التكامل الاقتصادي.. أوجه فوائد لا تحصى لعملة واحدة في سوق مشترك

في عمق الأمن المستقر والسياسة المؤثرة يكمن الاقتصاد المتين، من هذا المنطلق وضع مجلس التعاون منذ تأسيسه هدف بناء التكامل الاقتصادي كمحرك حيوي يواكب مسيرته المتسارعة باتجاه أهدافه وتطلعات شعوبه، وذلك باعتماد منهجية عملية لتحسين طرق الاستفادة من موارد دول المجلس بالطريقة الأمثل ضمن منظومة التعاون فيما بينها، بطريقة تعزز نقاط القوة، وتعظم الطاقات الإنتاجية، بما يحسن من نوعية حياة المجتمع، ويدعم المكانة الدولية والإقليمية للدول الخليجية.

ويمكن القول بوضوح إن العمل التراكمي الذي تم خلال الأربعين عاماً الماضية قد وضع الجهود على أقرب نقطة لها من تحقيق الأهداف الاقتصادية منذ تأسيس المجلس، وهو الأمر الذي جعل من الممكن الحديث عن فكرة التحول من مفهوم التعاون إلى الاتحاد، خصوصاً بعد مصادقة الدول الأعضاء على عدة اتفاقيات وتشريعات كفيلة بخلق واقع جديد للأنظمة المالية والبيئة التشريعية، من أبرزها إنشاء السوق الخليجية المشتركة، والمجلس النقدي الخليجي، وتوحيد التعرفة الجمركية وتسهيل حرية انتقال السلع، وتشجيع التبادل التجاري عبر إقامة مناطق التجارة الحرة.

وقد حظيت جهود التنسيق الاقتصادي بإشراف ومتابعة مستمرة من قادة الدول الخليجية من خلال المجلس الأعلى، كما عملت اللجان الوزارية المعنية على ربط مسارات التكامل الخليجي بالاستراتيجيات والسياسات العامة في الدول الأعضاء في المجالات المتصلة بالتخطيط والتنمية والصناعة والسكان وغيرها، بالإضافة إلى توحيد القوانين والإجراءات واستحداث مؤسسات خليجية مشتركة تعمل معاً كأدوات تنفيذية فاعلة للطموحات المرجوة، ومنها مؤسسة الخليج للاستثمار، وهيئة التقييس لدول مجلس التعاون، مركز براءات الاختراع، المكتب الفني للاتصالات، مركز التحكيم التجاري، هيئة الربط الكهربائي، والمركز الإحصائي لدول مجلس التعاون.

طبقت هذه المؤسسات أسلوباً علمياً ومؤسسياً في متابعة تنفيذ الأهداف وتقييم التقدم المحرز من واقع الرصد الميداني، ومن خلال فرق عمل تضم نخبة الخبراء والمتخصصين المؤهلين من أبناء دول المجلس، كما وفرت الكثير من المعلومات والأرقام والإحصاءات التي مثلت أدلة استرشادية واقعية بما يخدم صناع القرار في الدول الأعضاء على رسم السياسات المستقبلية، وذلك في إطار امتلاك رؤية واحدة عن المجالات الأكثر احتياجاً للتطوير، وعن التصورات الأنسب للمشاريع المشتركة في مجالات كالطرق والمواصلات والاتصالات والطاقة، وغيرها.

تميز التكامل الاقتصادي الخليجي بمواكبته لمستجدات العصر ومتطلباته، فبعد البدايات المبكرة في تحقيق التجانس بين الأنظمة المصرفية والمالية والتجارية، وضع في اعتباره إيجاد الفوائد الاقتصادية المرجوة في ظل التعاملات الإلكترونية والتحول الرقمي، وهي نظرة على درجة من الأهمية بينما يتجه العالم أجمع نحو مفهوم اقتصاد المعرفة، كما دفعت دول المجلس قدماً بعجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعـة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية وإنشاء مراكز بحوث علمية وتشجيع تعاون القطاع الخاص بما يخدم فرص تنويع الاقتصاد.

أما على الصعيد الدولي، فقد وفر مجلس التعاون للدول الأعضاء تنسيق مواقفها على الساحة الاقتصادية الدولية انطلاقاً من إدراك أهمية تأثيرها على السوق العالمي وامتلاكها لمقومات الموقع والموارد الطبيعية والبنى التحتية والمراكز المالية واللوجستية المهمة، وقد شمل ذلك التفاوض الجماعي والحوار مع الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين واليابان أو التكتلات كالاتحاد الأوروبي.

