ظل التعليم علامة مضيئة في خارطة التعاون الخليجي، فهو أحد أقدم مجالات التنسيق بين أبناء دول مجلس التعاون، حيث بدأ من خلال مكتب التربية العربي لدول الخليج الذي أنشئ في العام 1975م، قبل قيام المجلس بست سنوات، وهو ما جعله ملمحاً واعداً ليس فقط لإمكانية تجربة العمل المشترك بل لنجاحها وتميزها أيضاً، إذ لا يمكن تتبع نشأة القطاع التعليمي بدول الخليج في صورته الحديثة، دون أن نتوقف عند دور هذا المكتب العريق، من حيث كونه المنصة الأولى لتطبيق فكرة التنسيق والتخطيط والإدارة التعليمية، ونواة إنشاء الكثير من المؤسسات والكيانات في مختلف أصعدة التعليم العام والجامعي والكليات والمعاهد الفنية والتدريبية.
وبعد أن تأسس المجلس، عادت الكفاءات الخليجية لتلتقي مجدداً لاستكمال هذه المسيرة، وظل مكتب التربية قائماً، ومساهماً رئيساً في دعم الجهود التعليمية في المنظومة الخليجية، من خلال دور معرفي واستشاري ومرجعي يجمع ما بين الخبرة ومواكبة مستجدات التعليم وأفضل ممارساته العالمية وأهم وسائله المعاصرة، ومع انطلاقة العمل التربوي المشترك تحت مظلة المجلس تم تحديد عناوين رئيسة للتطوير شملت تنسيق الجهود في البحث العلمي، ومساندة جهود التعاون نحو التكامل والوحدة، ومساواة الطلاب في القبول والمعاملة، والأنشطة الطلابية المشتركة.
ومع نضج التجربة في دول المجلس بوجود الوزارات المتخصصة، بدأت اللجان الوزارية في دول المجلس في مشاركة خبراتها والعمل معاً على تنسيق الجهود لنتائج أفضل يشعر بها الطالب الخليجي في مختلف مراحل التعليم، وتنعكس مخرجاتها على واقع التنمية وسوق العمل، في خطوات عملية اعتمدت على وحدة الاهتمام والتخصص والهدف، التقى ممثلو الكليات والعمادات بنظرائهم في الدول الأعضاء، وكذلك هو الحال مع ممثلي المعاهد الفنية والتقنية، كما تم وضع أسس تطوير التعاون في عدة موضوعات منها الاعتمادات الأكاديمية ومعادلة الشهادات في التعليم العالي.
عاماً بعد عام، كانت المعرفة تتطور لتتطور معها المصادر والوسائل وأساليب تقديمها للأجيال الجديدة، وبدأ التعليم يتحول إلى صناعة متكاملة لها مجالاتها المساندة ومؤسساتها المتخصصة، ولم يكن هذا التطور ليحدث بمعزل عن أولويات العمل التربوي المشترك، حيث واصل مسؤولو التعليم في الدول الأعضاء تقديم واستحداث برامج تواكب المرحلة، بما في ذلك إنشاء الشبكة الخليجية لضمان الجودة في التعليم العالي، واعتماد الخطة المشتركة لتطوير مناهج التعليم العام بالتعاون مع مكتب التربية العربي لدول الخليج، وقد شملت رفع كفاءة المعلمين و إعادة صياغة الأهداف التعليمية ووضع الأطر المرجعية لها وتحسين المواد التعليمية وتحديد المهارات الأساسية، بجانب بادرة نوعية تمثلت في دعم الدول الأعضاء لبرامج أكاديمية في جامعة الخليج العربي وكذلك تخصيص كراسي بحثية بأسماء قادة دول المجلـس في هذه الجامعة التي يشرف عليها مجلس التعاون وقد خرّجت خلال العقود الماضية عدداً من القدرات البشرية الفذة من أبناء الدول الأعضاء، عززوا تنمية أوطانهم في مجالات شتى.
تواصلت قراءة المستقبل في منظور العمل التعليمي المشترك، وهو ما تمت ترجمته مع مطلع الألفية الجديدة على هيئة مشروعات وتوجهات جديدة تهتم بالمواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات التنمية، منها هيئة مشتركة للتنمية العلميـة والتقنية، ومركز إقليمي للبحث العلمي والتقني في مجال الطاقة، كما تبنت دول المجلس “وثيقة التطوير الشامل للتعليم” وهي خطة تربوية متكاملة تضمنت مشروعات طموحة للارتقاء بالنواتج التعليمية والشراكة بين مؤسسات التعليم والمجتمع ووضع الأطر لتنفيذ مشروعات الجامعة الإلكترونية والمدرسة الإلكترونية والتعليم الافتراضي.
