التلفزيون الرقمي الأرضي في وداع البث التلفزيوني التناظري

د. نصر الدين لعياضي

يكاد موضوع التلفزيون الرقمي الأرضي أن يُنسى في خضم التحولات التي يعيشها قطاع الإعلام والاتصال في العالم لولا النقاش المتوتر الذي يثار بين حين وآخر، خاصة بعد الإعلان عن عروض جديدة لتأجير أو منح رخص لاستغلال موجات البث الإذاعي والتلفزيوني الرقمي الأرضي، وهذا الذي حدث في فرنسا فعلاً في الشهر المنصرم، والذي أثار جدلاً واسعًا شارك فيه ملاك القنوات التلفزيونية المختلفة، والمنظمات المهنية التي تسعى إلى جمع شمل عمال القطاع (السمعي/البصري)، والصحافيين، وحتى السياسيين، وهذا على إثر رفض الهيئة الفرنسية المكلفة بضبط البث (السمعي/البصري) والرقمي وتعديله تجديد الترخيص لقناتي التلفزيون الرقمي التابعتين لشركة “كنال بلس” (Canal Plus) التلفزيونية، التي يملكها رجل الأعمال الفرنسي، فنسان بولوري، نتيجة خرقهما لبنود قانون (السمعي/البصري) الصادر في 1986م، وسحبت منهما موجات البث ومنحت إلى قناتين تابعتين لرجل الأعمال التشيكي “دانيال كرتنسكي”.

قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بدوافع هذا الجدل في فرنسا أو أي بلد آخر في أوروبا يُعرض موجات البث الإذاعي والتلفزيوني للتأجير أو المنح المجاني، والمتعلقة بالتحديات القانونية والمالية والسياسية والثقافية التي تواجه التلفزيون الرقمي الأرضي، لا بد من التوقف قليلاً للتعريف بهذا النوع من البث التلفزيوني.

قصة التلفزيون الرقمي الأرضي

يُعدّ هذا التلفزيون نقلة تكنولوجية نوعية في نمط البث التلفزيوني، الذي أنهى حياة البث التلفزيوني التناظري الذي واكب نشوء وتطور التلفزيون منذ انطلاقته في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي إلى العقد الأخير من القرن العشرين، وقد شبه آلان وييل، المدير العام لمحطة “نيكست راديو تيفي” (Next Radio TV) بفرنسا، التلفزيون الرقمي الأرضي بموجات البث الإذاعي بتضمين التردد (FM Broad Casting) ذا النطاق الواسع، الذي اُخترع في 1933م، فمنح الإذاعة الصوت نقاءً وجودة، فتبنت جلّ المحطات الإذاعية في العالم.

مثلما يدل اسمه، يعتمد هذا التلفزيون على التكنولوجيا الرقمية، لكنه يستعمل البنية التحية التي استخدمت في البث التناظري، أي محطات البث وإعادة بث الإشارات الرقمية الثنائية، أي المركبة من (0 و1)، مع ضرورة امتلاك جهاز استقبال (Receiver) خاص موصل بجهاز التلفزيون من أجل تحويل الإشارات الرقمية إلى إشارات تماثلية، وتستخلف هذه التكنولوجيا البث التلفزيوني (التناظري/التقليدي) الذي شرع في الاستغناء عنه منذ مطلع الألفية الحالية في العديد من بلدان العالم، وتسمح هذه التكنولوجيا باستغلال أفضل للطيف الكهرومغناطيسي، ممّا يضاعف عدد القنوات التي تبث عبر الموجات الهرتيزية، ففي البث التلفزيوني التناظري تمنح كل قناة موجة لبث برامجها، ممّا يفسر شحّ عدد القنوات التلفزيونية في البلد الواحد آنذاك، وهذا نظرًا لمحدودية عدد الموجات التي يخصصها الاتحاد الدولي لكل بلد، والتي يوجه بعضها للبث الإذاعي والتلفزيوني، ويحتفظ ببعضها الآخر للاستخدام في مجال الاتصالات المدنية والعسكرية.

أما تكنولوجيا البث الرقمي الأرضي، فقد رفعت عدد القنوات التلفزيونية نظرًا لإمكانية بث عدد كبير من البرامج التلفزيونية على الموجة ذاتها، وهذا حسب نسبة انضغاط البيانات وترميزها، مع ضمان صورة أجود وصوت أوضح وأنقى.

