الصحافة المعدية 




د. نصر الدين لعياضي 

باحث في وسائل الإعلام 

كم هو عدد المفاهيم التي تحاول توصيف تنوع الممارسات الجديدة في الصحافة وتكاثرها والتي برزت بظهور “الواب”، خاصة جيله الثاني، وانتشار استخدامه، والتي تحولت إلى نوع من أنواع الصحافة؟.  

لقد حاول بعضهم حصرها حصرًا شاملاً – دون أن يتأكد من ذلك – في المفاهيم التالية: “صحافة الإنترنت”، و”صحافة الواب”، و”الصحافة التساهمية”، و”صحافة المواطن”، و”صحافة المصادر الشعبية”، و”الصحافة الإلكترونية”، و”صحافة الويكي” (Wiki)، و”صحافة البيانات”، و”الصحافة الرقمية”، و”صحافة الموبايل”، ويمكن أن نضيف له “الصحافة المكتَنَفة” (Ambient journalism)، و”الميديا ذات القابلية للانتشار” (Spreadable)، وأخيرًا “الصحافة المعدية” (Viral Media) أو “ميديا العدوى”. ماذا؟ العدوى؟ وما دخل العدوى في حقل الإعلام والاتصال والميديا؟  

قوة الاستعارة 

لعل القارئ الكريم يدرك أن مصطلح العدوى مستقى من العلوم الطبية، للدلالة على صفة انتشار الوباء الذي يسببه الفيروس وانتقاله بسرعة بين الأشخاص.  

لقد رُحل هذا المصطلح إلى حقل الإعلام والاتصال والتسويق في مطلع القرن الحالي من باب الاستعارة.  

إن الاستعارة، كما هو معروف، أسلوب تكتسب بموجبه عبارة ما معنى مختلفًا عن معناها المألوف الذي رسخه التداول اليومي، فالباحثان “جورج لاكروف” و”مارك جونسن” يؤكدان على أن الاستعارة ليست قضية لسانية فحسب، بل تتعلق –أيضًا– ببناء أفكارنا ومواقفنا وأفعالنا، بمعنى أن الاستعارة ليست إجراءً بلاغيًّا فقط، لكنه مسار إدراكي، ويعترفان بسلطتها الاستكشافية والتعليمية. 

في معنى العدوى الميدياتكية 

يؤكد بيار مورلي، أستاذ الاتصال الرقمي بجامعة لوزان بسويسرا، على أن العدوى الميدياتكية تتمثل في تركيز الانتباه الجماعي خلال فترة زمنية وجيزة جدًّا على موضوع ما أو حدث معين، فيؤدي إلى انتشاره بسرعة فائقة بين الأشخاص عبر الميديا الاجتماعية، الانتشار الذي يتجلى عبر التداول الواسع للحدث، والاشتراك عن قصد في بثه وإعادة نشره وتوزيعه.  

انطلاقًا من هذا الإطار العام عُرّفت “صحافة العدوى” (Viral Journalism) بأنها: “وليدة التغيير الكامل والأساسي في إنتاج المحتوى الإعلامي، الذي أحدثته شعبية الميديا الاجتماعية، وفي استهلاكه، والذي ساهم الجمهور/القارئ/المستخدم في توزيعه وإعادة نشره أو بثه”.  

والقصد بالصحافة في هذا المقام لا يكمن في المنْتَج؛ أي الصحف، بل في الممارسة الإعلامية. 

يعتبر موقع “بزفيد” (BuzzFeed) الإخباري أبرز مثال عن الصحافة المعدية، وهو تابع لشركة ترفيه عالمية، أسست في عام 2006م بالولايات المتحدة الأمريكية، مؤسسة “جون بريتي” (Jonah Peretti)، الذي شارك في انطلاقة صحيفة “هافينغتون بوست” (Huffington   Post) الأمريكية التي تقدم أخبارًا متنوعة عن الصحة، والمال والأعمال، والسياسة والثقافة، وتعتمد على الإسهامات المجانية لأكثر من (200) مدون التي يبثها عبر الميديا الاجتماعية.  

