البرنامج الوثائقي في الإذاعة: زمن الانبعاث

د. نصر الدين لعياضي

ربما يعتقد البعض أن هناك خطأً في هذا العنوان لأنهم يرون أن لا وجود للبرامج الوثائقية في المحطات الإذاعية، فإن أقدمت إحدى المحطات على إعادة بثِّ برامجها القديمة أو استعانت بأرشيفها الصوتي في إعداد برنامج من برامجها فلا يمكن أن نصف هذا البرنامج بالوثائقي، ومـَن يعتقد عكس ذلك فلا يعرف الكثير عن تاريخ الإذاعة وتطور فنونها.

إذا اعتبرنا بأن الإخوة “لوميار” الذين صوروا خروج العمال من مصنعهم يوم
19 مارس في عام 1895م، قد أرّخا لميلاد السينما، فإنهما سجلا – أيضـًا – ولادة الفيلم الوثائقي، لكن وصول البرامج الوثائقية إلى الإذاعة تأخر كثيرًا، ويرجع المؤرخون سبب هذا التأخير إلى أن الإذاعة تتسم بطابعها المباشر، نقل الأحداث مباشرة من داخل الاستديو، وقد ظلـّت كذلك لأكثر من عقدين من الزمن، وحتّى بعد ميلاد التلفزيون، بينما يقوم هذا الأخير بتسجيل الأحداث وتصويرها سواء بكاميرا السينما، كما حدث في الماضي، أو بالفيديو، ثم يتمُّ تركيبها ومعالجتها لتبث لاحقـًا.

ويُبرّر تأخر استخدام البرامج الوثائقية بالعامل التكنولوجي، فلم يكن التنقل بعُدّة التسجيل الصوتي سهلاً، لذا يعتقد البعض أن الانطلاقة الفعلية لبثِّ البرامج الوثائقية جرت بعد الحرب العالمية الثانية، أي مع بداية استخدام جهاز التسجيل الذي يسمى “ناغرا” (Nagra)، واليوم مع تطور التكنولوجيا الرقميّة، اكتسب هذا النوع من البرامج طابعًا ديموقراطيـًّا، إذ أصبح من السهولة تقنيـًّا إنجاز برنامج وثائقي مسموع، ويمكن الإشارة – أيضًا – إلى أن المحطات الإذاعية كانت تكتفي ببثِّ ما تنتجه من برامج ولا تلجأ إلى أطراف خارجية لتعدَّ لها برامج وثائقية مخصوصة، خلافـًا للمؤسسات التلفزيونية التي تلجأ إلى منتجين ومخرجين محترفين من غير منسوبيها لإنجاز أفلام وثائقية لقنواتها.


الانطلاقة
ربما هناك عامل آخر لتفسير تأخر انتشار هذا النوع من البرامج الإذاعية، ويتمثل في ارتباطه أكثر بالمحطات الإذاعية التابعة للقطاع العام، أي الحكومي في البلدان الأوروبية، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يذكر أن انتشاره الواسع في هذا البلد تمَّ على يد المحطات الإذاعية العمومية التي شرعت في البثِّ بدءًا من عام 1971م، لتحقيق غاية تربوية وتثقيفية وليس تجارية. هذا لا يعني بتاتـًا أن المحطات الإذاعية التجارية كانت تمنع بثـّه. بدليل أن محطة “سي بي أس” (CBS) أنشأت وحدة “البرامج الوثائقية” في عام 1946م، وكُلفت بإنتاج هذا القالب الإذاعي الذي يتناول القضايا الوطنية والدولية الكبرى، والتي تتطلب وقتـًا طويلاً من البحث والتحضير. ومن بين البرامج التي أعدتها هذه الوحدة (The Empty Noose)، “الخرطوم الفارغ”، الذي تطرق إلى الحرب التي كانت دائرة في الهند الصينية بين المقاومين الفتناميين والجيش الفرنسي، ومن أشهر البرامج الوثائقية في تاريخ الإذاعة الأمريكية ذاك الذي قدمته محطة “أي بي سي” (ABC) بعنوان: “مؤامرة الصمت” التي تناولت الأمراض المسكوت عنها في المجتمع الأمريكي.

التباس
إن كان المنظرون يقرّون بصعوبة الفصل بين الريبورتاج التلفزيوني والفيلم الوثائقي، فإن هذه الصعوبة تصبح مضاعفة إذا تعلق الأمر بالإذاعة. والتعريف الذي يقدمه المختصون للوثائقي في الإذاعة لا يذللها قط، إذ يؤكد على أنه قالب من الكلمات المنطوقة المخصص للسرد غير الخيالي تبثـّه الإذاعة ويوزع عبر حوامل متعددة.