ومازالت جداول عمل الأيام والأعوام المقبلة مليئة بمنجزات قادمة على طريق التكامل الاقتصادي وتحسين الأداء التجاري وتحقيق الاستقرار المالي، منها إصدار العملة الموحدة لدول مجلس التعاون، وهي فكرة ولدت مع ولادة المجلس نفسه، ومن شأنها أن تجسد هوية اقتصادية واحدة للدول الأعضاء وترجمة عملية للقيم المشتركة بين مواطنيها، بجانب رمزيتها المعبرة عملياً عن التكامل والمواطنة الخليجية.

فيما سيكفل الاتحاد النقدي الخليجي مكتسباً مهماً  حيث أن الدول الأعضاء ستصبح فعلياً كتلة اقتصادية واحدة على المستوى الدولي، الأمر الذي سيزيد من تأثير هذه الدول في المحافل الدولية ومؤسسات صنع القرار الاقتصادي في العالم، كما أنه سينعكس إيجاباً على مستوى التنافسية والاستثمارات البينية ويسهم في تقليل احتمالات التباعد الاقتصادي بين دول المجلس نتيجة لاختلاف السياسات الاقتصادية، وستكون من نتائج ذلك تمكين قطاع الأعمال في دول المجلس من التعامل مع الأسواق الخليجية كسوق واحدة سواء من خلال النفاذ أو التسعير أو رسوم العمليات المالية، بالإضافة إلى تحسين القوة الشرائية ورفع معدلات النمو وتوليد فرص العمل واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، وتقليل المخاطر الاقتصادية على المستثمرين في دول المجلس.

وكما يتضح من كل هذه النتائج فإن التكامل الاقتصادي الخليجي سيكون خبراً سعيداً ليس فقط لأبناء المجلس بل للمنطقة وللباحثين عن استثمارات مستدامة، لاسيما حين نلحظ وجود تشريعات تتجه بشكل مباشر إلى تقليل المخاوف التي تشغل المستثمرين في عالم تعرض لأكثر من هزة مالية خلال العقدين الماضيين، إذ تهدف التشريعات التي أقرتها دول المجلس إلى تحجيم معدلات التضخم والمستويات العامة للأسعار وتحييد مخاطر تقلبات العملة وتكاليف التصدير والاستيراد وتعزيز ممارسات الانضباط المالي والبيئة القانونية والتمويلية ذات الشفافية العالية، وإذا كانت الأعراف الاقتصادية تتضمن مفهوم رأس المال الجريء، فإن كل المؤشرات تدل على أن الآفاق الطموحة لتعاون المجلس تهيئ البيئة لمفهوم جديد هو رأس المال المطمئن.

وقد اهتمت دول المجلس بتحسين المناخ للاستثمار الأجنبي، والعمل على تحسين شروط النفاذ للأسواق العالمية من خلال توحيد مواصفات ومقاييس السلع المنتجة في دول المجلس عبر تبني سياسة تجارية موحدة في إطار التعامل مع العالم الخارجي ومنظمة التجارة العالمية والمنظمات الدولية والإقليمية الأخرى لتنشيط التبادل التجاري والاستثماري مع العالم الخارجي، وتوسيع أسواق صادرات دول المجلس وزيادة قدرتها التنافسية، إضافة إلى تعزيز دور القطاع الخاص وزيادة إسهامه فيها.

كما تعد “وثيقة السوق الخليجية المشتركة”، التي أقرّها المجلس الأعلى في دورته التاسعة والعشرين في مسقط، أحد العناصر الأساسية في تشكيل قوام مستقبل التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وقد تمت تهيئة البنية المبدئية للسوق الخليجية المشتركة من الكوادر البشرية والإمكانات الفنية من جميع الدول الأعضاء والأمانة العامة، ويتم التعريف بها على نطاق واسع ومتابعة سير التنفيذ واستطلاع مرئيات الجهات المختصة وغرف التجارة والصناعة بدول المجلس لاستكمال الأدوات المطلوبة وصولاً إلى الصيغة النهائية لهذه الخطوة المرحلية في مسيرة الاقتصاد الخليجي.

إلى جانب ذلك، تعمل دول المجلس على إنجاح الفكرة النوعية المتمثلة بتطبيق مبدأ “المواطنة الاقتصادية” والتي تعني تحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني دول المجلس في كافة المجالات الاقتصادية في جميع الدول الأعضاء، ويشمل ذلك حرية الانتقال والعمل والإقامة، حق التملك والإرث، حرية ممارسة النشاط الاقتصادي، حرية انتقال رؤوس الأموال، كما يتوقع أن يشمل هذا المبدأ حصول المواطن الخليجي على المعامل ذاتها فيما يخص العمل في القطاعات الحكومية والأهلية والحصول على خدمات التعليم والصحة والتأمين الاجتماعي والتقاعد وممارسة المهن والحرف وتملك العقار وتداول الأسهم وتأسيس الشركات.