شُرع في استخدام البث التلفزيوني الرقمي الأرضي في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وظل يتطور ببطء طيلة العقدين الأخيرين تماشيًّا مع إيقاع تطور نمط انضغاط بيانات الصور، والتردد في استخدام المتاح منها، وتماشيًّا مع هذا الاستخدام صيغ الإطار التشريعي المنظم لهذا البث.

ففي ألمانيا على سبيل المثال، انطلق التلفزيون الرقمي الأرضي في عام 2002م، في مدينة برلين، ليمتد تدريجيًّا إلى بقية المقاطعات الإدارية حتى عام 2018م، وهو التاريخ الذي تم الاستغناء فيه نهائيًّا عن نمط البث التناظري.

أما في بلجيكا فإن وتيرة استخدام هذا النمط من البث التلفزيوني لم تكن واحدة، لقد انطلق التلفزيون الرقمي الأرضي في المناطق الناطقة بالفرنسية بتاريخ 30 نوفمبر  2007م، أي بعد سنتين من تجربته ليتم تغطية حوالي (80%) من هذه المنطقة، وشمل البث الرقمي الأرضي المنطقة الناطقة باللغة الهولندية بأسرها في عام 2008م.

أصدرت اللجنة الفيدرالية للاتصالات بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي الهيئة المخول لها تنظيم قطاع الإعلام والاتصالات، في مارس 2007م، تعليمات تُلزم فيها كل المتعاملين الاقتصاديين، صناع أجهزة استقبال البث التلفزيوني أو مستورديها من الخارج، أن تكون ملائمة لاستقبال البث الرقمي الأرضي، وبناءً عليه تم الترخيص لـحوالي (98.8%) من محطات البث الرقمي الأرضي، وشجعت اللجنة ذاتها الأمريكيين على اقتناء هذه الأجهزة من خلال منحهم قسيمة بـ(40) دولار لشرائها في يناير 2008م، وهو العام التي استكملت فيه البرازيل تغطية إقليمها كاملاً بهذا النوع من البث.

لم تكلّل تجربة التلفزيون الرقمي الأرضي بإسبانيا بالنجاح في بدايتها، فالقنوات غير المجانية التي رُخص لها بالبث في عام 2000م، لم تحقق عائدًا ماليًّا مرضيًّا، فتوقف بعضها عن البث بعد سنتين فقط، وفي عام 2005م سُمحت للقنوات التلفزيونية الأرضية بالبث المختلط “التناظري والرقمي”، وبعد الموافقة على الترخيص بإنشاء قنوات تلفزيونية رقمية أرضية مجانية لتستفيد القنوات التلفزيونية التابعة للقطاع العام من هذا النمط من البث، فرضت إسبانيا نمط البث عالي الدقة ) High Definition Television( على المتعاملين في مجال (السمعي/البصري) في فبراير الماضي، وقد قدرت أن (80%) من أجهزة التلفزيون الموجودة في إسبانيا مؤهلة لالتقط إشارات هذا البث، وعلى مالكي (20%) من أجهزة التلفزيون الباقية الاختيار بين شراء أجهزة تلفزيونية جديدة أو اقتناء أجهزة استقبال مناسبة.

وواجهت البث التلفزيوني الرقمي الأرضي في إيطاليا بعض التعقيدات ذات الطبيعة التقنية في ظل الصراعات بين المستثمرين في مجال البث الفضائي والأرضي، فبدءًا من 22 ديسمبر 2022م، لم يعد بإمكان الإيطاليين استقبال البث التلفزيوني الرقمي الأرضي بصيغة ” إم بي إي جي 2″ (2 IMPG) التي استبدلت بـ “إم بي إي جي 4″، وحتى تشجع المشاهدين الإيطاليين على إنجاح هذا التحول اقترحت منح (30) يورو للراغبين في اقتناء جهاز استقبال ملائم، وقد سبق لها في المقابل، منح (50) يورو للراغبين في اقتناء أجهزة استقبال البث التلفزيوني الفضائي وفق ما نص عليه قانون (السمعي/البصري) الصادر في سبتمبر من العام ذاته.

استغل أرباب الشركات الخاصة المالكة للقنوات التلفزيونية الفرنسية الثلاث: “القناة الأولى، وإم 6، وقناة بلس” تعثر البث التلفزيوني الرقمي الأرضي في إسبانيا، والتعقيدات التقنية التي واجهت انتشار التلفزيون الرقمي الأرضي في إيطاليا، وتحالفوا للضغط على السلطات الفرنسية من أجل تجميد مشاريع البث التلفزيوني الرقمي الأرضي أو تأخيره، وتكمن خلفية هذا الضغط في الأموال الطائلة التي انفقوها مجتمعين من أجل إطلاق باقة البرامج التي تبث عبر الأقمار الصناعية، وهذا ما يفسر التردد الفرنسي في تعميم البث التلفزيوني الرقمي الأرضي، علمًا أن فرنسا كانت من الدول السباقة التي شكلت لجان للتفكير في الاختيار التقني والإطار القانوني لهذا النوع من البث التلفزيوني.