ما كان يرفع اللبس بينهما هو علاقتهما بالماضي أو الحاضر، إذ كان يفهم ضمنيًّا بأن الوثائقي يعالج المواضيع التي أصبحت في حكم الماضي، فيحاول استعادتها وتسليط الأضواء عليها لـِفـَهمها بشكل أفضل وترسيخها في الذاكرة، بينما يهتم الريبورتاج بالحاضر، أي يتناول الأحداث والظواهر في راهنيتها ويكشف عن تفاعل البشر معها، حتى وإن تطلب الأمر الالتفاتة إلى منبتها، أي ماضيها؛ لكن يبدو أن التمييز بينهما على أساس علاقتهما بالماضي والحاضر أصبحت هشـّة نظرًا للطابع الشمولي الذي أصبحت تتمتع به البرامج الوثائقية الإذاعية.

يستشف من التعريف المقدم أعلاه أن البرنامج الوثائقي الإذاعي هو قالب سردي يختلف عن السرد الذي يشكل المسلسلات التي تروي حكايات غير واقعية، فالقالب الوثائقي يغطي أحداث ومواضيع واقعية بنوع من العمق ومن مختلف الجوانب، وهذا في اعتقادنا يقربه أكثر من التحقيق الصحفي.

من باب التمييز بين القالب الوثائقي والريبورتاج الإذاعي، يؤكد “كريستوف دو لو”، مسؤول التأهيل في مركز تكوين الصحافيين بالمركز الجامعي “بستراسبورغ” في فرنسا ومنتج في الإذاعة الثقافية الفرنسية، وصاحب كتاب البرنامج الوثائقي الإذاعي، بأن الريبورتاج لا يتضمن سوى صوتًا وحدًا، صوت الصحافي الذي يصف ويعلق على ما يشاهده، إنه يحتل مكانة مركزية في الريبورتاج ويحتفظ بها. أما في القالب الوثائقي فالصحافي يتحوّل إلى وسيط وموثق، يغيب تاركـًا صوته لغيره،  وإن كان صوته يظهر قليلاً في تركيب عمله الوثائقي، لذا يعتقد بأن القالب الوثائقي يستوعب كل أشكال التعبير الإذاعي: “المقابلة الصحفية أو الاستجواب، قراءة النصوص، التعليق والجدل …”.

يقدم البرنامج الوثائقي رؤية تفسيرية للعالم لتكمل الرؤية الإخبارية التي تقدمها نشرات الأخبار الإذاعية، كما يؤكد ذلك “فرنسوا جوست” أبرز المختصين في النقد التلفزيوني، التفسير الذي يستعرض في طياته وجهة نظر.

المنحى الجديد
إن قوة البرنامج الوثائقي الإذاعي تكمن في استغلاله لجملة من الأصوات والأجواء التي تطلق سراح العاطفة لجذب الاستماع والانتباه، فعن البرنامج الوثائقي “ذارة المساحيق على نهر الميز” الذي حصل على جائزة أوروبا للإنتاج الإذاعي خلال مهرجان أوروبا عام 2015م، والذي ينعقد في مدينة برلين الألمانية في شهر أكتوبر من كل عام، ويكرم أفضل إنتاج تلفزيوني وإذاعي يبثُّ على شبكة الإنترنت ويدعم بثـّه وتوزيعه في القارة الأوروبية.

ويسلط هذا البرنامج الضوء على ظاهرة انتشار المخدرات في صفوف القرويين الفرنسيين القاطنين على تخوم النهر الذي يشقُّ بلجيكا وهولاندا، يقول صاحبه “مهدي أهوديغ”: “إننا نسبح في عالم غير متناه منذ الثواني الأولى من البرنامج، نسمع أصوات حادة، ولغات مختلفة، وزحف السيارات التي تشقُّ طريقها في قرى ملوثة بالمخدرات، ففي قوة الأصوات تتداعى العواطف ويتحفز التخيل، هذه الأصوات أقوى من أي مشهد فيديو”.

على ذكر هذا المثال يمكن الإشارة إلى أن البرنامج الوثائقي الإذاعي أخذ المنحى الاستقصائي مستفيدًا من تقنيات المسلسلات الإذاعية أو ما يسميه الناطقون باللغة الإنجليزية “الأوبرا الصابونية” (Saop Opera) قبل أن تغزو القنوات التلفزيونية،  وأبرز مثال على ذلك برنامج “السراي” (Serail) الذي شاركت في إنتاجه الصحافية الأمريكية “سارا كونيغ” وسردته بصوتها، تناول قضية إجرامية وقعت في بلتمور بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1999م، لقد بثت أول حلقاته يوم 3 أكتوبر عام 2014م، واستمر بثـّه أسبوعيـًّا لمدة (12) حلقة، وأحتل المرتبة الأولى في البرامج الإذاعية التي حظيت بأكبر عدد من المستمعين، إذ بلغوا خمسة ملايين مستمعـًا، وهذا بفضل بثـّه على شبكة الإنترنت التي سمحت لثلاثة ملايين و(400) ألف مستمع بتحمّيله.

