حددت الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة في (17) هدفـًا، من خلال رؤيتها التي تتعلق بالتنمية المستدامة وعُرفت بـ”رؤية 2030م”، وذلك خلال قمة التنمية العالمية في نيويورك بتاريخ 25 سبتمبر 2015م، واستندت فيها إلى ميثاقها وإلى “إعلان الحق في التنمية” الصادر في سنة 1986م، تحت شعار “لا أحد سوف يُترك في الخلف”.
وإذ تمثل التنمية المستدامة هاجسًا دوليًّا لا يمكن بلوغ أهدافها وخصوصًا الهدف (16) “السـّلم والعدل والمؤسسات القوية” من دون تخطيط إستراتيجي، يهمنا جدًّاتعرّف دور الإعلام والسياسات الاتصالية في بلوغ تلك الأهداف.
لقد بدأ الاهتمام بمفهوم الإعلام التنموي منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث تتحدد وظيفة الإعلام هنا في الرقابة واتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات والتشريعات والتنشئة والتربية وتنمية المهارات.
ومثلما أن هدف التنمية الأول والأخير هو الإنسان، فإن هدف الإعلام ‒ أيضًا ‒ هو الإنسان وكل ما يتعلق بالحقيقة، لذا انتقل الإعلام من نقل المعلومات إلى إنتاج المعارف، لكن الإعلام نفسه الذي يؤدي دورًا إيجابيًا في التواصل ونشر المعرفة، يكون سلبيًا حين يغذي عوامل التعصب المنتج للتطرف، وهذا الأخير يمكن أن يتحول إلى عنف إذا صار سلوكًا، بل وقد يصبح إرهابًا إذا ضرب عشوائيًا.
وهناك اعتراف متزايد بأن إشراك وسائل الإعلام كأولوية في السياسات والبرامج الوطنية أصبح لا غنى عنه لإحراز تقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بعدما حدث كثير من التحولات في المشهد الإعلامي خلال القرن الواحد والعشرين، حيث أصبح الإنترنت في متناول (4) مليار شخص، كثير منهم متفاعلون مع منصات التواصل الاجتماعي باعتبارها تشكل لديهم مصدرًا للحصول على المعلومات وآخر الأخبار.
ثم إن زيادة المنصات الإعلامية الإلكترونية أدت إلى إيجاد فضاءات واسعة للحوار وتبادل المعلومات والآراء، إلا أن ذلك التحول في المشهد الإعلامي صاحبه خلط كبير بين الشائعات والحقائق، الأخبار والآراء، الأسرار الشخصية ومهددات الأمن القومي، بل تسبب ذلك الخلط في تفشي عدة ظواهر إعلامية، منها: “الأخبار الزائفة، وفقاعات المعلومات، وغرف الصدى الأيدلوجية”، مما نتج عن ذلك زيادة الضغوط على الصحفيين المتمسكين بالمهنة في مجاراة تلك الظواهر، وتأثير وحدة التماسك في المجتمعات، وصناعة القرار العام.
ولكي يؤدي الإعلام دوره في التنمية وتحقيق السـّلم والعدل وتقوية المؤسسات
لا بد من أن يتمَّ أولاً تعزيز دوره، من خلال دعم الإصلاحات القانونية والتنظيمية في البيئة الإعلامية، ودعم قدرة وسائل الإعلام على تعزيز المساءلة، وتعزيز حرية الصحافة، وحماية الصحفيين، وكذلك تطوير الاحترافية في قطاع الإعلام من خلال تدريب المشتغلين في الحقل الإعلامي وتوعيتهم بأدوارهم النبيلة في تنمية المجتمع والإنسان.
والإعلام الناجح هو الذي يرتكز على سياسة اتصالية محددة، وهي تعني “مجموعة المبادئ والمعايير التي تحكم نشاط الدولة تجاه عمليات تنظيم وإدارة ورقابة وتقييم وموائمة نظم وأشكال الاتصال المختلفة، من أجل تحقيق أفضل النتائج الاجتماعية الممكنة”، والهدف الأساسي من الاهتمام بقضية السياسات الاتصالية هو الدعوة إلى محاولة رسم سياسات مستقبلية تتسم بالتكامل ووضوح الأهداف.
