ما إن ظهر فيروس كورونا في مدينة (ووهان) الصينية ولفّ العالم، حتى صاحب ذلك متابعة قوية من قبل وسائل الإعلام العالمية، واهتمام واسع النطاق على مستوى العالم للمهتمين في إدارة المخاطر والحد من انتشار الأمراض والأوبئة، في ظل الظروف الصحية التي تطلبت مزيدًا من التوعية الإعلامية والمجتمعية في مجال الوقاية من الإصابة بالفيروس والحد من مخاطره.
لقد أصبح الإعلام مرآة الشعوب والمؤثر الأساسي في توجهات المجتمع، إذ يُعدُّ مركز استقاء المعلومات في القضايا السياسية والاجتماعية، ويسهم في تحريك الفكر البشري وإعادة تشكيل الوعي المجتمعي، من ثم تكتسب الجماهير الاتجاهات الجديدة وتعدل قيمها بما يتماشى مع المتغيرات، لذا يجب الاهتمام بتشريع سياسات إعلامية تُسهم في تعزيز التنمية الوطنية في مواجهة الجائحة، من خلال اتباع إجراءات الوقاية من مخاطر انتشار وتفشي فيروس كورونا.
من المعروف أنه في أوقات الأزمات والكوارث تظهر مجموعة كبيرة من التغيرات في الظواهر المجتمعية المختلفة، مما يعمل على تغيير مسار النشاط اليومي المعتاد، فمنذ تفشي جائحة كورونا في العالم انصاع الإعلام الدولي لمواجهة هذا الانتشار الواسع، وسُخّرت الإمكانات والتقنيات الحديثة للتوعية ومكافحة المرض، إذ إن الإعلام في هذا الجانب أصبح المصدر الأول للمعلومات والأخبار، وزادت معدلات متابعة الصفحات الإلكترونية لوسائل الإعلام المملوكة لكبرى الشركات الموثوقة عالميًّا، إذ أسهم التحول الإعلامي المقروء والمطبوع إلى إصدارات إلكترونية تتماشى مع الإجراءات المتخذة في الحدِّ من انتشار الفيروس، وتقليل عمليات التلامس وتعزيز التباعد الاجتماعي.
واتجهت المنظومات الإعلامية إلى تعزيز أواصر التنمية الإعلامية، من خلال الإعلام الإلكتروني كإحدى الأدوات المهمة في بناء إستراتيجيات التوعية بمخاطر الفيروس، والاستفادة القصوى من منظومة الإعلام الإلكتروني في تطوير أساليب ووسائل التعليم والتدريب التفاعلي عبر الوسائل الإعلامية الحديثة، والتي من الممكن أن تعمل على تأسيس سياسات وطنية منهجية توظف التقنيات التكنولوجية الحديثة في تقليل مخاطر انتشار الفيروس.
والملاحظ أن في أوقات الأزمات يتم الاهتمام بمراجعة وتصميم السياسات الإعلامية التي تحارب التناقض وتعزز الإدراك؛ لأهمية المنظومة الإعلامية في تطوير وتحسين جودة التواصل الجماهيري المباشر مع مختلف المستويات القيادية والحكومية إلى بقية فئات المجتمع.
إلا أن هناك مجموعة من العوامل المؤثرة في رسم السياسات الإعلامية، من أهمها:
-العوامل السياسية
تؤثر العوامل السياسية في رسم السياسات الإعلامية وتوجيه المجتمعات لتحديد شكل آليات الاتصال والتواصل مع المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية في الدول المختلفة، وهذا من شأنه صناعة الأزمات الدبلوماسية بحكم التغيرات الطارئة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ويهتم الإعلام غالبًا في توجيه المجتمعات لتطوير التفاعل مع هذه العلاقات بين الدول، أو الحد منها وبيان آثارها السلبية، وذلك بما يخدم مصالح الدولة.
-العوامل الاقتصادية
للاقتصاد تأثير مباشر في نشأة الصراعات الإعلامية بين الدول والتأثير في قضايا الاقتصاد القومي، كقضايا الدخل القومي والسياسات الإعلامية وخاصة الإعلام الاقتصادي، فالدعاية والإعلام مصاحبان للطفرات الاقتصادية أو تراجع قوة الدولة اقتصاديًّا، ومنه يمكن أن يشكل الإعلام ضغطـًا على الدولة والمؤسسات الرسمية بشكل هائل، لذا لا بد من تحليل السياسات الاقتصادية في الدولة أثناء بناء السياسات الإعلامية وارتباطها بالسياسات الدولية.
-العوامل الاجتماعية
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي إحدى الأدوات المستخدمة في توجيه الرأي العام العالمي، وخاصة في القضايا ذات الحساسية المجتمعية والخلافية، وبالتالي تدمير منظومة القيم والروابط الاجتماعية وتشويه صورة المجتمعات في حال كانت موجهة من قبل مجموعات، كخلايا ضاغطة لديها أجندات تعبوية تستهدف تفتيت الأمن المجتمعي ونشر الأيديولوجيات المتطرفة.
أما فيما يخص السياسات الإعلامية، يجب أولاً فهم المخاطر الناتجة عن الأزمة أيًّا كانت، فخلال تفشي جائحة كورونا، على سبيل المثال، فإن الوضع القائم لانتشار هذا الفيروس يتطلب دراسة المهددات والمخاطر الإعلامية المؤثرة في التكوين المجتمعي، وخاصة في ظل الدعوة المستمرة لاتباع سياسة التباعد الاجتماعي بسبب الفيروس، وكذلك الدعوة لاستخدام وسائل الإعلام الحديثة في العمل عن بُعد أو التعليم أو ممارسة الأنشطة السلوكية البشرية المختلفة، وهذا بدوره سوف يشكل مخاطر على مستخدمي هذه الوسائل الإعلامية ويؤثر سلبًا في الصحة النفسية والبدنية ويتسبب في الإرهاق، مما يتطلب تركيزًا عاليًا في أثناء تنفيذ المهام على الوسائل الإلكترونية.
