الاتصال ودوره في بلورة الصورة الذهنية للمؤسسة

أ. د. فايزة يخلف

المقدمة
يحيل الاتصال التنظيمي في أبسط تعريفاته إلى أحد أوجه الاتصال العمومي التي تختصر إستراتيجيات ومهام عمل المنظمة داخل محيطها، فهو مرآة عاكسة لسير خططها، وأسلوب مباشر لترجمة سياساتها العامة ومقياس فعال لاختبار مدى حضور الحوكمة العمومية في منهجية عملها.
ومن الجدير بالذكر أن المنظمة اليوم لم تعدّ مجرد كيان اجتماعي هادف ومنسق يؤدي مجموعة من المهام لتحقيق منافع مشتركة، بل أضحت مؤسسة ذات شخصية معنوية تروم تحقيق التفوق وبلوغ الميزة التنافسية التي تجعل منها رقمـًا فاعلاً في معادلة التنافس ورفع التحدي، من هنا اهتمت المنظمات الحديثة بموضوع تكوين الصورة الذهنية للمؤسسة لما لهذه الأخيرة من دور فعال في تشكيل الآراء وتكوين الانطباعات وتوافر السلوك الإيجابي لدى الأفراد والجماعات اتجاه هذه المؤسسات.
فما المقصود بالمنظمة في هذا الإطار؟ وكيف يسهم الاتصال التنظيمي في بلورة صورتها الذهنية؟.

الصورة الذهنية للمؤسسة لها دور فعال في تشكيل الآراء وتكوين الانطباعات لدى الأفراد والجماعات.
أصبحت المنظمات تركز في الوقت الراهن على فعالية الاتصال التنظيمي ودوره في إرساء مفهوم المواطنة التنظيمية.

1-تعريف المنظمة:

يشير مفهوم المنظمة عمومـًا إلى النظم الاجتماعية التي تعني تلك الأوضاع التي يصطلح عليها المجتمع لتنظيم العلاقات بين الأفراد في مختلف شؤونهم([i])، وقد تكون هذه الهيئة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية بحسب القواعد أو القيود التي يضعها الإنسان لضبط أشكال تفاعلاتها الإنسانية([ii]).
فمن الناحية الاجتماعية والاقتصادية، قد تخصُّ المؤسسة فردًا أو أكثر بقصد تحقيق الربح التجاري الخاص، أو قد تقوم لخدمة الإنسان والمجتمع من دون ربح، وهي التي تسمى عادة بالمؤسسة الخيرية غير الهادفة للربح.
إن الحديث عن المنظمة اليوم يعني من دون شك التأكيد على فكرة المؤسسة والفكر المؤسساتي الذي يعيد إلى الواجهة أهمية المورد البشري ونظم المعلومات والاتصال ودور القيادة الإدارية في التعامل مع محيطيها الداخلي والخارجي([iii]).
فبعد أن كانت المنظمة في سنوات ماضية تضع في أولويات اهتماماتها مسألة تسطير الأهداف ورسم الخطط والإستراتيجيات وتقسيم الوظائف والهيكل التنظيمي، أصبحت تركز في مناخ العمل على فعالية الاتصال التنظيمي ودوره في إرساء مفهوم المواطنة التنظيمية التي تجعل العنصر البشري من العناصر المهمة لاستمرارية النسق، وتجعل من المنظمة نسقـًا مفتوحًا يؤثر في البيئة الخارجية ويتأثر بها، الذي من شأنه تبني مفاهيم جديدة في إدارة الموارد البشرية، مثل مفهوم الشريك عوضـًا عن الأجير، ومفهوم القيادة الإدارية بدلاً من مفهوم المدير، ومفهوم فريق العمل عوضـًا عن الرئيس والمرؤوس.

هكذا تتحدد فكرة المؤسسة بالمعنى المطلوب في الخطاب التنموي الحديث، فهي تقوم على أساس التفكير العقلاني والترشيد والدراسة التي تأخذ بعين الاعتبار معايير الكفاءة وتوقعات المستقبل في إدارة المنظمة وتوجيهها([iv]).
وفي الواقع يمكن أن نطلق تسمية منظمة على جميع منظومات الأدوار التي تنظمها معايير وقيم وتحكمها رتب ومراكز، وعلى ذلك يبرز السلوك المؤسساتي بهذا المعنى بتوجيه “تعاقدي” أي قانون وبيروقراطية وليس نتيجة لعمل وعلاقات اجتماعية متوارثة([v]).

فتح قنوات الاتصال في المؤسسة يعني تسهيل حركة المعلومة وتعزيز التفاعل. الصورة الذهنية للمؤسسة تمثل تقييمـًا عقليـًّا لكل ما يتعلق بالمنظمة لدى الجمهور.