الانبعاث
لقد أسهمت التكنولوجيا الرقمية بفاعلية واقتدار في انبعاث البرامج الوثائقية الإذاعية، إذ أصبح بإمكان المستمعين متابعتها على مواقع شبكة الإنترنت وتحمّيلها إن أرادوا، وأصبحت تبثُّ عبر “البودكاست” الذي حرّر المستمعين من فرض الزمن والمكان، إذ يسمح للراغبين في الاستماع إليها في أي وقت وفي أي مكان: في البيت، العمل، في المقهى، وفي وسائل النقل العام. لقد دأبت المحطة الإذاعية الفرنسية الألمانية (ARTE) على بثِّ برامجها عبر شبكة الإنترنت منذ عام 2002م، وقد أشركت بعض مواقع الصحف الإلكترونية في بثـّها عبر البودكاست، وإن كانت هذه المحطة الإذاعية تواكب التحوّل الذي طرأ على عادات الاستماع إلى الإذاعة والتي أصبحت فردية، فإنها لازالت تسعى إلى الحفاظ على عادات الاستماع الجماعي، فمنذ (12) سنة دأبت على تنظيم حصص من الاستماع الجماعي في بيت الشعر بباريس، يلتقي فيه هواة الشعر من كل الأعمار، للاستماع إلى البرامج الوثائقية الإذاعية عن الشعر.

لقد سمحت المنصات الجديدة لبثِّ البرامج الوثائقية للإذاعات الأمريكية بالانفلات من القيود التي تفرضها اللجنة الفيدرالية الأمريكية للاتصال على البثِّ التقليدي لبرامج الإذاعة والتلفزيون ووسعت من جمهورها الكامن الذي أصبح كل الناطقين باللغة الإنجليزية، ولم يعدّْ مقتصرًا على جزء من قاطني الولايات المتحدة الأمريكية فقط.

لقد أُثريت أشكال التعبير في البرامج الوثائقية الإذاعية على ضوء تطور حوامل البثِّ الإذاعي للوصول إلى جمهور متعدّد ومختلف، فالسرد القصصي بلسان (المتحدث/ الصحافي) أصبح النمط المحبب والأكثر رواجـًا في السنوات الحالية، والدليل على ذلك هو سلسلة البرامج الوثائقية التي قدمتها الصحافية “دلفين سالتل” وبُثت على المحطة الإذاعية المذكورة أعلاه بعنوان: “توجد مدرستان” تسرد فيها المعاناة في اختيار المدرسة المناسبة للأطفال: حكومية أو خاصة مع كل ما يترتب عن هذا الاختيار على صعيد الأولياء والتلاميذ.

وتغير –أيضًا– الحجم الزمني للبرامج الوثائقية الإذاعية، إذ يذكر أن البرامج الإذاعية بصفة عامة كانت تصنف حسب مدتها الزمنية: “15 دقيقة، و20 دقيقة، و52 دقيقة”، إذ يُلاحظ أن الإذاعات المعاصرة تخلت عن هذا التصنيف. يؤكد الكاتب ورئيس تحرير إذاعة (ARTE)، سيلفن جير، أننا تحررنا من القيد الزمني وأصبحنا نمنح للبرنامج الوثائقي ما يحتاجه من وقت من دون زيادة ولا نقصان. لقد قمنا ببثِّ برنامج وثائقي بعنوان: “إنها أمي” الذي أنجزته الصحافية “ماتلد غيرمونبرز”، وحقق نجاحـًا باهرًا، بخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن مدة بثـّه لم تزد على ثلاث دقائق ونصف الدقيقة! ويقرّ بأنه تابع برامج وثائقية تدوم (52) دقيقة، لكنه وجدها مملة ولا تساير إيقاع الحياة المعاصرة. أما لماذا استمرت محطته في إنتاج البرامج الإذاعية الوثائقية الطويلة التي تستغرق (52) دقيقة، فيعترف بأنها أُنتجت خصيصـًا للمشاركة في المهرجانات الدولية، وقد حازت إذاعته على بعض الجوائز من هذه المهرجانات التي تظل محافظة ومتمسكة بالتقسيم الزمني الكلاسيكي للبرامج الوثائقية.