كان نشاط موقع  “بزفيد” في انطلاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية يقتصر على تجميع الأخبار التي يتوجس فيها القدرة على “العدوى”؛ أي سرعة الانتشار في شبكة الإنترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية، ثم توالت طبعاته المختلفة في بريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا، وكندا، وأستراليا، والهند، والمكسيك، وعلى الرغم من توجهه إلى نشر الأخبار الجادة إلا أن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي شملت مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية، لا تعتبره مصدرًا إخباريًّا ذا موثوقية ومصداقية.  

إن كان هذا الموقع يفتقد المصداقية، فبماذا نفسر “عدوى” أخباره التي بلغت شعوبًا وأممًا مختلفة في قارات العالم الخمس؟! هل السبب يعود لطبيعة عناوينه التي تتسم بالإثارة أم في معالجته السطحية للمواضيع “المنسية” في الصحافة العالمية؟ أم لعلاقاته المشبوهة بالمعلنين؟ لقد تم التأكد من إقدامه على نشر مواد إعلامية، وليست إعلانية وترويجية، بتمويل كامل ومتستر من شركات صناعية وتجارية.   

محاولة تفسير 

مهما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة، فإنها لا تستطيع وحدها أن تفسر ميلاد وتطور الصحافة المعدية، لقد ربط البعض ظهورها بسلطة التكنولوجيا، وشرح أشكال تطورها عبرها، فإن كانت الصحافة الورقية صنيعة المطبعة، فإن صحافة الإنترنت ولدت نتيجة اختراع شبكة الإنترنت، وبرزت صحافة العدوى مع تزايد شعبية مواقع الشبكات الاجتماعية التي رفدتها الأجهزة النقالة، خاصة الهاتف الذكي الذي عمّ انتشاره مختلف الشرائح الاجتماعية في جل بلدان العالم، وهذا التفسير يجسد دورة الحياة التكنولوجية لوسائل الإعلام. 

من الصعب أن ننظر إلى تطور وسائل الإعلام من منظور التكنولوجيا على الرغم من أهميتها الكبرى، فمُنَظِّر الميديا الجديدة (Fidler Roger) بيّن في كتابه المرجعي الخاص بتحول الميديا، الصادر في عام 1997م، أن العلاقة بين التكنولوجيا والميديا والتحول في وسائل التواصل تحصل في الغالب كنتيجة للتفاعل المعقد بين الطلب الاجتماعي، والضغط التنافسي التجاري والسياسي، والمبتكرات الاجتماعية والتكنولوجية. 

إن هذا القول ينفي كل فكر حتمي في تفسير تطور وسائل الإعلام عبر التاريخ، لكنه لا يتجاهل تأثير التكنولوجيا الذي نراه واضح للعيان.  

إن استعانة وسائل الإعلام بالوسائط المتعددة غيرت النمط السردي للأخبار وجعلتها أكثر قابلية للانتشار، وأن البحوث التجريبية التي اتبعت مسار الأخبار، ورسمت منحنيات تصاعد انتشارها وتداولها في مواقع الشبكات الاجتماعية تؤكد أن الأخبار التي تتوسل شرائط الفيديو تحظى بانتشار أوسع من تلك التي تكتفي بالنص المكتوب الخالي من أي صورة، وأن إيقاع هذا الانتشار يكون أسرع، فالكاتب الأمريكي “دوغلاس روشكوف” (Rushkoff Duglas) يؤكد بأن الصور والأيقونات المستفزة تسافر بسرعة وأبعد وسط البيانات الافتراضية، وافتتاننا بها يُعد خير دليل على أننا غير محصنين ثقافيًّا ضد الفيروسات الجديدة؛ ويقصد بها الأخبار المزيفة، فهذه الأخيرة تسري في شرايين مواقع الشبكات الاجتماعية بسرعة تُقدر بست مرات عن الأخبار الصادقة والموثقة لتبلغ (1500) شخصًا فقط، وهذا حسب البحث الذي قام به الباحث “سوروش فوسوغي” (Soroush Vosoughi) وفريقه في معهد “ماسوشيت” للتكنولوجيا، الذي قام بتحليل (123) ألف تغريدة في موقع شبكة “تويتر” سابقًا، خلال الفترة الممتدة من 2006م إلى 2017م.  