يتضح مما سبق أن توديع التلفزيون التناظري عبر الانطلاق في البث الرقمي الأرضي، قد فرض على المستثمرين المحليين في مجال (السمعي/البصري)، وعلى سلطات العديد من الدول تحديات تكنولوجية، واقتصادية، وثقافية وسياسية، فعلى الصعيد الإفريقي على سبيل المثال، وقعت دول المنطقة رقم (1) في المنظمة الدولية للاتصالات، والتي تشمل بلدان أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط على اتفاق أن يخطط لموجات البث الإذاعي والتلفزيوني من أجل تعميم البث الرقمي، في الندوة الجوية التي نظمها الاتحاد ذاته بجنيف في 16 يونيو 2006م، ويحدد يوم 17 يونيو 2022م ليكون أخر أجل للانتقال إلى البث الرقمي، والاستغناء عن البث التلفزيوني التناظري.

تحديات بالجملة

يقدر المختصون بأن تقديم خدمة التلفزيون الرقمي الأرضي في ثلاثة مدن إفريقية أساسية على الأكثر يتطلب على الأقل (10) ملايين دولار، ويكون هذا المبلغ مرشحًا للارتفاع حسب الكثافة السكانية وبُعد هذه المدن عن بعضها، وهذا ما فتح شهية الشركات الاستثمارية الكبرى في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني، ففي القارة الإفريقية تتنافس ثلاث شركات أساسية، وهي الشركة الصينية “ستار تايمز” (Star Times) التي أغرت بعض الدول الإفريقية بالقروض التي تقترح تقديمها لتمويل المشاريع المتكاملة للبث التلفزيوني الرقمي الأرضي “التجهيزات القاعدية”؛ أي محطات الإرسال وإعادة إرسال الإشارات الرقمية، وأجهزة استقبال البرامج التلفزيونية الرقمية غير المجانية عبر البث الأرضي، و شركة جنوب إفريقيا، “ملتي شويز” (MultiChoice) للبلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، وشركة “كنال بلس” (Canal+) للبلدان الناطقة باللغة الفرنسيّة، ولم تساعد هذه المنافسة الكثير من البلدان الإفريقية من تجاوز بعض الصعوبات التي واجهت الانتقال إلى البث الرقمي الأرضي لبرامج التلفزيون، والنتيجة أن حوالي (30%) من مشاهدي بعض البلدان الإفريقية لم تعد تلتقط أي برنامج تلفزيوني بعد الانتقال إلى البث الرقمي الأرضي! وأن الكثير من القنوات التلفزيونية الخاصة دخلت في صراع مع حكوماتها بعد الشروع في هذا النمط من البث، بينما وجد (80%) من مشاهدي دولة إفريقية أن أجهزة استقبال البث التلفزيوني الرقمي الأرضي التي وُفرت لهم في السوق غير صالحة للاستعمال!.

ليست هذه الأسباب وحدها هي التي دفعت المدير العام السابق للتلفزيون الجزائري، عبدو بوزيان، رحمه الله، للإعلان صراحة في الاجتماعات الرسمية وفي منابر الإعلام المختلفة عن رفضه لاستخدام التلفزيون الرقمي الأرضي في الجزائر، لقد رأى أن مساحة الجزائر شاسعة وكلفة تغطيتها بهذا النمط من البث التلفزيوني مكلفة جدًّا، مقارنة بالبث عبر الأقمار الصناعية، وأن اللجوء إلى التلفزيون الرقمي الأرضي يمنع اختيارًا سياسيًّا يتماشى مع إرادة فتح المشهد (السمعي/البصري) الجزائري إلى الاستثمارات الأجنبية والمحلية، ويجسد رغبة في التعددية الإعلامية والسياسية التي تتجسد عبر عدد هائل من القنوات التلفزيونية ذات الوضعيات القانونية المختلفة، والتي تقدم برامج تلفزيونية متنوعة: شاملة، ومتخصصة، موجهة للعامة، ولشرائح اجتماعية وعمرية مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد القنوات التلفزيونية الجزائرية أصابع اليدين وهي رسمية وتابعة للقطاع الحكومي، وبقية القنوات ليست سوى مكاتب لقنوات تلفزيونية أجنبية تبث عبر الأقمار الصناعية من بلدان أجنبية.   

