التربية الإعلامية وتحقيق المواطنة الصالحة

د. نجوى بنت ذياب المطيري

حدثت تغيرات جوهرية ونقلة نوعية وثورة حقيقية في عالم الاتصال بسبب التطور المتسارع لوسائل الإعلام والاتصال في منتصف التسعينات من القرن الماضي، حيث انتشرت شبكة الإنترنت في كافة أرجاء المعمورة، وربطت أجزاء هذا العالم المترامية بفضائهـا الواسـع، ومهـدت الطريـق لكافـة المجتمعات للتقـارب والتعـارف وتبـادل الآراء والأفكار والرغبات.

تغيرات جمة مست مجالات الحياة، على مستوى الجماعات والأفراد-على المستوى المحلي والمستوى العالمي- محدثة ظواهر جديدة وتأثيرات مباشرة على مختلف التنظيمات والبنى الاجتماعية، كما ظهرت مفاهيم ونظريات وأطر منهجية عديدة.

ومن المفاهيم التي ذاع صيتها بشكل يستدعي الانتباه مفهوم الشبكات الاجتماعية، فقد أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي لمشتركيها إمكانية مشاركة الملفات والصور وتبادل مقاطع الفيديو، كما مكنتهم من إنشاء المدونات الإلكترونية وإجراء المحادثات الفورية وإرسال الرسائل، ويعد “الفيس بوك وتويتر واليوتيوب” أهم المواقع التي تصدرت الشبكات الاجتماعية.

ونتيجة لتنامي وتطور هذه المواقع فقد أقبل عليها ما يزيد عن ثلثي مستخدمي شبكة الإنترنت وخاصة منهم الشباب، كما لعبت الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل والتسونامي، والأحداث السياسية دوراً هاماً في شعبية هذه الشبكات، وأصبحت الوسيلة الأساسية لتبادل المعلومات والأخبار الفورية في متابعة مسار وتطورات الأحداث.

  لقد أصبحت اليوم وسائل الإعلام المختلفة تقوم بدور تربوي مواز لما تقوم به المؤسسات التربوية في المجتمع؛ ذلك لأنها تبث رسائلها الإعلامية عبر برامجها المختلفة التي تدخل بيوتنا دون استئذان، وتؤثر في عمليات التنشئة الاجتماعية، والتثقيف، والتوجيه من خلال القيم، وإكساب أنماط السلوك والعادات، وتكوين الرأي العام لدى الفئات المستهدفة من أفراد المجتمع.

غير أن فارق الإمكانات البشرية والتقنية والمالية الذي يميل لصالح الدول المتقدمة جعل عملية التدفق الإعلامي تسير في اتجاه واحد لتحقق سيطرة إعلامية عالمية للدول المتقدمة، بحيث تحولت وسائل الإعلام في الدول النامية لمجرد حلقة وسطى تعيد بث الرسائل الإعلامية للدول المتقدمة.

المواطنة الصالحة والإعلام

  تعتبر المواطنة الصالحة متطلباً أساسياً من متطلبات تنمية المجتمعات، لتساعدها في الانطلاق نحو غايتها المنشودة لبناء مجتمع مدني قوي ومتماسك تنمو فيه الحريات وتتطور وسط أجواء الحوار المبني على أساس العدل والمساواة والتكافؤ واحترام التعددية، فالمواطنة تشكل انتقالاً من الشخص التابع إلى الشخص المشارك والمساهم في صنع الحياة المجتمعية بكل تعبيراتها، وتتجلى أهمية التربية الإعلامية على المواطنة للمجتمع في كونها ترسخ وتعزز حب الوطن، والرغبة في خدمته والدفاع عن قضاياه بالإيجابية والمسئولية وبكامل الثقة بالنفس والتحلي بالسلوك السويّ، والاندماج مع الجماعة بروح من التضامن والإخاء لفتح أفاق جديدة للأجيال القادمة. 

