في تقرير سابق عن تأثير جائحة (كوفيد – 19) في صناعة السينما وتوزيع الأفلام أشرنا إلى أنه بحلول مارس 2020م خسرت صناعة السينما الصينية ملياري دولار أمريكي، بعد أن أغلقت جميع دور السينما خلال فترة رأس السنة الجديدة، وأنه في هذه الأجواء المتراجعة حقق فيلم (The Eight Hundred) (468) مليون دولارً، وكانت المرة الأولى التي يحقق فيها فيلم غير أمريكي مستوى الفيلم الأكثر ربحًا.
هذا التقرير يكشف بأن صناعة السينما الصينية استأنفت إنتاجاتها، بينما خسرت هوليود كثيرًا، وفي مقال كتبه البروفسيور “وانغ وينغ” بمجلة “غلوبال تايمز” يقول فيه: “من كان يفكر في مشاهدة الأفلام في دور السينما المغلقة مع استمرار انتشار جائحة (كوفيد – 19) في العالم؟ ومع ذلك، فقد تجاوزت عائدات شباك التذاكر الصينية مليار دولار خلال عطلة عيد الربيع لعام 2021م، التي استمرت أسبوعًا كاملاً.
مع هذا الوضع، حسب رأي الأستاذ والعميد التنفيذي لمعهد “تشونغ يانغ” للدراسات المالية بجامعة “رينمين” في الصين، من المتوقع أن يتجاوز سوق الأفلام في الصين حجم سوق أمريكا الشمالية مرة أخرى، وبهذا المعنى ستستمر الصين في قيادة أكبر سوق للأفلام في العالم في هذا العام 2021م.
وعندما تجاوزت الصين أمريكا الشمالية لتصبح أكبر سوق لشباك التذاكر في العالم لأول مرة العام الماضي، أحال البعض السبب لاجتياح (كوفيد – 19) للولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا الرأي يتجاهل تمامًا العمل الشاق الذي قام به صانعو الأفلام الصينيون في العقد الماضي والتطور السريع للمجتمع الصيني، فعندما تم إصدار فيلم “أفتار” لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر 2009م، أخرت دور السينما الصينية إطلاقه لمدة أسبوعين، مما أتاح الطريق لفيلمين صينيين هما: (Bodyguards and Assassins)، و (A Woman, A Gun And A Noodle Shop)، وكلاهما يضم جميع نجوم السينما الصينية الكبار تقريبًا.
ومع ذلك، حطم “أفتار” الرقم القياسي في شباك التذاكر الصيني، فهزت هوليوود ثقة السينما الصينية في نفسها بشكل كبير؛ لكن معرفة الهزيمة هي أمر أقرب إلى الشجاعة – كما يقول المثل الصيني القديم – فقد تبين أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هو مرحلة نضوج للمخرجين الصينيين تماشيًّا مع ارتفاع مستويات التحضر والمعيشة في الصين.
ففي عام 2019م، كان إجمالي شباك التذاكر للأفلام الصينية قريبًا من مثيله في أمريكا الشمالية، مع وجود فيلم (Avengers: Endgame) في المراكز الثلاثة الأولى فقط، وفيلم (The Fast and the Furious) في المركز العاشر في قائمة أعلى (10) أفلام ربحًا في الصين في ذلك العام، أما البقية فكانت جميعها أفلامًا صينية.
في عام 2020م، لم تكن هناك أفلام أجنبية في أكبر (10) شباك تذاكر في الصين، وفي عام 2021م، أصبح سوق الأفلام مرتفعًا لدرجة أنه كان من الصعب شراء تذكرة خلال عطلة عيد الربيع في الصين.
هناك سببان على الأقل وراء هذه الطفرة
أولاً: أصبح عدد شاشات السينما الصينية “الأعلى في العالم”، وذلك بنمو سنوي قدره (4.4%)، حيث بلغ العدد الإجمالي للشاشات (75581) شاشة عرض في 2020م، بزيادة قدرها (8.3%) على أساس سنوي، وهو ما يمثل (40%) من الإجمالي العالمي، ويتجاوز بكثير نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًّا: يتعلق التحسن الثاني عمومًا بالتوسع الحضري في الصين، والطاقة الاستهلاكية للشعب الصيني، وحيوية المجتمع الصيني، ففي عام 2020م تفوقت الصين على الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر سوق استهلاكي في العالم، كما نشير إلى أن عملية تعزيز الاستهلاك الثقافي هي – أيضًا – مؤثر مهم، فضلاً عن الوقاية الصارمة من جائحة (كوفيد – 19) ومكافحتها، وتعميم التجارة الإلكترونية، ونمو الاستهلاك عبر الإنترنت والنقل، وزيادة الدخل الحقيقي بسبب نجاح الصين في التحول الاقتصادي في المرحلة الأولية.