واجه البث الرقمي الأرضي تحديات من نوع آخر في البلدان الأوروبية المتطورة، تختلف عن تلك التي ذكرناها عن إفريقيا، وبقية الدول السائرة في طريق النمو، ففي نهاية التسعينيات من القرن الماضي وقفت شركات البث التلفزيوني الكبرى ضد المساعي الرامية إلى الانطلاق في البث التلفزيوني الرقمي الأرضي، لأنه ينافس أشكال أخرى من البث، مثل البث الفضائي، والبث عبر الكيبل، وشبكة الإترنت “البث عبر خط المشترك الرقمي غير المتناظر” (ADSL)، ويشكل خطرًا على القنوات التلفزيونية الكبرى.

بالفعل لقد تمكنت قنوات التلفزيون الرقمي الأرضي، في فرنسا على سبيل المثال، والتي بلغ عددها (18) قناة، من فرض مكانتها خلال خمس سنوات من الوجود فقط، إذ استطاعت أن تستحوذ على نسبة (18.8%) من سوق المشاهدة التلفزيونية في فرنسا، لتحتل الرتبة الثانية بعد القناة التلفزيونية الأولى، ليس هذا فحسب، بل نجحت في تقديم مواد إعلامية وثقافية متنوعة تروم الترفيه والتسلية والتثقيف والإعلام والتفاعل مع جمهور المشاهدين، وقد نتج عن هذا الوضع أن حصتها من عائدات الإعلان قد زادت بنسبة (50%)، بينما تراجعت حصة القنوات التلفزيونية “التقليدية” بنسبة (13%).

التغيير في الموقف

لقد تغير موقف القنوات التلفزيونية التقليدية من البث التلفزيوني الرقمي بعد العقد الثاني من الألفية الحالية، إذ أدركت بأن التكنولوجيا الرقمية تضاعف قنوات البث: قنوات تلفزيونية شاملة، وأخرى متخصصة، وخدمات التلفزيون الاستدراكي، والفيديو تحت الطلب، والبث عبر شبكة الإنترنت، والتلفزيون الرقمي الأرضي، وأرضيات للألعاب الرقمية، وأن رفع عائد أي منتج إعلامي وثقافي يتطلب استغلال أكبر عدد من قنوات البث وشبكاته المختلفة لمدة أطول في رقعة جغرافية أوسع، وهذا ما اتبعته القنوات التلفزيونية التقليدية إذ لجأت إلى إنشاء قنوات تلفزيونية رقمية أرضية، مثل “القناة الأولى”، و”قناة بلس” (Canal+) الفرنسيتين.

ويخشى في البلدان الأوروبية المتقدمة أن يعمل التلفزيون الرقمي الأرضي على تراجع الخدمة العمومية التلفزيونية التي تسعى إلى لمّ شمل مشاهدي البلد الواحد لتقاسم الأخبار ذاتها والاستماع إلى السرديات الثقافية والتاريخية، ومتابعة ما يطرح من مشاريع سياسية، أما قنوات التلفزيون الرقمي الأرضي المجانية، فإنها تتناغم مع العصر، وتعمل على تفتيت الجمهور، وتضعف الرابط الثقافي والاجتماعي الذي يوحد أبناء المجتمع الواحد.

يخفف بعض المختصين في مجال (السمعي/البصري)، مثل: “دومنيك ولتن”، و”فرنسوا جوست” هذا الحكم، بالقول: “إن تفتيت الجمهور ليس وليد التلفزيون الرقمي الأرضي، بل بدأ مع برامج القنوات التلفزيونية التي تبث عبر الكيبل، واستمر مع القنوات التلفزيونية المتخصصة”، ويعتقد أن التلفزيون الأرضي الرقمي أعاد تصالح الجمهور مع التلفزيون، بل أضفى عليه الطابع الديموقراطي، إذ أصبح كل فرد يجد ما يريده من برامج تلفزيونية، وغيّر عادات المشاهدة بحيث جعل التلفزيون مصدرًا صوتيًّا، شأنه في ذلك شأن الإذاعة، فالكثير من شباب اليوم يتابعون برامج التلفزيون الرقمي الأرضي المختص في الموسيقى والغناء وهم منصرفون عنها لقضاء حاجتهم البسيطة: “المأكل والمشرب، ومتابعة منشورات مواقع الميديا الاجتماعية”.