أما السياسات الإعلامية الوطنية، فهي تعمل على تعزيز الروح الوطنية بين أفراد الشعب، وذلك عبر تعريفهم بتاريخهم الوطني وإنجازاته، والعمل ‒ أيضًا ‒ على مناهضة التيارات الهدامة والأيديولوجيات الفكرية الزائفة وبيان خطرها على الأفراد والمجتمعات، والتصدي للتحديات الإعلامية والدعائية التي تستهدف الهجوم على المكتسبات الوطنية في مجالات الأمن والاستقرار المجتمعي.
هذا إلى جانب بلورة رأي عام وطني مستنير مسلح بالرؤية الواضحة للأحداث ومتطلبات مواجهتها وفق كل الاحتمالات الممكنة، واستثمار الطاقات المبدعة في عملية البناء الوطني الشامل في مجالات الحياة الديموقراطية والتنموية كافة من خلال العمل الإعلامي مع الالتزام بضوابط حرية التعبير.
ومن المستحسن كتابة السياسة الإعلامية وطبعها في كتيب وتوزيعها على العاملين بوسائل الإعلام للتعرف عليها، إضافة إلى طبع بعض أجزائها وتوزيعها على المؤسسات والجماعات والشخصيات المهمة التي تؤثر في هذه الوسائل أو تتعامل معها.
وتوجد عدة أبعاد للسياسات الاتصالية أبرزها البـُعد الإنمائي، حيث يتناول خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية وعلى الأخص ما تعلق منها بالتعليم النظامي وتعليم الكبار، ومدى ملاءمة النشاط الاتصالي وخدمته ومساهمته في هذه الخطط.
ويزخر العالم بالعديد من التجارب في مجال الاهتمام بتوظيف السياسات الاتصالية لتحقيق أهداف التنمية، ومن ذلك على الصعيد العربي وتحديدًا الخليجي نجد أن السياسة الإعلامية في المملكة العربية السعودية نصـّت في أكثر من مادة على ضرورة ملازمة وسائل الإعلام السعودية لخطط الدولة التنموية، لذلك تحرص دوائر الإعلام الرسمية في المملكة على إنتاج البرامج الإعلامية التي تلائم الطفل السعودي أولاً، وتسعى أن تكون تلك البرامج توجيهية مبنية على أسس تربوية علمية مدروسة، كما أنها تولي اهتمامًا كبيرًا ‒ أيضًا ‒ ببرامج المرأة التي تعينها على أداء وظائفها الملائمة لفطرتها داخل المجتمع السعودي، بالإضافة إلى برامج الشباب ولا سيما المراحل الحرجة التي يمرّون بها بدءًا من سنِّ المراهقة إلى بلوغ الرشد وتحصينهم من التيارات الفكرية الهدامة.
ويدرك المسؤولون الإعلاميون في السعودية أهمية تعميق الإحساس بالانتماء الوطني، وأن يكون السعودي صوت حقّ وصدق في كل ما يصدر عنه، كما نصـّت عليه المادة الأولى من السياسة الإعلامية.
وهناك ‒ أيضًا ‒ التجربة الإماراتية الرائدة في تدشين الهوية الإعلامية الرقمية للدولة، وقد روعي فيها إبراز القيم والمبادئ الراسخة التي قامت عليها دولة الإمارات العربية المتحدة، مثل قيم التسامح وحب الآخر واحترامه، فالبلاد التي تحتضن على أراضيها أكثر من (200) جنسية أصبحت مثالاً نموذجيـًّا في التعايش لأجيال، ويستمر هذا التعايش القائم على الـمـُثل العليا في جذب مزيد من الزوار والمستثمرين والطامحين نحو معيشة أفضل من جميع أنحاء العالم.
وقد اختيرت الهوية لتعكس روح الاتحاد الإماراتي، فهي مؤلفة من (7) خطوط تمثل حكام الإمارات السبعة الذين اتحدوا ليكوّنوا دولة الإمارات العربية المتحدة تحت راية واحدة.
أما مملكة البحرين، فقد هدفت إلى توسيع مدركات الإعلاميين بما يُسهم في تنفيذ أجندات أهداف التنمية البشرية، حيث تمَّ بالشراكة والتعاون بين مركز الشيخ عيسى الثقافي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تنظيم ورشة عمل بعنوان: “مقدمة حول أهداف التنمية المستدامة ودور الإعلام في السعي نحو تحقيقها”، وأكدت أطروحات الورشة على أهمية وسائل الإعلام في نشر أهداف التنمية المستدامة والتوعية بها، خصوصًا أن ميثاق العمل الوطني في البحرين بشأن تنمية الشباب، والأساس الاقتصادي للمجتمع البحريني القائم على الحرية الاقتصادية والعدالة، والاستخدام الأمثل للموارد يعكس الروح الواردة في جدول أعمال التنمية المستدامة للأمم المتحدة (2030م) والأهداف الـ(17) للتنمية المستدامة الواردة فيه.
