شرع أبناؤنا الطلاب في معظم الدول العربية ببدء العام الدراسي الجديد، ما بين الحضور الفعلي في المؤسسات التعليمية أو مواصلة التعلم عن بُعد، فقد انقضت قرابة السنتين على مرور جائحة فيروس كورنا (كوفيد – 19) التي حاصرت العالم وشلت كل مفاصل الحياة، وأرغمت الدول والحكومات والمجتمعات على اختلاف إمكاناتها ومستوياتها بالبحث عن بدائل لضمان ديمومة الحياة واستمراريتها، على الرغم من التحديات والصعوبات التي فرضتها ظروف وتداعيات الجائحة.
وقد كانت المنظومة التعليمية واحدة من أهم المجالات الحيوية التي اختبرت تلك التحديات وحاولت أن تتعامل معها بشتى الطرق والإمكانات لأجل عدم توقفها أو انقطاعها عن الطلاب في مختلف المراحل الدراسية، من رياض الأطفال وحتى الجامعات، وما يهمنا حاليًّا أن نتوقف على دور الإعلام وما إذا كان قد استطاع فعلاً أن يسعف المنظومة التعليمية ويسهم في تدفق إنتاجيتها، فمن المعروف بأن الإعلام ذو أهمية كبيرة على المستوى العالمي لما له من دور كبير بالغ الأثر على المستويات الثقافية والتعليمية والتوعوية، ولما لوسائله من تفرعات عدة تعددت وتنوعت وأصبحت اليوم متداخلة، كما نرى حاليًّا الصحيفة الورقية نفسها بشكل إلكتروني، ومثلها نرى وسائل التواصل الاجتماعي تنقل الأخبار كما هي الأخبار التلفزيونية والإذاعية والصحفية، فأصبح هناك تداخلاً بأبعاد غير محددة المدى.
حقيقةً لقد شهدنا مع بداية أزمة كورونا وحتى الآن التسارع الإيجابي في استخدام التكنولوجيا عن طريق وسائل الإعلام في التعلم عن بُعد لكافة المستويات التعليمية، فانطلقت الدروس التعليمية عبر محطات التلفزيون الوطنية بمختلف الدول، ونقلها بأوقات منظمة لمن ليس لديه أجهزة إلكترونية، بجانب نقلها عبر تطبيقات الأجهزة الذكية وأصبحت مسخّره لمستخدميها والمستفيدين منها في أي وقت وفي أي مكان، وكان لها جانب توعوي وتثقيفي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تُعدُّ جزءًا من المنظومة الإعلامية الحديثة للتأكيد على وجود المحتويات المنهجية عبر الوسائل الإعلامية.
ومسألة نقل الحصص الدراسية على التلفزيون ليست بجديدة أساسًا، فمنذ الثمانينيات والتسعينيات شهدنا في عالمنا العربي محطات فضائية تعليمية كانت تنقل دروسًا لحصص الرياضيات والعلوم واللغة العربية والإنجليزية، أي المواد الأساسية، ومنها كذلك الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من المواد التي كانت تعد كدروس تقوية يقوم بشرحها بعض الأساتذة في قنوات تعليمية مخصصة في كثير من الدول، منها جمهورية مصر العربية والجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية وغيرها، وهذا كان على سبيل المثال.
كما شهدنا – أيضًا – التعليم الجامعي عن بُعد، حيث قامت بعض الجامعات في الدول الأوروبية وغيرها من الدول العربية بتوفير التعليم الجامعي عن بُعد أيضًا، وكانت هناك البرامج التثقيفية المتنوعة المرتبطة بالتعليم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي كل ذلك كان أمراً اختياريًّا، لكنه أصبح اليوم أمرًا إجباريًّا للراغبين في التعليم ومواصلة مسيرتهم التعليمية في ظل هذه الجائحة.
ويكاد يتفق غالبية الخبراء التربويين والتعليميين بأن من أهم إيجابيات استخدام وسائل الإعلام في التعلم عن بُعد ما يلي:
-سرعة وصول المعلومات في أوقاتها المحددة.
