التعاون الصناعي .. تاريخ من القدرات، وأساس متين لاقتصاد متنوع

يكفي لفهم أهمية الصناعة أن نبدأ من كونها إحدى أطوار التقدم في التاريخ البشري، وننتقل من ذلك إلى أنها العصب الذي يضخ في شرايين الحياة، والرقم الحاضر في كل معادلات التنمية المستدامة، وبينما أعادت كثير من القناعات بشأن الاقتصاد تشكلها وفقاً لمعطيات الراهن والمستقبل، ظل مفهوم الصناعة يتطور في آلياته ومخرجاته وقدراته، ليس فقط في انعدام البديل له، وإنما في كونه هو البديل المحتمل الأكثر استعداداً ليحل مكان الكثير من مصادر الدخل التقليدية.

من هنا، أدركت دول الخليج مبكراً دور الصناعة فأولتها اهتماماً كبيراً، إيماناً بالفائدة المرجوة منها، لاسيما مع وفرة مصادر الطاقة والاستعداد لتوطين التقنيات الصناعية وتأهيل الكوادر البشرية المتخصصة من أبناء دول المجلس، ووجود القدرات على تهيئة البنى التحتية والمنشآت اللازمة لهذا التوجه، وبالفعل فقد كانت هذه الخطوات بمثابة حجر التأسيس لقطاعات صناعية خليجية هي الأكبر على مستوى المنطقة، مع حفاظها على وتيرة متصاعدة من توسيع نطاق إنتاجها من الصناعات الأساسية إلى الصناعات المتقدمة، ذات الاحتياج المتزايد عالمياً، في جميع المجالات.

جاءت منظومة مجلس التعاون قبل أربعين عاماً لتجعل هذه المجموعة من الدول الطموحة في المجال الصناعي تعمل معاً، ولتخطو إلى مسافات مضاعفة من التفوق والتميز بفضل التعاون والتنسيق فيما بينها، والحوافز دائماً موجودة، سواء تحدثنا عن موارد متوفرة، أو عن موقع يتوسط العالم، وضمن هذا الإطار شهدت الدورة السادسة للمجلس الأعلى المنعقدة في مسقط عام 1985م، الإعلان لأول مرة عن “الاستراتيجية الموحدة للتنمية الصناعية لدول المجلس”، وذلك لتحقيق تنمية صناعية على أسس تكاملية وزيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي.

خلال السنوات التالية، عمل الخليجيون بتنسيق عال على تقييم وتطوير هذه الاتفاقية بما يتماشى مع متطلبات كل مرحلة، وذلك تحت مظلة تحقيق مفهوم “المواطنة الخليجية في المجال الصناعي” وكان من نتائج ذلك إقرار إجراءات هامة مثل إعفاء المنتجات الصناعية للدول الأعضاء من الرسوم الجمركية وتسهيل انسيابها وتنقلها في النطاق الخليجي مع معاملتها معاملة السلع الوطنية داخل الدول الست، ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، حيث أقرت دول المجلس السماح للمستثمرين المنتمين إليها بالحصول على قروض من بنوك وصناديق التنمية الصناعية بالدول الأعضاء ومساواتهم بالمستثمر الوطني، وإعفاء المنشآت الصناعية في دول المجلس من الرسوم الجمركية على وارداتها من الآلات والمعدات اللازمة للإنتاج الصناعي.

هذه الخطوات الجدية في إحداث نقلة نوعية في قطاع الصناعة الخليجية، لعبت دوراً كبيراً في تسهيل عمل المستثمر الخليجي الراغب في دخول هذا المجال، ففضلاً عن تسهيل إجراءات منشأته وتمويله، استطاع الاستفادة من توحيد القوانين والأنظمة الصناعية بما يشجع إنشاء المشاريع الصناعية في دول المجلس، ومن وجود أنظمة لمكافحة الإغراق والتدابير التعويضية والوقائية وقواعد إعطاء الأولوية لمنتجاته في المشتريات الحكومية في جميع الدول الأعضاء، كما يمكنه رفع تنافسية منتجاته عالمياً بالاستفادة من استراتيجية تنمية الصادرات الصناعية غير النفطية.

لقد أسهمت هذه الخطوات في مجملها في إيجاد قطاع صناعي قوي يرفد مجلس التعاون بوصفه كياناً اقتصادياً له ثقله العالمي، الأمر الذي أكسب الشركات والمستثمرين في الصناعة الخليجية احتراماً بين أكبر المؤسسات المنتمية إلى الدول الصناعية في المحافل الدولية، كما كان القطاع الصناعي الخليجي أساساً متيناً لرفد خطط التحول والرؤى الاستراتيجية المستقبلية التي أعلنتها دول المجلس باتجاه التنوع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط خلال السنوات المقبلة، فضلاً عن أن الصناعات المحلية تعني تعظيم القدرات الذاتية والاستغناء عن الاستيراد ما أمكن، بل والعمل ببساطة على تحويل أشياء كان يتم شراؤها، إلى أشياء يمكن بيعها.

لم يكن غريباً نجاح الخليجيين في الصناعة في الماضي ومستقبلهم الزاهر فيها، خصوصاً مع منظومة التعاون، كونهم أبناء منطقة لها إرثها في كل الحرف والمهن، فخلال عقود فقط كانت دول الخليج تصدر منتجاتها الصناعية إلى العالم أجمع، وخلال عقود تحول تراث صناعة القوارب إلى مستقبل صناعة الطائرات.