مما لا شك فيه أن لحاق السينما الصينية بالركب ليس سوى البداية، ومع ذلك لا تزال هناك فجوة كبيرة مع أسواق الأفلام الرائدة الأخرى، على سبيل المثال يوجد فيلم صيني واحد فقط هو (Wolf Warrior 2) يحتل المرتبة (54) من بين (100) فيلم من أعلى الإيرادات في جميع أنحاء العالم، لذلك سيستغرق الأمر مزيدًا من الوقت حتى تصبح الأفلام الصينية مشاهدة عالميًّا، لا سيما فيما يتعلق بتمويل الأفلام والصناعة والتكنولوجيا والمحتوى، فهي ما تزال بعيدة عن السيادة الأمريكية على مستوى العالم.
إن موضوع ضعف البُعد العالمي للسينما الصينية مطروح منذ وقت طويل، وقد سبق لصحيفة “الشعب” الصينية أن تناولته قبل سنوات عدة في تقرير عنونت جانبًا منه: “لماذا تواجه الأفلام الصينية صعوبات في طريقها إلى الخارج مرارًا وتكراراً؟”، والإجابة كانت أن الأسواق العالمية تتعامل بصرامة كبيرة عند اختيار الافلام المستوردة، وتمضي الصحيفة إلى القول بأن الأفلام الصينية كثيرًا ما تعتمد على المشاركة في المهرجانات السينمائية الدولية للخروج إلى العالم، لكن هذا لم يقدم تأثيرًا ملحوظًا.
في ذلك قال أحد مسؤولي ترويج الأفلام الصينية “شاركنا في مهرجان هونغ كونغ السينمائي ومهرجان الأفلام الأمريكي ومهرجان كان السينمائي، لكن تأثير ذلك في شباك التذاكر كان ضعيفًا جدًا”، كما أن التعاون مع الأطراف الأجنبية في صناعة الأفلام ليس أمرًا سهلاً أيضًا، وأن حق النشر لبعض الأفلام الصينية يباع للجهة الأجنبية المصدرة بأسعار رخيصة بسبب ضعف الطرف الصيني في عملية التسويق، ما يقلل من قدرة الطرف الصيني على مشاركة أرباح أفلامه في السوق الدولية، بغض النظر عن قيمة شباك التذاكر التي تحققها الأفلام الصينية، إضافة إلى ذلك شكلت الاختلافات الثقافية بين الشرق والغرب صعوبات لإخراج الأفلام الصينية، كما أن السينما الصينية لم تأخذ في الاعتبار الأسواق الخارجية منذ بداية نشأتها.
وبالعودة إلى البروفسيور “وينغ” الذي يرى أن خلف السينما الأمريكية تتمظهر القوة الناعمة للولايات المتحدة الأمريكية، مستندًا إلى تقرير صادر عن الكونغرس جاء فيه: “بصفتهم سفراء للنوايا الحسنة الذين لا يحتاجون إلى دعم دافعي الضرائب الأمريكيين، فإن أفلام هوليوود تُبقي العالم على اطلاع على أسلوب الحياة الأمريكي وقيمه سياسيًّا وثقافيًّا وتجاريًّا”.
مع ذلك تظل هناك ثقة راسخة في مستقبل السينما الصينية، فمعدل التحضر في الصين يبلغ (60%)، مع وجود دورتين سينمائيتين فقط في كل مقاطعة، علاوة على ذلك تُظهر الأرقام أن الصينيين يذهبون تقريبًا إلى السينما مرة في السنة في المتوسط.
واختتم “وينغ” مقاله قائلاً: إن الأفلام السينمائية ستصبح عاملاً مؤثرًا في عملية بناء القوة الوطنية للصين، وستعمل على زيادة تعزيز التكنولوجيا الذكية، والتنمية الحضرية، والثقافة الحديثة، والتقدم الاقتصادي، والقوة الناعمة، إضافة إلى سوق يصل إلى (1.4) مليار شخص، ستدخل مزيد من الأفلام الصينية قوائم أفضل أفلام في العالم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حسب توقعاته.