وعلى صعيد التجارب الدولية، فهناك تجربة البرازيل التي اتخذت عدة خطوات لمواءمة أهداف التنمية المستدامة مع أهدافها الوطنية، فعدد سكانها أكثر من (200) مليون نسمة، ما يمثل تحديًا أمام الدولة للوصول إلى كل هؤلاء الأفراد، وتوطين أهداف التنمية المستدامة، وبالتالي كان الاعتماد إلى جانب وسائل الإعلام الرسمية على الاستعانة بشركات الإعلام الخاصة من أجل تعزيز الوعي العام بأهداف التنمية المستدامة.
وتمثلت مبادرة البرازيل في عقد شراكة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع (GLOBO TV) وهي محطة تلفزيونية خاصة تتمتع بشعبية واسعة في البرازيل، فكان من السهل الوصول من خلالها وبسرعة إلى نطاق جماهيري واسع، وعرض رسائل مفهومة وجذابة تُعرض مرارًا وتكرارًا على مدار اليوم خلال أوقات الذروة لمدة شهر، بالإضافة إلى إنتاج البرامج التي تتعمق في قضايا التنمية وتشجيع البرازيليين لأن يكونوا أكثر تفاعلاً مع تلك الأهداف.
وأسفرت تلك الشراكة بين الجهتين لمدة سنة (2017 /2018م) عن (3) حملات تلفزيونية، هدفت كلها إلى تعريف الجماهير بالأفكار الكامنة وراء أهداف التنمية المستدامة، فالتعاون مع المؤسسات الإعلامية والإعلاميين ممن يملكون قدرات متميزة في صناعة المحتويات الترفيهية والمؤثرة قد أسهمت بلا شك في نجاح الحملات الإعلامية والترويج لأهداف التنمية في نطاق أعداد جماهيرية كبيرة.
تجربة أخرى نسوقها من المالديف، حيث يعتبر (47%) من سكان جزر المالديف من الشباب، وهم الذين أسهموا في انتقال بلادهم إلى الديموقراطية وترسيخها، لكن تراجعت مشاركتهم في الحوارات واتخاذ القرارات حسب دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة الشفافية في جزر المالديف سنة 2015م، وتسبب في تعقيد المسألة أن الشباب متفرقون في العديد من جزر البلاد التي تقع في المحيط الهندي، مما يحد من فرص إجراءات مناقشات جماعية معهم حول التنمية وأولوياتها.
وتمثلت مبادرة المالديف في عقد شراكة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع (DHIRAAGU) أكبر مزود للاتصالات السلكية واللاسلكية من أجل تنفيذ مبادرة تسمى “فيلم من أجل التغيير”، وهي مبادرة كانت تهدف إلى تضخيم أصوات الشباب في التنمية، وتعليمهم مهارة صناعة الأفلام كوسيلة لسرد الروايات المقنعة عن التنمية والتي تؤثر في حياتهم والمجتمعات، وقد تمَّ تنفيذ دورات تدريبية للشباب، كل دورة كانت تجمع حوالي (20) مشاركـًا تتراوح أعمارهم بين (18 و28) سنة، يتعلمون كيفية جعل الأفلام مركزة على أهداف التنمية المستدامة وترتبط بحياتهم اليومية، ويتم عرض تلك الأفلام في عدة مواقع عامة بينها المقاهي لإشراك المتفرجين مع الشباب في محادثات مباشرة حول تلك الأهداف والمواضيع التي تطرحها، كما يتم تحميل تلك الأفلام على مواقع التواصل الاجتماعي وتداولها.
وكان من بين النتائج الاعتراف بأن المبادرة وفرت مساحة للشباب للمناقشة والحوار حول ما يهمهم، ويتطلع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى ضمان استدامة المبادرة على المدى الطويل من خلال تعزيز دور القطاع الخاص في تنفيذها.
وخلاصة القول: إن الإعلام بما يمتلكه من كوادر بشرية وتكنولوجيات إبداعية بإمكانه أن يكون نقطة دخول فعالة لتعزيز إشراك الشباب وكافة مكونات المجتمع في قضايا التنمية الرئيسة.