التي أصبحت تهدد وجود تلفزيونات الخدمة العمومية، مما عزّز التخوّف من أن يقع مصير التلفزيون والإذاعة في يد السوق، ويحرم المواطنين (المستمعين والمشاهدين) من حقهم من الإعلام عمّا يجري في بلدانهم من أحداث، ويمنعهم من التعبير عن ثقافتهم وتراثهم الوطني.
لكننا نلاحظ اليوم أن الحديث عن تلفزيون الخدمة العمومية قد خفت إلى درجة أنه لم يعد يُسمع حتى في الدول التي وقفت ضد مشروع إلحاق قطاع الثقافة والإعلام باتفاقية منظمة التجارة العالمية في تسعينات القرن الماضي، رافعة شعار: “لا نريد تلفزيونـًا مصنوعًا في اليابان يبث برامج أمريكية”!.
ما الخدمة العموميّة؟
تتفق جلّ القواميس على أن الخدمة العمومية هي نشاط تمارسه الدولة عبر مؤسساتها المختلفة تجسيدًا لسيادتها على القطاعات الإستراتيجية: الدفاع والأمن الوطنيين، والقضاء، والمالية العمومية خدمة للمنفعة العامة، وحماية هذه القطاعات من الخضوع لمنطق السوق، ويمكن للدولة أن توكل هذه الخدمة لمؤسسات أخرى لتقوم بها نيابة عنها وفق صيغ قانونية مختلفة: منح الصلاحيات والتراخيص، وفرض دفتر الشروط، ومراقبة الاستثمار وتوجيهه، وتحديد الأسعار، وتتسم الخدمة العمومية بالخصائص الثلاثة التالية: الاستمرارية، والمساواة، والقدرة على التكيّف مع تطور المجتمع ومتطلبات المستخدمين والمواطنين.
يُعرّف تقرير منظمة اليونسكو المعنون بـ: “إذاعة وتلفزيون الخدمة العمومية: انتقاء الممارسات الجيدة”، الصادر في عام 2005م، تلفزيون الخدمة العمومية بأنه التلفزيون الذي يتوجه إلى كل فرد باعتباره مواطنًا، وتسهم في توسيع معارفه، إنه أداة للإعلام والتربية، يتجه إلى الجميع ويكون في متناولهم بصرف النظر عن مكان تواجدهم ومكانتهم الاجتماعية، ولا تقف مهمته عند الإعلام والإخبار، بل تمتد إلى الثقافة وتقديم مواد ذات نوعية جيدة تميّزه عن التلفزيون التجاري.
ونظرًا لأن وجود تلفزيون الخدمة العمومية غير مرهون بعائده المالي، فإنه يتسم بالمبادرة، والجرأة والتجديد وحب المخاطرة، فيتجه إلى ابتكار قوالب تعبيرية جديدة، ويقدم أفكارًا غير مسبوقة ينافس بها التلفزيونات التجارية، ويقدم مواد ترفيهية رصينة وهادفة، وبهذا يفرض معيارية جديدة في المشهد التلفزيوني.
لقد وجدت ضرورات تاريخية فرضت الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون تأتي على رأسها محدودية موجات البث الإذاعي والتلفزيوني، مما يتطلب تدخل الدولة لتنظيم البث وتوزيعها بما يضمن حق المواطن في الإعلام والثقافة.
بيد أن البعض لم يفهم من هذه الضرورة سوى أن التلفزيون العمومي وليد احتكار الدولة ويمارسه، بمعنى أن الدولة هي التي تموله وتديره وتراقب ما ينشره، بينما المرجعية التاريخية، كما عبر عنها التقرير المذكور، تؤكد على ضرورة التزامه بجملة من المبادئ، منها التنوع الذي يقصد به التعبير عن التنوع الذي يميّز جمهوره الفعلي أو المستهدف، وتقديم برامج مختلفة لتلبية حاجات الجمهور: برامج موجهة للأطفال والمرأة والشباب والشموليّة، بمعنى جعل برامجه في متناول جميع المشاهدين دون أي إقصاء.