من هنا كانت “المؤسساتية” حالة حديثة ومتقدمة في التنظيم الاجتماعي تستجيب لضرورات التطوير الاقتصادي والسياسي والثقافي المتكامل، وهي تفرز ثقافتها الخاصة كشكل من أشكال البنية الفوقية لها.
إن الحديث عن ثقافة المؤسسة في المنطق الوظيفي والجدلي لمعنى المنظمة يشير إلى أهمية ذلك الكل المتكامل الذي يصوغ مجموع المفاهيم والقيم والاتجاهات والحقوق والواجبات التي يتعامل بها العاملون في مؤسسة ما([vi])، إنها بتعبير آخر منظومة معيارية يسترشد بها العاملون فتحدد قواعد سلوكهم الوظيفي وأنماطه وترسم وسائل تعاملهم في البيئة الداخلية للمؤسسة ومع المتعاملين الخارجيين عنها.

ونظرًا لأهمية هذا المفهوم في التصور الإداري والتنظيمي الحديث أصبح لزامـًا على كل منظمة أو مؤسسة فرض منظومة تصوراتها وقيمها على أعضائها، حتى يتمثل هؤلاء الأفراد هذه المنظومة، مما يعني أن ثقافة المؤسسة سابقة في وجودها على الأفراد الذين تتكون منهم (المؤسسة) وتفرض نفسها عليهم وتبقى بعدهم، أما عدم تمثل الأفراد لثقافة المؤسسة التي ينتمون إليها فيعني إلى حد ما استبعاد أنفسهم عن التنظيم أو عدم جدارتهم للعمل المنضبط الحديث، مما يعني فشل فكرة المؤسساتية الضرورية لارتقاء المجتمع وتقدمه.

وحتى يتم تجسيد المؤسساتية وتفعيل فكرة ثقافة المؤسسة على نحو يؤدي إلى ترشيد السلوك التنظيمي والإداري الحديث، كان لا بد من مراعاة أهمية الاتصال كحلقة فاعلة في تعزيز العمل المؤسساتي وتطويره.

2-الاتصال التنظيمي: الأبعاد النظرية والعملية:

يجمع الباحثون في مجال دراسات المؤسسات وعلم الإدارة على أن الاتصال التنظيمي هو نوع من الاتصال في المؤسسة يشير إلى أشكال العلاقات والترابط فيما بين أعضائها سواء كأشخاص في نفس المجموعة، أو كأفراد في التنفيذ أو كمسؤولين على مهام يؤدونها انطلاقـًا من خطط وبرامج محددة مسبقـًا، وتسمح لهم هذه الاتصالات بتحقيق هدفين أساسين ومتلازمين:

الأول: يتعلق بإمكانية الحياة والحركة في نفس الإطار التنظيمي، بما يوفره الاتصال من نقل لمعلومات ومشاعر ومعاني كفيلة بتحقيق الانسجام والتنسيق في الحركات بين أعضاء المجموعة، الأمر الذي يمكنهم من الاتجاه كمجموعة تكون نظامـًا أو كائنـًا حيـًا، وهو الهدف الذي تصبو إليه كل منظمة.

الثاني:  الخاص بتميز وتفوق المؤسسة وببلوغ أهدافها المحددة وعلى رأسها تحقيق الثروة، وهو الهدف الذي يحدد ضرورة وجود المنظمة وبقائها([vii]).

على هذا النحو، تتبدى أهمية الاتصال في المؤسسة، ويتجلى دور التفاعل بين أعضائها، في زمن أضحت هذه الهيئات تتجه نحو الكبر والتعقيد، وتتباين فيما بينها في أوجه تنظيمها ومستويات إدارتها وفي طبيعة مواردها المستعملة.

إن فتح قنوات الاتصال في المؤسسة يعني تسهيل حركة المعلومة وتعزيز التفاعل وإيجاد إجابات أفضل للمشاكل المختلفة، وهي كلها عوامل تدعو إلى ترقية الاتصال التنظيمي باختلاف أنواعه “الصاعد، النازل، الأفقي” من أجل بلوغ الهدف الأسمى وهو بلورة صورة ذهنية إيجابية عن المنظمة، فما المقصود بالصورة الذهنية في هذا الخصوص؟

3-الصورة الذهنية: مفهومها وإيجابياتها بالنسبة للمنظمة:

تدل الصورة الذهنية في مفهومها العام على ذلك الناتج النهائي للانطباعات الذاتية التي تتكون عند الأفراد والجماعات إزاء شخص معين أو نظام ما أو شعب ما أو جنس بعينه أو منشأة أو مؤسسة أو منظمة محلية أو دولية أو مهنة معينة أو أي شيء آخر يمكن أن يكون له تأثير في حياة الإنسان، وتتكون هذه الانطباعات من خلال التجارب المعاشة ومن خلال الخبرات المكتسبة([viii]).

