من التجريب المبكر إلى التطبيقات المعاصرة، أدى الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًّا في إعادة تشكيل المشهد الاتصالي برمته، وأثر على صناعات الإعلام والترفيه والإعلان، مما أدى إلى حالة تغيير انقلابية في طريقة إنشاء المحتوى وتوزيعه واستهلاكه ومشاركة الجمهور، علاوة على الجدل المثار في الجوانب المهنية والأخلاقية المرتبطة باستخداماته.
وكما نرى ونتابع كل يوم تحمل تطورات الذكاء الاصطناعي وعودًا بتطبيقات أكثر تقدمًا من شأنها تشكيل الصناعة بطرق عميقة.
في هذه الحلقات نتتبع تطور أوجه الاستخدامات من تحليل البيانات المبكر إلى العصر الحالي للتعلم العميق والأتمتة، وفي هذه الحلقة نتحدث عن صناعة الموسيقى بالذكاء الاصطناعي والتطورات في هذا المجال وآثاره على صناعة الإبداع سلبًا وإيجابًا.
مسيرة تاريخية
يمكن إرجاع تاريخ الموسيقى التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي إلى الخمسينيات من القرن الماضي عندما بدأ علماء الكمبيوتر في تجربة فكرة استخدام الخوارزميات لإنشاء الموسيقى، وغالبًا ما يُستشهد بـ(Iliac Suite)، وهي مقطوعة رائدة ألفها “جارين هيلر” في عام 1957م، بالتعاون مع “ليونارد إيزاكسون“، اللذان قاما ببرمجة كومبيوتر (ILLIAC I) في جامعة إلينوي حيث كانا يعملان، وذلك باعتماد مجموعة من القواعد المستمدة من نظريات الموسيقى التقليدية.
في العقود التالية، واصل الباحثون تطوير خوارزميات وتقنيات جديدة لإنشاء الموسيقى، أحد الأمثلة البارزة هو مشروع باسم (Experiments in Musical Intelligence) للبروفيسور “ديفيد كوب” الأستاذ الفخري للموسيقى في جامعة كاليفورنيا سانتا كروز، في الثمانينيات من القرن الماضي، وقد تم تصميم هذا المشروع لتحليل ومحاكاة أسلوب العديد من الملحنين الكلاسيكيين، وإنشاء مؤلفات أصلية تشبه أعمال “باخ وموتسارت“، وغيرهما.
لاحقًا أحدث ظهور تقنيات التعلم الآلي الحديثة ثورة في مجال الموسيقى المولدة، ومكنت خوارزميات التعلم العميق، مثل الشبكات العصبية، أجهزة الكمبيوتر من تعلم وإنشاء الموسيقى بشكل أكثر فعالية من أي وقت مضى.
في عام 2016م، تصدر مشروع ماجنتا (Magenta) التابع لشركة غوغل عناوين الأخبار، عندما أصدر أول لحن بيانو تم توليده بواسطة الذكاء الاصطناعي، ومنذ ذلك الحين، ظهرت العديد من مشاريع الموسيقى الأخرى التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل ميوزنت (MuseNet)، وجيوك ديك (Jukedeck) التابعتين لشركة أوبن أيه أي، مما دفع حدود الموسيقى التي يولدها الذكاء الاصطناعي إلى آفاق جديدة، حينها تم استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء ألبومات كاملة، مثل (I AM AI) للأمريكية تارين ساوثرن، الذي صدر في عام 2018م، وقد كتبت هي الألحان والكلمات، بينما تولى أحد المنتجين عمليات إنتاج الصوت والمزج.
تطور مثير
حاليًّا يتم توليد الموسيقى بالذكاء الاصطناعي باستخدام الخوارزميات وبرامج الكمبيوتر التي يمكنها تحليل الموسيقى لكافة الأغراض من تأليف المقطوعات إلى تلحين الأغنيات والموسيقى التصويرية للسينما والتلفزيون، والموسيقى التصويرية لألعاب الفيديو ورسومات الكرتون المتحركة، والموسيقى الخلفية لمواقع الويب والوسائط الرقمية الأخرى.
وبفضل التطورات المتسارعة أصبح بالإمكان استكشاف طرق جديدة لصناعة الموسيقى، بل بات من الممكن إنشاء موسيقى أكثر تعقيدًا وتطورًا مما يمكن أن ينشئه الملحن البشري، علاوة على توليد الموسيقى والأغاني الكاملة من النصوص، مما يسمح للفنانين باستكشاف أصوات وأنماط وأساليب جديدة للتأليف والتلحين والغناء.
وتتوفر العديد من تطبيقات صناعة الموسيقى بالذكاء الاصطناعي التي مكنت من عمليات إنتاج الموسيقى بعدة طرق، حيث يمكنها إنشاء موسيقى وأصوات جديدة تمامًا ومزج المسارات اللحنية أو إعادة مزج الأغاني والمؤلفات الموسيقية الموجودة، فضلاً عن القيام بتأليف أغاني كاملة على أصوات لشخصيات تتمتع بالحياة أو فارقت عالمنا، وهو أمر قد يثير الجدل، ولعل أقرب نموذج بالنسبة لنا في المنطقة العربية عندما أحدث الملحن والمطرب المصري عمرو مصطفى، جدلاً واسعًا بعرض فيديو ترويجي لأغنية جديدة من ألحانه، بصوت الراحلة أم كلثوم، مستخدمًا الذكاء الاصطناعي.