-سهولة وصول التعليم لمختلف الأفراد في أي مكان وفي أي وقت، حيث سُجلت الدروس الخاصة بالمناهج الدراسية للرجوع لها في أي وقت بما يتناسب مع ظروف المعنيين بها.
-إمكانية التفاعل الإلكتروني ومواكبة العصر الرقمي لمختلف الفئات.
-التعليم في وسط أسري بعيدًا عن ثقافات أخرى، والابتعاد عن مساوئ الحياة.
-الحصول على مزيد من الوقت لاستغلاله.
-التخلص من مشكلات الازدحام والنقل للوصول إلى المدارس والجامعات والأعمال في الفترات الصباحية.
-إعطاء فرصة للمعلمين في إيجاد وسائل إبداعية وتقديمها إلى طلابهم عبر المنصات الإعلامية والإلكترونية.
أما عن سلبيات التجربة، فقد تكون محدودة وتتركز في النقاط التالية:
-عدم جدية بعض الطلاب في متابعة محتوى الدروس والمواد الدراسية التي تُشرح وتراخي البعض عن المشاركة.
-عدم وجود التفاعل الإيجابي في طلب إعادة ما لا يفهم لأن الوقت محدد إلكترونيًّا في التعلم عن بُعد.
-انقطاع الشبكة الإلكترونية لبعض الأجهزة أو عدم وصولها أو انقطاع الكهرباء أو فقد الاتصال أو عدم الوضوح للصوت أو الصورة، مما يشوش على العملية التعليمية.
-عدم توافر الأجواء الدراسية للبعض داخل المنازل والتي تشغل البعض أمورًا أخرى مشاغبة ومشوشة على انتباه الطلاب لدروسهم التعليمية.
-فرضت عملية التعلم عن بُعد عالم افتراضي مفتوح يكشف عن أسرار البيوت والشخصيات وتعاملها مع العملية التعليمية.
-القضاء على المواد الدراسية المهارية مثل التربية الرياضية والموسيقى وغيرها من المهارات، مما ينقل الطالب لأن يكون نظريًّا فقط دون أن يستخدم المهارات الحركية.
وبالنظر إلى كفتي الإيجابيات والسلبيات، فقد جاءت الدراسات التربوية والإعلامية التي اهتمت برصد أداء الاعلام وإسهاماته في العملية التعليمية خلال الجائحة موصية بعدة توصيات، أبرزها:
-استمرارية إنتاج برامج تستقطب الطلاب مع تشجيع وزارات التربية والتعليم للمعلمين على ممارسة التفكير الإبداعي في التعليم الإلكتروني وطرح المسابقات الخاصة في ذلك.
-إيجاد شبكة اتصالات خاصة بالتعليم بالتنسيق مع شركات الاتصال ووزارة التربية والتعليم والأهالي.
-توفير بطاقة طالب لشراء أجهزة إلكترونية بأسعار مناسبة للجميع كما هي حقيبة المدرسة.
-ربط المكتبات العامة مع المؤسسات التعليمية، من خلال أرقام سرية للطلاب المنتمين لمؤسسات تعليمية يمكنهم الدخول للكتب المطلوبة والمراجع التي يحتاجون إليها بعد تراجع سوق الكتب الورقية.
ويبقى السؤال الأهم في ظل بوادر انحسار الجائحة مع وجود اللقاحات والعلاجات المتطورة، هل ستراهن الحكومات ممثلة في وزارات التربية والتعليم على استمرارية التعلم عن بُعد والتوسع في استخدام وسائل الإعلام في العملية التعليمية؟!.
بلا شك أن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي المواءمة بين منافع التعليم النظامي بالمؤسسات التعليمية والتعلم عن بُعد في بيئات العمل والمنازل، دون إغفال مقومات العملية نفسها، بما في ذلك الإعلام الذي سيواجه تحدي تدفق الإنتاج الإبداعي للمواد التعليمية، وكذلك ممارسة دور الرقيب على كل ما يمر خلاله ويُعرض على المجتمعات؛ حرصًا على درء المعلومات المشوهة والمغلوطة التي تتسبب في تصدع العقول إذا لم يجابهها ترسانة من التحصينات الفكرية نابعة من البيئة المحلية وخصوصيتها.