خلال السنوات التالية، حدثت نقلات نوعية في دول المجلس من حيث مجال افتتاح الجامعات والكليات الحكومية والأهلية، أو مجال البحـث العلمي والابتعاث للخارج، كما وصل التعاون بين المؤسسات التعليمية في الدول الأعضاء والجامعات العالمية المرموقة إلى مستويات غير مسبوقة، كما تم فتح مجالات التعاون في التعليم الفني والعام والعالي ضمن الحوار الاستراتيجي الشامل للمجلس مع الدول والتكتلات الإقليمية والعالمية، وهو ما أسهم فيما بعد في إقامة مؤتمرات دولية متخصصة في تطوير التعليم، وزيادة عدد الكفاءات الخليجية المؤهلة، والإسهامات الأكاديمية والبرامج المتخصصة التي تضاعف أثرها مع تقدم الثورة التقنية والمعلوماتية.
في ذات الوقت، كان التعاون الخليجي يسير في خط مواز على سبيل تطوير البحث العلمي والتقني وتحقيق معايير إدارة المعرفة والتميز البحثي في مؤسسات التعليم العالي، زيادة التمويل المخصص للمجال البحثي، تشجيع القطاع الخاص على المساهمة في تمويل الأبحاث العلمية والتقنية المتخصصة، وتحفيز الشركات العالمية العاملة في دول المجلس على تبني برامج متخصصة للبحث العلمي والتقني بالإضافة إلى توطين القاعدة العلمية والتقنية والمعلوماتية والاستفادة الكاملة في ذلك من خبرات المنظمات الدولية والإقليمية، والعمل على إقامة مراكز بحثية مشتركة بين دول المجلس.
واليوم وبعد أربعة عقود على تأسيس المجلس، تمتلك الدول الأعضاء خبرات ريادية في مراحل التعليم المختلفة، كما تمتلك جامعات ومعاهد بحثية بمعايير عالمية تعد الأكثر تميزاً في المنطقة، يتم فيما بينها تعاون مستمر، فضلاً عن استقطابها خيرة العقول العالمية، وتخريجها لصفوة المواهب الوطنية، وعملها المتواصل مع قطاع الأعمال والمنشآت الصناعية والإنتاجية لبناء التكامل المطلوب بين البحث العلمي والتنمية في الدول الأعضاء، حيث أصبح للقطاع الخاص تجربته المستقلة في رفع تنافسية التعليم وتقديمه وفقاً لمعايير جاذبة وعالية الجودة، تؤدي جميع هذه القطاعات مع بعضها دوراً محورياً في مسيرة التنمية الشاملة والمستدامة لدول المجلس.
ولأن الابتكار هو منجم الأفكار الواعد، حيث يلتقي التعليم بالاقتصاد، فقد تم إنشاء مكتب براءات الاختراع لمجلس التعاون لتشجيع البحث العلمي والتقني وتسهيل انسياب التقنية ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، كما وضع المجلس نظام براءات الاختراع بما يتماشى مع الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الملكية الفكرية، إسهاماً في نقل وتطويع التقنية وتطوير الكفاءات المحلية بما يتلاءم مع طبيعة حاجات المنطقة وأهداف التقدم والتنمية فيها، وتوظيف مخرجات التعليم والأفكار المبتكرة من أجل إيجاد منتجات جديدة لها قيمتها الاقتصادية، وتخدم البشرية في مختلف المجالات.
لقد كان نتاج تعاون دول المجلس في مجالات العلم والمعرفة والابتكار رحلة إنجاز تتفوق على نفسها منذ انطلقت، بل إنها صنعت زخماً وتجربة عملية يمكنها أن تلهم الكثير من نماذج العمل الجماعي والتكتلات المختلفة، حيث تقوم المنهجيات المنظمة والعمل التراكمي بصناعة واقع جديد يستفيد منه الجميع باكتشاف ما يمكنهم إنجازه معاً، وتزيد القيمة المرجوة لتعاون من هذا النوع حين ندرك الارتباط الذي يزيد قوة بين التعليم والتنمية، وحين نعي معطيات العصر الحديث من مصادر التعلم المفتوحة وإعادة تشكل مفهومنا عن الوسائل التعليمية وما ينبغي تعلمه دون غيره.
أما النتائج فهي اليوم تتحدث عن نفسها، سواء كان ذلك في مؤشرات التنمية البشرية والابتكار وبراءات الاختراع حيث تحتل الدول الخليجية مراكز متقدمة، أو في عدد المنشآت البحثية والتقنية والعلمية المتطورة ذات الإسهام المتواصل، أما العنصر الأهم والأثمن، فهو الإنسان الخليجي اليوم وما يتمتع به من قدرات علمية ومهارات نوعية متفوقة، جعلته يتصدر أعلى المناصب والمراتب، محرزاً الجوائز العالمية بمنجزات علمية وابتكارية وصلت أصداؤها أنحاء المعمورة، واضعاً بصمته في مجال عمله أياً كان، ومشاركاً في جهود دوله نحو خدمة مجتمعها، ومنفعة البشرية جمعاء.