  وفي ظل ما يتعرض له المجتمع من مخاطر جمة، نتيجة وسائل الإعلام الحديثة، وفي ظل التغيرات الاجتماعية التي يمر بها الوطن العربي بوجه عام، ونتيجة لما صاحب التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات، ومع تغلغل وسائل التواصل على النظم الاجتماعية وما أفرزته من سلبيات تهدد بفقدان قيم الولاء والمواطنة لدى أبناء المجتمع، يبرز الدور الذي يمكن أن يؤديه الإعلام بما يتوافر فيه من موارد وإمكانات تمكنه من حشد وتوجيه جماهير المجتمع نحو القيم المرغوبة اجتماعياً، لاسيما قيم المواطنة بما تتضمنه من ولاء للوطن والتزام بمعايير المجتمع، وشعور بالمسئولية الأخلاقية تجاه ما يواجهه من قضايا.

  فالمواطنة تعد في حقيقتها سـلوكاً تطوعيـاً حضـارياً يقـوم بـه الفـرد لصالح وطنـه، أو المكان الـذي يعيـش فيـه، أو حتى المنظمة الـي يعمـل بها، فهـي التـزام ديـني وأخلاقي أكثـر من كونها سلوكاً يخضع أو يرتبط بنظام رسمي أو لوائح أو مكافآت مباشـرة، فهـي مبنيـة علـى قيـم ومبـادئ الإنسان السـوي تجاه وطنـه ومجتمعه، بحيث تصبـح المواطنة لديـه عبـارة عـن ممارسـة يوميـة في حياتـه وضمـيره، بـل تشـكل جـزءاً من شخصيته وتكوينه.

أبعاد المواطنة الصالحة

حظي مفهـوم المواطنة باهتمام واسـع مـن الباحثيـن في قضايا التنميـة ومتطلبـات التطويـر ومجالات تحسين الحياة العامة، فقـد تعـددت مفاهيـم المواطنة حسـب وجهـات النظـر والاتجاهات المؤثرة فيهـا، ومـن أهم هـذه التعريفـات هي أن “المواطنة تُعد انتمـاء وولاء لعقيـدة ووطـن وقيـم ومبـادئ، والتـزام مـن المواطن بتحمـل مسـؤولياته تجاه وطنـه مقابـل الحقوق الـي يتمتـع بها”.

   وللمواطنـة أربعة مجالات وأبعـاد رئيسـة هـي: (الأبعاد المدنية، والسياسـية، والاجتماعية الاقتصادية، والثقافيـة)، وتتمتـع هـذه المجالات بدرجـة كبـيرة مـن الديناميـة والترابط الوثيـق في ظـل علاقة قائمـة علـى دعائـم التفاعلات المعقدة، في إطـار السـياق الراهـن للعولمة، وفيمـا يلـي تفاصيـل تلـك الأبعاد:

 -المجال المدني للمواطنـة: ويشيـر إلى أسـلوب الحياة الـذي يمكن للمواطنين مـن خلاله تحقيق مجموعة مـن الأهداف المشتركة الوثيقـة الصلـة بالمبادئ والأسس الديمقراطية للمجتمـع، وتتضمـن مجموعة القيـم الأساسية للمجتمـع والقيـود المفروضة علـى قـدرة الحكومة علـى صنـع واتخاذ القـرارات المتعلقة بالمواطنين الأفراد وحقـوق الجماعات والهيئات ذات المصالح الخاصة في المجتمع، كمـا يتضمـن حريـة التعبير عـن الـرأي والمساواة أمـام القانـون، إضافـة إلى حريـة الاجتماع وتكويـن الجمعيات والوصـول إلى المعلومات المطلوبة.

– المجال السياسي للمواطنة: ويتضمن تمتع الفرد بالحق في التصويت في الانتخابات والمشاركة السياسـية، وفي هـذا الإطار يمكننا الإشارة إلى أن الانتخابات الحرة والنزيهـة تعـد بمثابة الركيـزة الأساسية لهذا البعـد، كمـا هـو الحال في حقـوق الأفراد في التمتـع بالحرية والسـعي نحو تولي المناصب السياسـية في المجتمع، وبمعنـى آخـر، فـإن المواطنة السياسـية تشـير في جوهرهـا إلى مجموعة الحقوق والواجبـات السياسـية الوثيقـة الصلـة بالنظام السياسـي القائـم في المجتمع.