التأثير على الموسيقيين
في أواخر يناير 2024م أبدى (71%) من العاملين في مجال الموسيقى، اعتقادًا بأن الذكاء الاصطناعي سيحرمهم من دخلهم، ويهدد مستقبلهم، بحسب دراسة كشفت عنها جمعية المؤلفين والملحنين، وناشري الموسيقى الفرنسية (ساسيم) ونظيرتها الألمانية (جيما)، حيث أشار التقرير إلى أن (93%) من هؤلاء يقولون – أيضًا – إنهم يرغبون في أن يولي صنّاع السياسات أهمية أكبر للتحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وحقوق التأليف والنشر.
يشير المدير العام لشركة غولدميديا الاستشارية الألمانية التي أجرت الدراسة، كلاوس غولدهامر، إلى أن (35%) من الذين شملهم الاستطلاع يستخدمون بالفعل الذكاء الاصطناعي في عدد كبير من المجالات المتعلقة بالإبداع الموسيقي، مضيفًا: أن التقنيات الجديدة تثير مخاوف – أيضًا – إذ يخشى (71%) ممن شملهم الاستطلاع من أن الذكاء الاصطناعي التوليدي لن يسمح لمبدعي الموسيقى بكسب لقمة عيشهم من عملهم في المستقبل.
وبحلول عام 2028م، تشير تقديرات ساسيم وجيما إلى أن المؤلفين والمبدعين قد يشهدون انخفاضًا في دخلهم بنسبة (27%)، ما يمثل خسارة تراكمية إجمالية قدرها (2.7) مليار يورو، وفي مواجهة هذه التوقعات يطالب (95%) من المبدعين والناشرين الموسيقيين بمزيد من الشفافية من الشركات التي تطوّر أدوات الذكاء الاصطناعي.
أبعاد أخلاقية
مع استمرار الذكاء الاصطناعي في التطور والتحسن، فإنه بلا شك سوف يؤدي دورًا متزايد الأهمية في صناعة الموسيقى، ويشكل الطريقة التي ننشئ بها الموسيقى ونستهلكها ونتفاعل معها، وسيؤدي هذا التحول إلى إمكانيات إبداعية جديدة، فضلاً عن التحديات والاعتبارات الأخلاقية التي يجب معالجتها.
فالآراء تنقسم بين الإشادة بقدرة الذكاء الاصطناعي على صناعة ألحان وأغانٍ جديدة كليًّا، وبين انتقاد لافتقاره العاطفة والروح التي يمتاز بها العنصر البشري، وفقًا لتقرير لصحيفة “نيويورك تايمز“.
فبينما يتمتع صناع الموسيقى البشر بالقدرة على نقل مجموعة واسعة من المشاعر وإضافة أسلوبهم الفريد إلى موسيقاهم، بما يملكون من إبداع وخبرة لتفسير الكلمات وأسلوب خاص بهم، يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة مفيدة للملحنين والمنتجين لتجربة أصوات وأنماط جديدة من الموسيقى، حيث يشعر بعض صناع الموسيقى أنهم على وشك دخول العصر الذهبي للإبداع المدعوم بالذكاء الاصطناعي، الذي يمكنه دفع مجالهم في اتجاهات جديدة، حسب تقرير لمجلة “فوربس“.
وعلى الرغم من أن المستمع العادي قد لا يلاحظ الفوارق والاختلافات بين الموسيقى المولدة آليا وتلك المؤلفة بواسطة الملحنين، فإن أولى ملاحظات المحترفين تقول: “إن العيب الرئيسي للموسيقى التي يتم إنشاؤها الذكاء الاصطناعي هو افتقارها إلى الأصالة والإبداع، فغالبًا ما يتم إنشاء هذا النوع من الموسيقى باستخدام خوارزميات مبرمجة لتقليد الموسيقى الموجودة، لذلك قد تفتقر إلى الصوت الفريد للموسيقى التي يؤلفها الإنسان“.
على ذلك تبدو التأثيرات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي في الموسيقى معقدة، وهي تشمل قضايا مثل التأليف، وحقوق النشر، وفقدان اللمسة الإنسانية في العملية الإبداعية.
ومع انتشار هذا النوع من الموسيقى المولدة، سيكون من الضروري إيجاد توازن بين الاستفادة من فوائد الذكاء الاصطناعي والحفاظ على سلامة الإبداع البشري والتعبير الفني، كما يجب التأكد من أن النماذج المستخدمة لتوليد الموسيقى لا تنتهك حقوق المؤلفين الأصليين وأنه يتم تعويضهم بشكل قانوني وفق حقوق الملكية الفكرية.
ولأن هناك مخاوف من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان الوظائف في صناعة الموسيقى، حيث يمكن أن يحل محل الموسيقيين والمنتجين البشريين، فمن المهم إيجاد توازن بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على الوظائف البشرية.
مع ذلك يظل النقاش مستمرًا حول ما إذا كانت الموسيقى التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون أصيلة مثل الموسيقى التي يتم إنشاؤها بواسطة البشر؟ عليه يجب أن يتم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز الإبداع البشري بدلاً من استبداله.