تُعدُّ القوة الناعمة مصطلحًا حديثـًا لم يظهر إلا في أواخر القرن العشرين، والإعلام – بشكليه التقليدي والحديث – يعتبر من أهم أدوات القوة الناعمة، حيث يوصف بأنه الذراع الأقوى للقوة الناعمة، وكما أن الإعلام يُعدُّ أهم أداة للقوة الناعمة في بناء المجتمعات، فهو ‒ أيضًا ‒ أحد أخطر أدواتها المدمرة لتلك المجتمعات، وهو ما أوضحناه بالتفصيل في المقالة السابقة، بالإضافة إلى قدرة الأجهزة الإعلامية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، على التأثير بشكل إيجابي أو سلبي في المتلقين وفرض آراء معينة عليهم.
وفي هذا الجزء من السلسلة سيتم التركيز على الإعلام كأداة من أدوات القوة الناعمة ووسيلة مهمة للتأثير في الشعوب.
الإعلام .. ملتقى أدوات القوة الناعمة
ذكرنا أدوات متعددة للقوة الناعمة، مثل: الثقافة، واللغة، والسياسة الخارجية للدول، والمساعدات الإنسانية، والسياحة، والرياضة وغيرها، ولكن هل من الممكن أن نتخيل نجاح نشر تلك الأدوات وترويجها من دون وجود آلة إعلامية عصرية وقوية تعمل على تحقيق ذلك الهدف؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدًّا، وذلك من خلال الاطلاع على واقعنا الذي نعيش فيه، فالإعلام هو مـَن ينشر الثقافة والعلوم والأحداث الرياضية، وهو مـَن يلمع السياسات الخارجية للدول، وهو مـَن يبرز الدور الإنساني الذي تقوم به، وبالتالي يمكن وصف الإعلام بأنه (اليد الصلبة للأدوات الناعمة).
الإعلام وتنظيمه منذ القدم
إن ظهور مصطلح القوة الناعمة في نهايات القرن العشرين لا يعني أن أدواته
– وأهمها الإعلام – هي أدوات حديثة، بل هي قديمة قدم البشر، والإعلام كان ولا زال له دور مؤثر في حياة الشعوب.
كما أن تعاطي وسائل الإعلام مع الأحداث لم يكن يتم بشكل عشوائي أو ارتجالي، بل كان يتم بتنظيم يضمن له نجاحه وتحقيق هدفه، وهو التأثير في أكبر عدد ممكن من المتلقين، ففي الجزيرة العربية وقبل أكثر من (15) قرنـًا كان شعراء القبائل يجتمعون في أسواق أدبية لوصف شجاعتهم وكرمهم وقوتهم من خلال تصوير المعارك التي شاركوا فيها، فقد كانت تلك الأسواق عبارة عن منابر إعلامية لتلك القبائل، مثل سوق عكاظ التاريخي.
القوة الناعمة للإعلام والقوة الصلبة للجيوش
إن تطور الإعلام ووسائله بهذا الشكل السريع واللافت جعل منه جهازًا يتفوق على الأجهزة العسكرية، ويحقق نتائج لا تستطيع الجيوش المدججة بالأسلحة أن تحققها، ولعل أبرز مثال يؤكد هذه المقولة ما حققته وسائل الإعلام إبان الحرب الباردة، فالحرب التي استمرت لأكثر من أربعين عامًا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي كانت عبارة عن حرب نفسية سلاحها الإعلام والدعاية، وفي النهاية تفوقت الولايات المتحدة الأمريكية من دون حرب عسكرية، بل بتأثير إعلامي واسع أدى في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد كانت وسائل الإعلام وأبرزها الإذاعات المؤيدة للدعاية الأمريكية أهم الأسلحة الموجهة لنقد النظام الشيوعي، ونشر الكراهية ضده في أوروبا وأمريكا، وكانت إذاعات أوروبا الحرة ولندن وصوت أمريكا أهم الأدوات التي تعزف تلك الدعاية الأمريكية.
الإعلام والتطرف
في هذا الجزء، نستعرض مثالاً معاصرًا لمدى تأثير الإعلام في ظاهرة واحدة فقط وهي ظاهرة الإرهاب والتطرف.
لقد تطور مفهوم الإرهاب منذ ثمانينيات القرن الماضي من خلال استحداث مصطلحات مثل التطرف والتطرف العنيف، ومثلما تطور هذا المصطلح على مرِّ الزمن فقد تطورت الأساليب الدعائية للإرهابيين وطرق تجنيدهم، وذلك من خلال استخدام القوة الناعمة وأدواتها ومن بينها الأداة الإعلامية، وهنا نؤكد مرة أخرى بأن القوة الناعمة لا تعني بأنها تستخدم استخدامًا إيجابيًّا في جميع الحالات، فمن الممكن استغلال هذه القوة في تدمير الدول وتأجيج الحروب وإثارة الاضطرابات.
إن المراقب لتاريخ التنظيمات المتطرفة سيلاحظ مدى التغير في استخدام وسائل التجنيد، فبعد أن كان التجنيد يتم إجباريًّا من خلال الهجوم على بعض المناطق وأسر المتواجدين فيها بغرض تجنيدهم، أصبحت عملية جذبهم لتلك التنظيمات من خلال الاجتماعات السرية الصغيرة أو من خلال منشورات بدائية، تشجع على تبني الفكر المتطرف لهذه التنظيمات، والذي قد يكون أساسه ديني أو عرقي أو غير ذلك.