فالتلفزيون الذي تكون برامجه مشفرة وتتطلب مقابلاً ماليَّا لمتابعتها لا يمكن وصفه بتلفزيون الخدمة العمومية، وذلك لأنه يقصي الفئات التي لا تملك المال الذي يسمح لها بمشاهدة برامجه.
والاستقلالية والإنصاف أي عدم تبعية تلفزيون الخدمة العمومية لأي حزب أو قوة مالية لخدمة أهدافها المنافية للمنفعة العامة أو التي تفرض عليه التحيز ضد فئة من المشاهدين دون تمكينها من الرد أو التعبير عن وجهة نظرها.
والخصوصية؛ أي على تلفزيون الخدمة العمومية امتلاك شخصية تميّزه عن التلفزيون التجاري وتتجسد أولاً في هويته المرئية المختلفة، ثم في مضمون برامجه الجادة والمفيدة.
قد يقول قائل إن هذه المبادئ ضرب من الخيال، ولا يمكن لأي قناة تلفزيونية أن تلتزم بها التزاما تامًا.
حقيقة، إن تجسيد الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون واجهته العديد من الصعوبات منها ما هو تشريعي “تحديث القوانين لتواكب تطور الممارسة الإعلامية وتحولات المجتمع”، وما هو اقتصادي “ضمان الاستقلالية المالية” لتمكّنه من منافسة التلفزيون التجاري، لكن على الرغم من هذه الصعوبات إلا أن التجربة التاريخية تؤكد بأن الخدمة العمومية ليست أضغاث أحلام أو طلب المستحيل من القنوات التلفزيونية، إنها فكرة نبيلة وطموح سام تجسد تدريجيًا في العديد من البلدان تأتي في مقدمتها بريطانيا عبر نموذجها المرجعي: الـ(بي بي سي)، ووصفة المرجعي لا تعني إسقاط الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية لكل بلد من حساب الخدمة العمومية.
ففي البلد الذي تتعدد لغاته الرسمية مثلاً تعمل الدولة على إنشاء أكثر من قناة تلفزيونية ذات الخدمة العمومية تبث كل واحدة منها بلغة معينة، كما هو الأمر في كندا أو بلجيكا، والبلد الذي يشعر أن ثقافته الوطنية أو هويته مهددة في وجودها تعمل دولته على توجيه تلفزيون الخدمة العمومية إلى إحياء عناصر هذه الثقافة أو الهوية لدى جمهوره، مثل اللغة، والفن، والموسيقى، والغناء، والشعر، والطبخ، واللباس التقليدي، والعادات والتقاليد، والألعاب الشعبية، والهندسة المعمارية، والدفاع عنها بشتى السبل، الأمر الذي يتردّد التلفزيون التجاري عن القيام به ما لم يحقق من ورائه عائدًا ماليًّا مربحًا، وتوجد بعض القنوات التلفزيونية تبث برامج تعليمية مستقاة من المقرر المدرسي لصالح الفئات المحرومة التي يعاني أطفالها من العزلة التي تحول دون التحاقهم بالمدارس، وتعتقد أن هذه البرامج تندرج في خانة الخدمة العمومية، بمعنى آخر، إن تلفزيون الخدمة العمومية هو صوت المجتمع المسموع.
أين الخلل؟
إن غياب تلفزيون الخدمة العمومية أمام فيض قنوات التلفزيون التجاري لا يعني تسليع الإعلام والثقافة – أي تحويلهما إلى سلعة – فحسب، بل يقضي على التعددية الإعلامية وتنوعها، ووجود هذا التلفزيون علامة صحية في المنظومة الإعلامية، ولا يمكن تقدير قيمة غيابه ما لم نلتفت إلى ما أشار إليه “برترون لاباس”، أستاذ الإعلام في المعهد العالي بجامعة ليل الفرنسية، بقوله: إن الانجراف الإعلامي والمعلوماتي الذي يميز عصرنا الحالي سينتهي بإحداث فجوة على الصعيد المعرفي وليس التقني بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون ولا يبالون بذلك”.
يؤكد الكثير من الباحثين بأن المنافسة الشرسة بين القنوات التلفزيونية للاستحواذ على أكبر عدد من المشاهدين من أجل رفع حصتها من عائدات الإعلان قد يدفعها إلى الابتعاد عن المواضيع الخلافية والتوجه إلى بث البرامج التي تحقق الإجماع أو على الأقل التوافق بين المشاهدين، مثل نقل مباريات كرة القدم، وبرامج الألعاب والمسلسلات التلفزيونية، والأخبار الخفيفة التي تتسم بقيمتها الدرامية وطابعها الغريب.
ففي هذا الإطار لاحظ “إريك داراس”، أستاذ العلوم السياسية بفرنسا، أن القنوات التلفزيونية الفرنسية المختلفة، بصرف النظر عن نظامها القانوني: تجارية أو ذات الخدمة العامة، قد رفعت بثلاث مرات عدد الأخبار الخفيفة والغريبة والشاذة المتعلقة بالجريمة والفضائح التي بثتها خلال الفترة الممتدة ما بين 1995 و2004م، ويعتقد أن هذا الأمر ليس بريئًا بالمرة لأن هذه الأخبار تدر العاطفة ويتابعها بنهم عدد كبير من المشاهدين، ولا تتردد القنوات التلفزيونية عن بثها لأغراض تجارية محضة، بينما من المفروض أن يبثها تلفزيون الخدمة العمومية باعتدال، ويستثمر ما تثيره من عاطفة ومشاعر من أجل تحفيز المشاهدين على التفكير في أوضاع المجتمع وحال الناس.
مظاهر الأزمة
لا يرى البعض أي ضرورة لوجود تلفزيون الخدمة العمومية بعد زوال السبب التاريخي المذكور أعلاه، فالتكنولوجيا الرقميّة قضت على ندرة موجات البث الإذاعي والتلفزيوني وسمحت بوفرتها، مما قد يعفي الدولة من التدخل لتوزيعها، خاصة وأن هذه الأخيرة قد رفعت يدها عن الكثير من القطاعات، وأن عدد المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية تزايد بشكل كبير، بل أصبح بإمكان أي شخص أن ينشئ محطته الإذاعية وقناته التلفزيونية عبر شبكة الإنترنت.
تراكمت مجموعة من الصعوبات التي أصبحت تواجه تلفزيون الخدمة العمومية، يأتي في مقدمتها شحّ الإعانات المالية التي تقدمها الدولة له أو التي يحصل عليها من المشاهدين كرسوم، ممّا يجبره على البحث عن مصادر تمويل بديلة أو مكملة؛ أي اللجوء إلى الإعلان، وهذا يعني الدخول في منافسة مع التلفزيون التجاري والتي تؤدي به إلى تقليد، وهذا ما حدث بالفعل، حيث لاحظنا أن العديد من قنوات تلفزيون الخدمة العمومية اقتفت آثار التلفزيون التجاري وأصبحت تنتج وتبث ما تميز به مثل برامج تلفزيون الواقع كالأخ الأكبر، وستار أكاديمي، وغيرها.
إذًا المظهر الأول لأزمة تلفزيون الخدمة العمومية يكمن في اضطراره للاختيار بين الاستمرار في بث البرامج ذات المنفعة العامة وغير الربحية، وبالتالي تقليص عائده المالي أو العمل على تحقيق أكبر قدر من عائدات الإعلان، وبالتالي التفريط في مسؤولياته المتمثلة في تقديم مواد ثقافية هادفة بأسلوب راق، وإعلام نزيه، فأمام السيل المتدفق من الأخبار على تلفزيون الخدمة العمومية أن يثبت اختلافه عن التلفزيون التجاري في مجال الإعلام، إذ يتوجب عليه انتقاء الأخبار بعد غربلتها وترتيبها وفق سلم من الأهمية دون الأخذ بعين الاعتبار مقولة “هذا ما يريده الجمهور”، بل بالنظر إلى دور الأخبار في تكوين الحس المدني لدى المشاهد، وتطوير إحساسه بالمسؤولية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، على تلفزيون الخدمة العمومية التنقيب عن الأخبار في مناطق الظل التي تتستر عليها الشركات التي تمنح الإعلانات ويغض التلفزيون التجاري النظر عنها، ليس هذا فحسب، بل على قنوات تلفزيون الخدمة العمومية أن تعي بأن الجمهور المعاصر يختلف عن جمهور نهاية القرن الماضي الذي يراه ميشال مونوتي، المذيع في القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، أنه متخم بالمعلومات والأخبار التي تطفح من كل فج عميق، وما يريده هذا الجمهور هو النظرة الفريدة إلى الأحداث، وأشكال جديدة ومبتكرة لسردها وفق إيقاع جديد.
