أكثر ما يلفت النظر في تجربة الهيئة العامة للترفيه بالمملكة العربية السعودية، هو العمل بمنطق القطاع الخاص والحكومي في آن.
فما نراه من إبهار في التجهيزات الفنية، والقدرة الفائقة على استخدام أحدث التقنيات بشكل احترافي، والتسويق والدعاية بمفهوم عصري، وسرعة التأثير على المنتج الثقافي العربي.
كل هذه المميزات تتم بسلاسة، تدل على أن الدورة المستندية المالية والإدارية تتحرك في دولاب أكثر مرونة من القطاعات الحكومية المعتادة.
وهنا – في رأيي – تكمن مشكلات هيئات الإذاعة والتلفزيون الحكومية في عالمنا العربي.
فدائمًًا ما يثار أن التقنيين العاملين بهذه الهيئات، عندما ينخرطون في العمل بقنوات خاصة، يكونون أكثر إبهارًا وتأثيرًا في المادة الإعلامية المقدمة.
من دون ملاحظة أن مهندس أو فني الضوء في الجهاز الحكومي يحتاج إلى إجراءات غاية في التعقيد من أجل شراء “لمبة” جديدة بدلاً من التالفة أو المستهلكة، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية عناصر العمل الفني أو الإعلامي.
هذه واحدة. أما الأمر الآخر فهو عدم وجود الإرادة الجريئة لدى المسؤول المقيد باللوائح والقوانين، فقد يتعرض للتحقيق نظرًا لاتخاذ قرار قد يكون في صالح العمل، ولكنه لا يتماشى مع الإجراءات الواجبة الاتباع.
الأمر الثالث، هو النظم واللوائح الخاصة بحضور وانصراف العاملين، فقد يكون العمل يستلزم التواجد في ساعات معينة من الليل، بخلاف المتبع، لكن اللوائح تحول دون ذلك الأمر، ناهيك عن التفاصيل الصغيرة من قوانين ولوائح الجزاءات والعلاوات وخارج الدوام… إلخ.
على جانب آخر فإن الأمر التسويقي هو في غاية الأهمية، فما الذي يجبر نجمًا على سبيل المثال يشارك في عمل سيكون عدد لوحاته الإعلانية في المدن لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، ويتم تصميمها بشكل خال من الإبداع والابتكار، لأن المنطق الإداري الحكومي، يبحث عن الأقل سعرًا، والأعلى جودة، ولكن ليس الأعلى ابتكارًا، فالجودة هنا ليس لها علاقة بالابتكار، فقد تقدم لوحة إعلانية عالية الجودة طباعيًّا، لكنها ليست على المستوى اللائق أو الملفت بمعنى أدق فنيًّا.
قد يرى البعض أن القنوات الخاصة قد سدت الفراغ بالكامل، ولم يعد من الممكن تقديم شيء مختلف من خلال القنوات الرسمية، وهو أمر مردود عليه، فظهور القنوات المتخصصة الخاصة دعا الهيئات الرسمية إلى اللهاث خلف إنشاء قنوات متخصصة، حرمت المشاهد من القنوات العامة التي تقدم وجبة متكاملة فنية تثقيفية رياضية تخاطب كل أفراد الأسرة شبابًا وأطفالاً وشيوخًا.. امرأة ورجلا… إلخ.
بل إنني أرى أن العودة إلى البرامج المنوعة للطفل والمرأة، وبرامج الأخبار والبرامج الثقافية والرياضية وبرامج المعلومات العامة، قد يُسهم في إعادة المشاهد إلى كنف القنوات الرسمية.
المقترح الثاني يتمثل في إعادة نظر متكاملة قانونية وإدارية ومالية وفنية في اللوائح والقوانين المنظمة لطبيعة العمل داخل هيئات الإذاعة والتلفزيون، وأن تكون هيئات ذات طبيعة خاصة تنظمها لوائح داخلية معتمدة من السلطات المعنية، لتجاوز مأزق الإجراءات القديمة التي لا تتماشى وروح العصر، وأعتقد أن دول الخليج العربية مؤهلة ليكون لها السبق في هذا الأمر، نظرًا لما تتمتع به من وحدة هدف ومصير، ووجود مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يتمكن من خلال جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج من تقديم استشارات في هذا الصدد.
أما بشأن التعامل مع القطاع الخاص، فلابد للهيئات الحكومية من طرح برامج معينة (بأفكارها ورؤيتها الفنية) على شركات الإنتاج الخاصة، وفق ميزانيات معينة، لتتولى هذه الشركات أمرها كمنتج منفذ، ونفس الحال قد ينجح في الأعمال الدرامية، بحيث يتاح لشركات الإنتاج الخاصة تنفيذ هذه الأعمال وفق الإطار المطروح من الهيئة ولكن بأسلوب إبداعي تسويقي مبتكر، وتتولى الشركة كافة أعمال الدعاية للمنتج الإعلامي.
كان ما سبق غيض من فيض من الأفكار والأطروحات التي نأمل أن تؤخذ مأخذ الجد، قبل فوات الأوان، فما أحوجنا إلى أن تصبح إذاعاتنا وقنواتنا الرسمية خير دليل للمشاهد في كل قطر عربي، وهو أمر ليس مستحيلاً إذا توافرت له الإرادة والعزيمة اللازمتين لهذا الأمر.