ليس هذا فحسب، بل أن الأخبار الملفقة تصل إلى أكبر عدد من الجمهور قبل تلك الموثوق في صدقها! فمتوسط سلسة الأشخاص الذين يتداولونها لا تزيد عن عشرة أشخاص، بينما متوسط دائرة الذين يتولون نشر الأخبار الملفقة تصل إلى (19) شخصًا.  

حقيقة 

إن البيئة الرقمية غيرت قواعد التعامل مع الأخبار، فوسائل الإعلام التقليدية كانت لا تنشر الأخبار دون التأكيد من مصادرها والتحري حول صحتها وموثوقيتها، لكن صحافة الإنترنت ومواقع الميديا الاجتماعية أصبحت تنشر الأخبار أولاً، ثم تتأكد من مصداقيتها! بل تبرأت من مسؤولية التحري عن مصداقية ما تنشره أو تبثه، وهذا منذ أن أطلق المعلق الأمريكي (Matthew Drudge) مدونته الإلكترونية المسماة (Drudge Report)، والتي اشتُهِرت بعد أن نشر ما أصبح يعرف بـ”قضية كلينتون – لوينسكي” في يناير عام 1998م، حيث اتُهِم آنذاك بأن نسبة كبيرة من الأخبار التي ينشرها عارية من الصحة وبعيدة عن الحقيقة، فكان رده الغريب كالتالي: “لم أطلب من أي شخص أن يصدق ما أنشره!”. 

يقول الكاتب (Joe Lambert) صاحب كتاب “السرد القصصي الرقمي: التقاط الحياة وبناء الجماعات”، الصادر في عام 2013م: “إننا نعيش تجربتين مختلفتين: نكون في التجربة الأولى قراءً، وكُتًّابا في التجربة الثانية”.  

تدفع هذه التجربة المزدوجة إلى التساؤل عن دور الصحافي في البيئة الإعلامية الجديدة، وعن التغيير الذي طرأ على إنتاج المحتويات الإخبارية وتوزيعها، فمواقع الشبكات الاجتماعية وانخراط الجمهور في توزيع الأخبار واقتسامها على مدار اليوم طيلة أيام الأسبوع بشكل متواصل أثر على طبيعة العمل الصحفي من جهة، وطبيعة الأخبار من جهة أخرى، لقد تغيرت “جينات” هذه الأخيرة وتحول حتى حمضها النووي، فلم تعد تكتفي بذكر ما حدث أو ما قيل، بل أصبحت تتابع ردود الفعل على الحدث والتصريحات التي رافقته والتداعيات التي أحدثها. 

وبهذا أصبح الحدث مفتوحًا أو مستمرًا ”يبث/ينشر” في شكل أجزاء صغيرة في مواقع شبكة الإنترنت أو صفحات الأشخاص في مواقع الشبكات الاجتماعية، حسب الباحث الهولندي “مارك دوز” (Mark Deuze)، فإن كانت صحافة الإنترنت قد حرّرت القارئ من عائق الزمن والمكان، وخصصت له حيزًا للتعليق على الأحداث ومنشوراتها، فإن مواقع الشبكات الاجتماعية أعطت أبعاد أخرى لتفاعليته إذ جعلت التعليق مكونًا أساسيًّا للخبر، وبموجبه أضحى القارئ شريكًا في إنتاج الأخبار، ليس هذا فحسب، بل أضحي يعيش تجربة إعلامية، فلم يعد يُسهم في نقل ما جرى، بل أصبح يتواصل عبر ما جرى، يتوق إلى إنشاء علاقات عبر نشر الأخبار وتشكيل جماعات.    