أمام شحّ الموارد المالية وارتفاع تكاليف إنتاج المواد السمعية البصرية أُجبر تلفزيون الخدمة العمومية على استيراد البرامج التلفزيونية والمسلسلات بأثمان زهيدة ليشترك في بثها مع التلفزيون التجاري! وهذا الشحّ في الموارد يقلّل من فرص استثمار تلفزيون الخدمة العمومية في التكنولوجيا الرقمية التي أصبحت الممر الإجباري للمستقبل.
إن المظهر الثاني في أزمة تلفزيون الخدمة العمومية يكمن في التأخر في إدراك التحول الذي طرأ على البيئة الإعلامية والذي يستدعي قراءة معاصرة لمبادئ الخدمة العمومية في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني.
إنّ المبدأ الأساسي الذي يخضع له هذا التلفزيون هو التوجه إلى جميع المشاهدين المحتملين دون استثناء، مثلما ذكرنا آنفًا، وتطبيق هذا المبدأ في البيئة الرقمية يعني التوجه إلى كل مشاهد في ظل تعدد منصات البث التلفزيوني، وحوامل البرامج التلفزيونية، وخاصة الشباب الذين أداروا ظهورهم لجهاز التلفزيون واتجهوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية المختلفة، فهذه المنصات ليست أدوات بث فقط، بل إنها معامل لصناعة المحتوى وفق تصورات مستحدثة لأشكال السرد ومكونات المادة (السمعية/البصرية) لتعزيز ترابط أفراد المجتمع.
هذا ما أدركته الـ(بي بي سي 3) التي عزمت في يناير 2005م على إنتاج برامج مخصوصة للبثّ عبر موقعي “توتير” و”سنابشات”، واعتبرت أن ما عزمت عليه نابع من صميم “الخدمة العمومية” التي يتوجب عليها القيام به لتكمل ما شرعت فيه المؤسسة الأم منذ سنوات، والمتمثل في إنشاء موقع على شبكة الإنترنت يبث الأخبار على مدار (24) ساعة، وينشر ملايين صفحات الواب، وآلاف الفيديوهات والشرائط المسموعة ووضعها مجانـًا في متناول من يريد من أجل إقامة حوار بين المشاهدين والمستمعين ومؤسسة الـ(بي بي سي)، إنه بُعد آخر من الخدمة العمومية في العصر الرقمي.
بالطبع لا يمكن مقارنة إمكانية الـ(بي بي سي) البريطانية، بإمكانيات الكثير من المحطات الإذاعية وتلفزيونات الخدمة العمومية في العالم التي تعاني من أزمة حقيقية فعلية، مثلما ذكرنا أسبابها أعلاه.
لذا تحركت الكثير من المنظمات المهنية المختلفة للتوعية بأهمية الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون، ولعل أنشط منظمة في هذا المجال هي الفيدرالية الدولية للصحافيين، التي نظمت العديد من المؤتمرات والدورات التدريبية للدفاع عن الخدمة العمومية منذ عام 2001م، وقد استفادت المنطقة العربية من أحدى الدورات التي شارك فيها اتحاد الإذاعات العربية، والتي عُقدت في العاصمة الأردنية عمّان ما بين 15 و17 يوليو 2003م.