-المجال الاجتماعي الاقتصادي للمواطنـة: يشـير إلى تلـك العلاقة الـي تربـط بـن أفـراد المجتمع في سـياق مجتمعي معـين، ويتضمـن تعريـف الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأفراد وتمتعهم بحقوق الرفاهيـة والكفايـة الاقتصادية، ويشـير مفهـوم المواطنة الاجتماعية بـدوره إلى مجموعة العلاقات الـي تربـط مـا بين الأفراد في المجتمع، وتتطلـب ضـرورة تمتعهم بالولاء والانتماء والتضامـن الاجتماعي، أمـا مفهـوم المواطنة الاقتصادية فيشيـر بـدوره إلى العلاقة الـي تربـط مـا بـين الفـرد وسـوق العمـل والاستهلاك في المجتمع ويتضمـن ضـرورة تمتع الفـرد بشـكل ضمنـي بالحق في العمـل، والحصول علـى الحد المطلوب مـن وسـائل المعيشة وكسـب الـرزق، أي: تكافـؤ الفـرص.

-المجال الثقافي للمواطنـة: ويشـير إلى الطريقـة الـتي تأخذ المجتمعات المختلفة مـن خلالها في الاعتبار جوانـب وأبعـاد التنـوع الثقافي المتزايد بها، والـتي تعـود بالأساس إلى تمتعها بدرجـات أكـبر مـن الانفتاح علـى الثقافـات الأخرى، كمـا يشـير مفهـوم المواطنة الثقافيـة إلى مـدى الوعـي بالتراث الثقافي المشترك للمجتمـع، وتتضمـن سـعي الأفراد إلى الحصول علـى اعتـراف المجتمعات بالحقوق الجماعية لأفراد الأقليات بها، وترتكـز العلاقة التـي تربـط مـا بـين الثقافـة والدولـة بالأساس علـى دعائـم حقـوق الإنسان الـتي تقـر بالأبعاد الإنسانية ذات الطابـع الأنثروبولوجي للفرد.

دور التربية الإعلامية

  يتأثر انتماء الفرد لوطنه بعوامل متعددة، منها البيئة الاجتماعية التي يعيشها خلال مراحل نموه، كالأسرة، والمجتمع المحلي، والمدرسة، إضافة إلى مجمل الظروف الاقتصادية والسياسية التي يعيشها المجتمع، والتي تنعكس على مستوى معيشة الفرد، وهامش الحرية الذي يتمتع به، لذلك تتعدد مهام التربية الإعلامية تجاه تعزيز مفهوم المواطنة الصالحة كما يلي:

– تعزيز احترام رموز الوطن في الماضي والحاضر.

– إبراز جهود الآباء والأجداد في بناء الوطن.

-بيان أشكال المواطنة الإيجابية التي تؤثر على الفرد.

-بيان أشكال السلوك السلبي الذي يؤثر على قيم المواطنة.

-إشعار الفرد بأنه جزء كبير من مجتمعة وله حقوق مشروعه.

-ترسيخ مفهوم المشاركة المجتمعية لدى أبناء الوطن.

-توضيح مدى فاعلية المواطن الصالح بطريقة ممتعة وشيقة.

-إعداد برامج تحث على العمل التطوعي.

-إعداد برامج تحث على الاستهلاك الرشيد لثروات الوطن.

-تنمية قيمة الإخلاص للوطن والتضحية من أجله.

-الاعتزاز بتاريخ الأمة والتفاني في خدمة الوطن.

-المشاركة في حل المشاكل والقضايا التي يعاني نها المجتمع.

ولكي نعزز مفهوم المواطنة الصالحة في النفس البشرية، ينبغي أن يكون المحتوى الإعلامي فعالاً، وعاكساً للواقع الحضاري للأمة، ومعبراً عن آمالها في النهوض الحضاري.

وهذا لا شك يتطلب توافر إرادة واعية وصامدة، يولدها النظام التربوي، من خلالها يجمع جمعاً وثيقاً وحياً بين قيم الحضارة العربية القديمة بعد وعيها، وقراءتها قراءة جديدة من خلال لغة العصر، وبين القيم الحضارية التي يتمخض عنها العالم الحديث، من خلال تطوير حضارته وطرقه، واستقراء الحضارات الإنسانية الكبرى مع الحفاظ على أصالة الطابع العربي.