قواعد العدوى 

هل توجد علاقة سببية بين التغيير الجيني في الأخبار والعدوى الإعلامية؟!  

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، وذلك لأن التغيير المذكور هو وليد العدوى الإعلامية التي لها قواعدها، والتي لخصها “صومائيل بوسكارت”، و”كيفن مليي” الباحثان لدى شركة الاتصالات الفرنسية (Orange Labs) في جملة من العوامل، منها: المحاكاة وسلوك القطيع، وجِدَّة الأخبار والبيانات، والتعرض للمحتوى، واقتباس محتوى من صفحة في موقع على شبكة الإنترنت، ممّا يضاعف حظوظ انتشاره في شبكة الإنترنت وفي مواقع الميديا الاجتماعية، وتوصيات الزملاء والأصدقاء والمعارف والأهل بالاطلاع على هذا الخبر أو ذاك، أو الاستماع إلى هذا الشريط عبر رابط في البريد الإلكتروني، أو تحميل شريط الفيديو عبر نص رسالة قصيرة، أو في حساب في موقع من مواقع الشبكات الاجتماعية، وتحلّ هذه التوصيات محلّ ما كان ينقل شفهيًّا من الفم إلى الأذن، أو يدرج في خانة القيل والقال، فالباحثان المذكوران قدرا أن التداول الشفاهي للأخبار والمواد الإعلامية يرفع عدوى الأخبار بنسبة (53%)، بينما لا يُسهم العرض المرئي للأخبار عبر مختلف الشاشات في هذه العدوى سوى بنسبة (47%). 

على العموم أضحت الأخبار التي تثير الفضول العام تحظى بأكبر قدر من الانتشار في الميديا الاجتماعية من تلك المرابطة بالمنفعة العامة، وهذا يفسر جزئيًّا سرعة انتشار المادة الأولية التي يستغلها “المؤثرون” في مواقع الشبكات الاجتماعية، فتكسبهم مزيدًا من الشهرة، هذا في عصر ما بعد الحقيقة الذي يتراجع فيه تأثير الوقائع الموضوعية لصالح المشاعر والأهواء والقناعات الشخصية، إنه العصر الذي يختار الناس فيه ما يعزّز افكارهم وآرائهم وأحاسيسهم، هذا علاوة على أن مشاركة الأصدقاء والزملاء والمعارف الأخبار ذاتها في مواقع الشبكات الاجتماعية يرمي إلى تلبية حاجة إنسانية ماسة، إنها الحاجة إلى تجديد الانتماء إلى الجماعة، ومشاطرتها الأحاسيس والمشاعر وحتى القناعات.  

منافسة غير متكافئة 

إن الرهانات التي تطرحها الميديا المعدية عديدة ومختلفة، لعل أبرزها يكمن في تغيير معايير الحكم على مصداقية الأخبار، لقد أصبحت موثوقية الخبر لا تستند إلى مصادره، بل تحيل إلى عدد المطلعين والمتفاعلين معه سواء بالكبس على أيقونة الإعجاب أو بإعادة التغريدة أو بث الخبر والتعليق عليه، فكلما زاد عددهم ارتفع منسوب مصداقية الخبر! 

ولا يخفى على كل مطلع بأن إمكانية تصحيح الخبر المنشور في مواقع الشبكات الاجتماعية واستدراكه بتصويب محتواه تبدو مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة.  

أنتجت الصحافة المعدية سياق من المنافسة غير المتكافئة، فأصبحت العدوى مؤشرًا أساسيًّا على نجاعة الصحافة، وهذا الأمر يدفع وسائل الإعلام التقليدية إلى الاختيار، بين الالتزام بمسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية بتجسيد فلسفتها في انتقاء الأخبار وفق القيم المهنية والاجتماعية المتوارثة منذ قرون، أو التضحية بهذه المسؤولية والتماهي مع الصحافة المعدية.