كذلك ينبغي تحليل الإستراتيجيات الإعلامية عبر تشخيص واقع المنظومة الإعلامية القائمة، ومدى ارتباطها بالمكونات الرسمية والاهتمام بالقضايا الوطنية، وعلى ذلك تتم دراسة القضايا الشائكة والعالقة بين المكونات المجتمعية ومستوى التأثير الإعلامي في الصراعات الداخلية والإقليمية، إذ ارتبطت السياسات الإعلامية بالصراعات وأصبح الإعلام يغذيها ويزيد من وتيرتها ويهدد الاستقرار المجتمعي، ويُسهم في تدني قوة الترابط المجتمعي الإقليمي بين الدول المتجاورة.
إن التحليل الإعلامي يتطلب دراسة الموارد الإعلامية القائمة، وقوة تأثير الشخصيات العاملة في القطاع الإعلامي، لذا تكمن هنا أهمية تحليل السياسات الإعلامية المتبعة في التعامل مع الحدِّ من انتشار فيروس كورونا.
وبعد التحليل للسياسات الإعلامية لا بد من أن يتمَّ العمل على وضع البدائل المختلفة لدراسة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية؛ بغية فهم الوعي المجتمعي، وقدرة المجتمعات على التعاطي مع توجهات الدولة في التوعية والالتزام بالسياسات الوطنية المختلفة، إذ إن توعية المجتمع بالإجراءات المصاحبة للتعاطي مع انتشار الجائحة يجعل المجتمعات تفكر في كيفية استقاء الوسائل الإعلامية للمعلومات والبيانات من مصادرها الرئيسية.
كما أن بناء السياسات الإعلامية يتطلب مشاركة أصحاب الخبرة في تصميمها وتحليل العوامل المؤثرة في بنائها، حيث إن هناك حاجة للخبراء في مجالات التعبئة الجماهيرية والحشد والمناصرة وصناعة القرار في الإجراءات الاحترازية الوقائية من الفيروسات، بالإضافة إلى ممثلين عن المنظمات الصحية المجتمعية والمؤسسات الإعلامية، وذلك بغية الوصول إلى سياسات وطنية واضحة تراعي المصالح الوطنية، وتحد من المخاطر المؤثرة في صحة الأفراد وحمايتهم من الإصابة بالفيروس.
كما أن هناك مجموعة من السياسات المهمة الواجب مراعاتها للتعامل الآمن مع تفشي انتشار الجائحة، وذلك بما يُسهم في بناء منظومة إعلامية يمكنها أن تتماشى مع استدامة الحياة البشرية والتعايش مع مخاطر انتشار الفيروس، ومن ذلك:
سياسات تنظيمية، وهي السياسات الواجب بناؤها لتحقيق الحماية المتكاملة لمختلف الفئات المجتمعية وتحقيق الكفاءة الإعلامية، وذلك من خلال سياسات تنظيم متطلبات الوقاية من انتشار تفشي جائحة كورونا.
سياسات التوزيع، وهي السياسات الواجب أن توزع فيها الجهات المسؤولة المهام بشأن التوعية، فمثلاً توزيع الأدوار على المؤسسة الصحية والإعلام الصحي والإعلام التقني، وما يصاحب ذلك من توزيع للموارد والإمكانات، وما يتطلب ذلك من توجيه المواطنين بوساطة الإعلام، للوصول للموارد والسلع الأساسية وغيرها من آليات التوزيع.
سياسات وقائية، وهي السياسات التي لا بد من خلالها تعزيز المنظومة الوقائية الإعلامية وتسخير الإمكانات والموارد الإعلامية المختلفة، لتعزيز التوعية المجتمعية والآليات الواجب اتخاذها من قبل السكان لمنع تفشي انتشار الفيروس والتوعية بأساليب الوقاية منه.
والخلاصة، إن هناك مجموعة كبيرة من السياسات الواجب اتباعها من قبل المجتمع الدولي لتوجيه الإعلام لخدمة السياسات الوقائية المختلفة في مواجهة تفشي انتشار الفيروس، إذ إن الواقع الذي نعيشه يتطلب منا البحث عن سياسات تعمل على التعايش الآمن مع انتشار الفيروس، وهذا يتطلب الدراسات الواقعية من خلال ورش عمل تناقش قضية تفشي الفيروس، ودور التوجيه الإعلامي في الحد من انتشاره.
لقد أسهم انتشار الفيروس في تغيير مسار الحياة البشرية، وزيادة الاعتماد على تكنولوجيا الإعلام الاجتماعي في الاستفادة منها ضمن العناصر البشرية لتحقيق الأهداف التنموية، وما يرافق ذلك من السياسات التعليمية والصحية الملازمة لتعزيز الإعلام المجتمعي التفاعلي، واستخدام الوسائل التقنية في عقد اللقاءات والاجتماعات وورش العمل.
وهذا بلا شك يستدعي من المؤسسات الرسمية المتابعة الحثيثة لوسائل التواصل والإعلام التفاعلي، وتشديد الرقابة على كل ما يثير قضايا خلافية تؤثر في نمط الحياة الطبيعية، مثل نشر الإشاعات حول أعداد الإصابات أو الوفيات أو توجيه الأفراد لمخالفة التوجهات الرسمية في مكافحة مخاطر الفيروس وآثاره في الدولة.