ومن الجدير بالذكر أن مصطلح الصورة الذهنية، قد ارتبط في بدايات ظهوره بالمجال السياسي، وكان العالم “جراهام دلاس” أول من أشار إليه في كتابه “الطبيعة البشرية والسياسية” حيث أقرنه بحاجة الناخبين في المجال السياسي إلى تكوين صورة ذهنية لدى الجماهير، من أجل بناء وتعزيز ثقتهم فيهم، ومنذ ذلك الوقت تمَّ استخدام المفهوم وانتشر ليشمل كل مناحي الحياة([ix]).

يضطلع الاتصال التنظيمي بدور مهم في ترجمة فلسفة المنظم وثقافته.

وقد تكرست أهمية هذا المصطلح بشكل واضح في المجال الاقتصادي، حيث سارعت المؤسسات الحالية إلى البحث في كيفية إيجاد انطباع جيد عن نشاطها، وهو ما فرض عمليـًّا إلزامية الاهتمام بكل العناصر الفاعلة في تشكيل الصورة الذهنية للمؤسسة بدءًا بإطارها التنظيمي والتشريعي وانتهاءً بصورة علامتها التي تختصر الهوية البصرية لهذه المنظمة([x]).

من هنا أصبحت الصورة الذهنية للمؤسسة هي ذلك المركب الفكري الذي يحيل إلى جملة الانطباعات والمدركات الكلية التي تتضمن التعاملات الإدارية والاتصالية للمؤسسات، وأطرها القانونية، وما تقدمه من منتجات وخدمات، وكذا مظهرها التنظيمي، وما تتركه كل هذه العناصر مجتمعة من آثار في جماهيرها([xi]).
مما سبق يتضح أن الصورة الذهنية للمؤسسة تمثل تقييمـًّا لكل ما يتعلق بالمنظمة في تصوّر الجمهور، سواء كان هذا التقييم جزئيـًّا لبعض عناصر المنظمة “صورة الإدارة أو صورة العلامة التجارية أو المنتج” أو تقييمـًا للعناصر الكلية للمنظمة بكل مكوناتها وأبعادها.

في هذا المجال يضطلع الاتصال التنظيمي بدور مهم في ترجمة فلسفة المنظمة وثقافتها، فهو يعكس خططها، سير عملها، توجهاتها الاستشرافية وأهدافها المستقبلية، وهو الذي يُسهم في تحديد معاملات انخراط المنظمة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي.
لهذه الاعتبارات كلها أولت المؤسسات في الدول المتقدمة عناية فائقة لدور الاتصال داخل المؤسسة، بل وجعلته الطاقة المفجرة لكل الجهود الرامية إلى تنمية الميزة التنافسية للمنظمات، منطلقة في ذلك من حكمة أن الإصغاء الجيد يصنع منصبـًا جيدًا، وأن تبادل الرؤى التنظيمية بين فريق العمل يوفر تفكيرًا إستراتيجيـًّا محكمـًا ومتوازنــًا([xii]).

الخاتمة:
نخلص مما أوردناه سابقـًا أن المتمعن في دور الاتصال في المؤسسة الحديثة يلتمس من دون شك أنه أحد المؤشرات البارزة في تحديد الكفاءة التنظيمية، وفي تجسيد مفهومي المشاركة والحوار داخل المؤسسة، الأمر الذي يفضي بدوره إلى إيجاد ورفع الروح المعنوية لدى منسوبيها.
ورفع الروح المعنوية التي تعني تنمية مختلف الاستعدادات الوجدانية التي تساعد الموظفين على زيادة كمية الإنتاج وإجادته من دون أن يعتريهم مزيد من التعب والاكتئاب، ليتم بلوغ أهداف المؤسسة وترقية أدائها، المعادلة التي تؤكد طروحات أن للاتصال التنظيمي دور لا يستهان به في بلورة الصورة الذهنية للمؤسسة.

الهوامش:
([1]) Michel Beau Champ: Tous sur l’entreprise, édition Payot, Paris, 2002, p8.
([1]) Ibid., p9.
([1]) Ibid., p10.
([1]) Paul Weil: Entreprise et management, édition Gallimard, Paris, 2009, p21.
([1]) Philippe Cabin: L’esprit de l’entreprise, édition Gallimard, Paris, 2009, p18.
([1]) Henri Bourguinot: Les théories de la culture organisationnelle, édition Economica, Paris, 2010, p20.
([1]) Alfred Rizonaut: La communication d’entreprise, édition Gallimard, Paris, 2009, p27.
([1]) علي عجوة، العلاقات العامة والصورة الذهنية، ط2، عالم الكتب، القاهرة، 2003م، ص9.
([1]) حجاب محمد منير، الاتصال الفعال للعلاقات العامة، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م، ص166.
([1]) Daniel Maisonneuve: Communication d’entreprise, enjeux et défis, édition Payot, 2007, p19.
([1]) Ibid., p20. ([1]) Ibid., p21.