ومن ثم تطور هذا الأمر حتى أصبحت عملية التجنيد تتم من خلال نشر فيديوهات دعائية بدائية، إلى أن وصلنا إلى الاستخدام الاحترافي لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي سهلت من عملية التواصل مع الهدف حتى لو كان على بُعد آلاف الكيلومترات من مراكز التنظيمات الإرهابية، فقد ظهرت أساليب حديثة للتجنيد تعتمد على القوة الناعمة لهذه التنظيمات المتطرفة، وهو ما يدعى بتجنيد “الذئاب المنفردة”، وذلك يتم من خلال وسائل الجذب المتمثلة في الفيديوهات والمنشورات والألعاب الإلكترونية التي تحرض على العنف، حيث يقوم الهدف المتلقي بتطبيق كل ما يراه أو يسمعه من تلك الجهات على أرض الواقع، ويكتفي التنظيم بإعلان مسؤوليته عن هذا النوع من الحوادث، مما يحقق دعاية تضاف إلى رصيد ذلك التنظيم.
فلو أخذنا على سبيل المثال تنظيم “داعش” الإرهابي، فسنرى بأن من أهم الأسباب التي مكنت هذا التنظيم من الظهور واستمراريته لهذا الوقت هو التفوق الإعلامي، فلأول مرة يملك أحد التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط هذه الماكينة الإعلامية القوية التي سهلت إيصال رسائله الدعائية بكل سهولة، كما مكنت هذه الاحترافية في استخدام وسائل الإبهار من جذب عدد كبير من المقاتلين والمتعاطفين على الرغم من بشاعة ما تنشره الأذرع الإعلامية لهذا التنظيم، بل إن هذا التنظيم تمكن بأسلوبه العصري من إيصال رسائله إلى فئة من الشباب الغربي، بل وتقبلها البعض من أصحاب الخلفيات الأوروبية.
ومن هنا يمكن القول : إن التنظيمات التي كانت تُعدّ في السابق الطرف الأضعف في المعادلة، أصبحت تجاري أو تتفوق في بعض الأحوال على الطرف الآخر المكافح لها، وذلك بفضل تطور إستراتيجيتها المرتبطة باستخدام القوة الناعمة، ومن هنا برزت حاجة الدول والمجتمع الدولي إلى تطوير أساليب مكافحة الإرهاب المعتمدة على القوة الناعمة – وخاصة الاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي – بالإضافة إلى استخدام الأساليب العسكرية أو الصلبة.
الاستثمار في الإعلام
في وقتنا الحالي يتفق كثير من صناع السياسات مع مقولة “مـَن يملك الإعلام يملك العالم”، وبالتالي فقد ارتأت بعض الدول أن الاستثمار الهائل في الإعلام هو المفتاح لبوابات الاستثمار الأخرى.
تُعدُّ فكرة التحول الأكاديمي لمفهوم الإعلام من أهم أدوات الاستثمار في الإعلام، فلم يعد الإعلام مجرد مهنة تكتسب من خلال الخبرة والتدريب التقليدي، بل أصبح علمًا لديه نظرياته الخاصة وأساليبه التجريبية التي تُعدُّ من أهم أساليب التدريب ونقل الخبرات، ولقد أسهمت مؤسسات التعليم العالي من خلال افتتاح كليات الإعلام في إحداث ثورة في الفكر الإعلامي، كما تزايد الطلب على افتتاح معاهد تدريبية تخصصية في مجال الإعلام من أجل ترسيخ هذا الفكر المتطور والمرتبط بما يسمى صناعة الإعلام.
إن هذا الاهتمام بالإعلام حولها لأحد أهم الصناعات في العالم، والاستثمار في هذه الصناعة لا يُعدّ استثمارًا عاديًّا أو تقليديًّا فقط، بل تعدى ذلك لأن يكون نوعًا من أنواع الاستثمار في المعرفة.
لفترة قريبة جدًّا كان الإعلام مقيدًا نسبيًّا فيما يسمى بالمحلية، إلى أن نقلته الثورة المعلوماتية إلى العالمية، وأصبح القائمون على وسائل الإعلام هم القادة الجدد للعالم، كما استطاعوا أن ينتزعوا سلطات كثيرة من أيدي السياسيين سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال التأثير في الرأي العام واستمالة الجماهير.
ولذلك لاحظنا في الفترة الأخيرة اهتمام بعض الدول العربية ببناء واستحداث منصات إعلامية تهدف إلى التأثير في الرأي العام العربي والإقليمي والعالمي، وعندما أرادت دول أخرى الدخول للمنافسة لم تجد الوقت الكافي لاستحداث قنوات ومنصات جديدة، بل اتجهت نحو الاستحواذ على منصات عالمية موجودة فعليًّا سواء كانت قنوات إعلامية أو صحف أو منصات إلكترونية.
مما سبق يتبين مدى أهمية الإعلام في جذب الآخر والتأثير في الرأي العام وتبديل الآراء والقناعات، ومن الممكن وصف أداة الإعلام بأنها (اليد الصلبة للأدوات الناعمة).
وختامًا، فمن المناسب عرض بعض التجارب عن مدى نجاح الدول في استغلال وسائل الإعلام لتعزيز قوتها الناعمة، من خلال جذب الآخر سواء كانوا أفرادًا أو حكومات، أو من خلال تحسين وتغيير الصورة النمطية السائدة عن بعض الدول، ففي الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة، سيتم عرض بعض النماذج لدول نجحت في تسخير أدوات القوة الناعمة – وبخاصة أداة الإعلام – لخدمة مجتمعاتهم، كتجارب دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية.