صناعة الرسوم المتحركة .. من اليدوي إلى التكنولوجيات المتقدمة

شهدت صناعة الرسوم المتحركة تطورات كبيرة منذ بداياتها في أواخر القرن التاسع عشر، ففي البداية، كانت تعتمد على الرسومات اليدوية التي تُعرض بسرعة لإيجاد وهم الحركة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك فيلم (Steamboat Willie)، الذي قدم شخصية “ميكي ماوس” لأول مرة في عام 1928م.

مع مرور الوقت، تطورت التقنيات لتشمل الرسوم المتحركة الطينية، وتحريك الدمى، واستخدام الكمبيوتر، ففي التسعينيات من القرن الماضي، أحدث فيلم (Toy Story) ثورة في هذا المجال كأول فيلم طويل يتم إنتاجه بالكامل باستخدام الكمبيوتر.

هذا الفن ليس حكرًا على الدول الغربية واستوديوهات الولايات المتحدة الأمريكية، فهو موجود في أنحاء مختلفة من العالم مع تفاوت في حجم الإنتاج وطبيعته، نشير هنا إلى الإنمي الياباني وتأثيره العالمي الذي لا يُمكن إنكاره، فقد مثل صناعة ترفيهية لها خصوصيتها وعوامل انتشارها الفريدة.

تقنيات متقدمة

اليوم، وفي أنحاء العالم المختلفة تستخدم الرسوم المتحركة تقنيات متقدمة، مثل الرسوم ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي والواقع المعزز والميتافيرس، فضلاً عن الذكاء الاصطناعي، مما يتيح إنتاج أفلام ومسلسلات بجودة عالية وتأثيرات بصرية مذهلة، هذه التطورات جعلت الرسوم المتحركة أكثر تنوعًا ودفع بها نحو مجالات أوسع مما كانت عليه.

ومنذ أن ظهرت في المشهد الإعلامي والترفيه، تؤدي الرسوم المتحركة دورًا أساسيًّا في سرد القصص، مما يمكن المبدعين من صياغة عوالم حية وخيالية لا يمكن للحركة الحية التعبير عنها، وكجزء لا يتجزأ من صناعة الترفيه، تواصل نموها الهائل، لتحدث ثورة في كيفية سرد القصص الخيالية واستهلاكها على الشاشة.

وتتطور هذه الصناعة بشكل متسارع مدفوعة بالتطورات التكنولوجية ومتطلبات المشاهدين المتغيرة، فلم يعد الرسامون والمنتجون وغيرهم محصورون في الطرق التقليدية في السينما أو التلفزيون، بل أصبحوا جزءًا من مجال رقمي واسع حيث زالت الحدود بين وسائل الإعلام المختلفة.

لقد دخل المنتجون في عالم لا يتم فيه عرض إبداعاتهم فحسب، بل يتم تجربتها في بيئات افتراضية غامرة، حيث يشير هذا التحول إلى مستقبل يزداد فيه الطلب على مهارات جديدة من قبل الرسامين والمنتجين، القادرين على التكيف مع التكنولوجيات المستحدثة في هذا المجال.

كما سهل استخدام خوارزميات العرض المعقدة ومحركات الرسومات في الوقت الفعلي، من إنشاء مشاهد حية ومفصلة، وأصبح من الممكن إلغاء الخطوط الفاصلة بين الرسوم المتحركة والمشاهد الحية.

وفي الآونة الأخيرة، أتاحت تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم أتمتة جانب كبير من هذه الصناعة، مما سمح بزيادة الإبداع والتجريب وتسريع العملية الإبداعية وفتح إمكانيات جديدة وسعت من فرص زيادة حجم ونوعية الأفلام.

كما شهدت أفلام الرسوم المتحركة طفرة كبيرة في هوليوود، وشهدنا أفلامًا مثل (Disney’s Frozen) الذي تمكن من جذب المشاهدين في جميع أنحاء العالم، وأثبت أن هذا النوع من الأفلام ليس للأطفال فقط، بل للكبار – أيضًا – ما يعكس مدى جاذبية هذا النوع من الافلام والتغير الكبير في جمهورها، خاصة مع ظهور منصات البث الرقمي مثل “نيتفليكس” وغيرها.

تقنيات الإنتاج والتصميم

أثرت التطورات في تكنولوجيا الإنتاج والتصميم بشكل كبير على مشهد الرسوم المتحركة للتلفزيون والسينما والإعلان والتعليم، ومكنت هذه التحولات من القيام بتجارب أكثر تطورًا بوسائل إنتاج سهلة ومبسطة، ونضع هنا مجموعة من التطورات التي لحقت بهذه الصناعة، كما يلي:

-العرض في الوقت الفعلي:

تعمل تقنية العرض في الوقت الفعلي (Real-time Rendering) على تسريع العملية الإبداعية، مما يتيح لرسامي الرسوم المتحركة عرض أعمالهم على الفور بدلاً من انتظار أوقات عرض طويلة، وتسمح هذه الفورية بتكرارات أسرع ورواية قصص أكثر ديناميكية.

-استخدام الواقع الافتراضي:

توفر البرامج التي تدمج تقنيات الواقع الافتراضي للمصممين القدرة على الانغماس في البيئات التي يقومون بإنشائها، وذلك يمكنهم من بناء المشاهد بإحساس غير مسبوق بالحجم والوعي المكاني.

-استخدام الواقع المعزز:

يضيف الواقع المعزز طبقة أخرى إلى البيئات السردية، من خلال تركيب المعلومات الرقمية على العالم الحقيقي، وتسمح هذه التقنية لصانعي الأفلام بمزج العوالم المادية والرقمية في المنتج النهائي.

الاستفادة من الميتافيرس:

الميتافيرس هو مساحة افتراضية واسعة جاء بآفاق جديدة للرسوم المتحركة، ويتم حاليًّا استكشاف إمكانيات هذا العالم الرقمي لصناعة مسلسلات، وأفلام تتناسب معه خاصة مع متطلبات العرض في الوقت الفعلي.

-أهمية التجارب التفاعلية:

يتم إعادة تشكيل مستقبل التلفزيون والسينما من خلال التجارب التفاعلية للوسائط، التي يستفاد منها على تقوية كيفية تفاعل الجمهور مع محتوى الرسوم المتحركة بما يتجاوز المشاهدة التقليدية لتقديم تجارب أكثر مغامرة ومتعددة الأبعاد.

-التقاط المشاهد الحركية:

لقد تطورت تقنيات التقاط المشاهد الحركية (Motion Capture Technologies) بشكل مدهش للغاية، مما ممكن الوصول إلى مستوى جديد من الحركات الدقيقة التي تقوم بها الشخصيات الكرتونية، فالعروض التي يتم التقاطها من ممثلين حقيقيين هي حركات أصيلة كان من المستحيل تكرارها في الرسوم المتحركة، لكن حاليًّا أصبح من الممكن تسخير التقنيات لإنشاء كائنات رقمية معبرة وقابلة للتصديق.

-دور وسائل التواصل الاجتماعي:

أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًّا في كيفية تفاعل الجمهور مع محتوى الرسوم المتحركة، فالرسوم عالية الجودة لم تعد مقتصرة على التلفزيون، ولكن يتم بثها على نطاق واسع من خلال منصات مثل يوتيوب، ولا تزيد هذه المنصات من نسب المشاهدة فقط، بل توفر – أيضًا – مجالاً للملاحظات والتعليقات، مما يسمح لصناع المحتوى بقياس ردود فعل الجمهور وتخصيص الموضوعات وفقًا لذلك، وقد أعاد هذا التفاعل تعريف العملية الإبداعية، مع التركيز على الابتكار والتكيف المستمر لتلبية التوقعات الثقافية والاجتماعية لجمهور عالمي متنوع.

صناعة متاحة للجميع

من المعروف أن الاستوديوهات العملاقة تسيطر على صناعة الرسوم المتحركة، ومع تطور التكنولوجيا التي أصبحت متاحة وبيد الجميع، وجد الرسامون والاستوديوهات المستقلون المزيد من الفرص للدخول بقوة في هذا المجال، وفتحت أبواب جديدة للإنتاج والتوزيع، وهذا يعتبر إضفاء للطابع الديموقراطي على الرسوم المتحركة بتغذية المنصات وقنوات التوزيع التي يمكن للجميع الوصول إليها.

مع ذلك يشمل المجال الديناميكي لهذه الصناعة – أكانت من قبل الاستوديوهات العملاقة أو الأفراد – تحديات شاقة وفرصًا كبيرة لذلك يجب على الاستوديوهات والمبدعين المستقلين ليس فقط مواكبة التقدم التكنولوجي، ولكن – أيضًا – تكييف مهاراتهم باستمرار لتلبية توقعات الجمهور المتطورة والاستفادة من المواهب الجديدة.

والأمر لا يقف عند التكنولوجيا، فجمهور اليوم يطلب محتوى مبتكرًا وجذابًا، لذلك يجب أن تكون الرسوم المتحركة قابلة للتطور، بالاستفادة من تقنيات أشرنا إليها آنفًا ورواية القصص المبتكرة لجذب خيال المشاهد الجديد كليًّا، والذي لا يشبه الأجيال القديمة.

ومع نمو المنافسة داخل الصناعة، أصبحت هناك حاجة متزايدة للاستثمار في المواهب الجديدة، ورعاية مجموعة متنوعة من المهارات في كافة المجالات المتصلة بالإنتاج، وإيجاد بيئات العمل التي يتم فيها تشجيع الأفكار الجديدة.

نظرة إلى المستقبل

يرتبط مستقبل الرسوم المتحركة في التلفزيون والسينما ارتباطًا وثيقًا بالتقدم التكنولوجي مع مجموعة واسعة من الإمكانيات الإبداعية التي ظهرت، ودمج التقنيات الجديدة في الرسوم المتحركة لا يعزز التجربة المرئية فحسب، بل يتيح – أيضًا – فرصًا جديدة لسرد الحكايات وبناء الشخصيات.

ويعتبر هذا التحول انعكاس طبيعي لاتجاهات الصناعة، حيث لا يقتصر الطلب على الرسوم المتحركة على الترفيه وحده، بل يمتد – أيضًا – إلى التعليم والتسويق، ومع كل قفزة في التكنولوجيا، من التطور في البرمجيات إلى الإمكانيات المتقدمة في بيئات العرض، يستطيع المنتجون نقل رؤاهم بشكل أكثر فعالية وبجودة أعلى، مما يعزز تجربة الجمهور بشكل عام.