حين تندلع الحرب يؤذن بالدمار، ويومها يصبح الجميع في عداد قائمة المحكوم عليه بالموت إلا الإعلام؛ إذ إنه ينشط على غير العادة، ويبلغ أوجه ليعوض حالات الانحسار التي قد يمر بها، بل ويكشر عن وجهه الحقيقي؛ فيتخلى عن قيمه، حتى إنه يُخفق تمامًا في إخفاء حالة نكوصه تلك، مهما حاول التظاهر بالتزامه بضوابط المهنة، التي يكاد يقطع المراقب لطبيعته أنها لا تعدو أن تكون طقوسًا وُضعت لتتناسب مع حالات الهدوء والسلم، وليس غريبًا أن يحدث هذا؛ ففي الحروب تنصهر النظريات بين حُمم الكراهية والبغضاء، وتتهاوى مثاليات الصناعة الإعلامية في ظل سقوط ما هو أعظم منها وأشمل؛ وهي الإنسانية.
ولأن لكل حرب ملابساتها، فإن إستراتيجية توظيف الإعلام لخدمة أهداف القادة العسكريين تتفاوت في أشكالها وأساليبها وفقًا لطبيعة البيئة بما في ذلك الأنظمة السياسية وتبعًا لتطور الأدوات، ففي الحربين العالميتين، كان حياد الإعلام أو التظاهر به خيانة في حق دوله وشعوبها، ولم تكن قيم الصدق أو الدقة أو الموضوعية ذات أولوية عالية، ولكن الواقع يشهد بأن الخروج عليها كان مطلبًا لتجييش الرأي العام، ومما يؤكده اختيار الزعيم النازي هتلر للداهية غوبلز ليكون وزيرًا للدعاية؛ إذ وجد فيه مهندسًا بارعًا في صناعة البروباجندا، واستطاع بمكره أن يقنع الملايين من الألمان بعظمة الحزب، وبقدسية القائد على الرغم من أن مضامين رسائله مغلفة بالكذب والخداع، من ذلك أنه أوهمهم أن السماء تقف مع الجيش النازي، واستشهد على ذلك – كما تقول الروايات – بتشكل خطوط السحاب بشعار الألمان آنذاك: الصليب المعقوف.
وعلى الرغم من أن الحرب العظمى انتهت بما خلفت من دمار هائل، وبما صنعت من مآسي ظلت غائرة في جسد البشرية، والأهم بما كشفته من تضليل للجماهير عبر الوسائل الاتصالية، إلا أن ذلك النهج الإعلامي استمر ولسنوات غير قصيرة سائدًا فيما جاء بعدها من حروب؛ فشاع استخدام الأساليب ذاتها بواحًا، خاصة لدى الأنظمة الديكتاتورية التي تمتلك وتوجه وسائل إعلامها؛ فتكرر ما فعله غوبلز في أسلوب وزير إعلام الرئيس العراقي السابق صدام حسين أثناء فترة احتلاله للكويت؛ إذ لم يتوان الوزير “الصحاف” عن بيع وهم انتصار جيش بلاده على أعتى الجيوش بما لا يتسق مع العقل.
أما الأنظمة الأخرى، وبخاصة الغربية، فقد شهدت بعد تلك الحرب طفرة ملموسة في أساليب الممارسة الإعلامية، في ظل هيمنة الوسائل الخاصة على السوق، واستطاعت أن تسجل حضورًا كبيرًا لدى الرأي العام المحلي والعالمي، إذ عزز استقلاليتها عن الحكومات قدرتها على مضاعفة جهودها الرقابية على السياسيين والمؤسسات العامة بما في ذلك العسكرية والأمنية. الأمر الذي أوجد صدامات عديدة بين الإعلام وقادة الجيوش في المعارك التي يخوضونها، فلجأوا بشكل صارم إلى تضييق الخناق على الصحفيين، من خلال حصر نشر المعلومات عبر متحدثين رسميين، يقدمون مقتطفات منتقاة في مؤتمر صحفي يومي يكاد يكون المصدر الوحيد ويمثل وجهة نظر الجيش نفسه، ويخدم أهدافه وخططه، وهو ما طبقه الجيش الأمريكي على نحوٍ ملحوظ أثناء حرب تحرير الكويت.
البث الفضائي الإخباري
يؤرّخ المهتمون بتاريخ الإعلام الانطلاقة الفعلية للقنوات الفضائية الإخبارية العالمية بفترة التحرير، وعلى الرغم من أن قناة (CNN)، كانت قد تأسست في عام 1980م، إلا أن شهرتها الأوسع دوليًّا لم تتحقق إلا مع تلك الحرب، إذ كانت هي القناة الأشهر على الإطلاق في تغطيتها، وهو ما تم توثيقه في أحد أبرز الأفلام: “مباشر من بغداد”، الذي تناول تغطية وسائل الإعلام لتلك الأحداث.
ولعل من المفارقات التي تستحق الذكر وتؤكد على أهمية البث الفضائي كسلاح فعال في تلك الحقبة، أن تهتدي السلطات العراقية إلى خطة ذكية توظف من خلالها هذه المحطة التي تبث من عمق أمريكا، ويتابعها العالم أجمع، لتصبح أبرز أدواتها الإعلامية وصوتها الأعلى إلى العالم، ففي وقت الحصار الكبير الذي طوقها، أصدرت وزارة الإعلام العراقية ذات مساءً أمرًا بطرد كافة الإعلاميين الأجانب من العراق والإبقاء على مراسل المحطة الشهير “بيتر أرنيت” الإخبارية في بغداد.
بقي بيتر ليصبح النزيل الوحيد في فندق الرشيد، وخصص له فريق من الأمن العراقي ينقله من مكان لآخر ليغطي الآثار التي يحدثها القصف الأمريكي. ليس هذا فحسب؛ بل إنه أبلغ في أحد الأيام أن يعد العدة لمقابلة أحد المسؤولين العراقيين المهمين، وبعد أن تم نقله مكمم العينين في سيارة خاصة، عبر طرقات بغداد، انتهى به المطاف ليكون وجهًا لوجه مع صدام حسين ليجري واحدًا من أهم الحوارات التلفزيونية التي كانت تتمناها كل وسائل الإعلام الغربية آنذاك.
روسيا: تضيف الإعلام لترسانتها!
ورثت روسيا تركة القوة العظمى في القرن الماضي المعروفة بالاتحاد السوفييتي، واختلفت عنه بتقلص حدودها في أعقاب استقلال الدول التي كانت تدور في فلكه سواء في آسيا، فيما بات يعرف باسم جمهوريات آسيا الوسطى، أو في أوروبا الشرقية، وشهدت الدولة الجديدة تصحيحًا ملحوظًا لكثير من أخطاء السوفييت، وبخاصة التي كانت سببًا في انهياره، ولعل أسلوب التعامل مع الإعلام وسُبل استخدامه أحد تلك الأسباب؛ فبعد أن كانت الدولة التي اختفت تؤمن بأن فرض الأمر الواقع والأسلوب المباشر هو الأداة المثلى للسيطرة وفرض القوة، جاء الحكم الوريث وتحديدًا بعد وصول الرئيس بوتين لسدته، ليغير نمط استخدام روسيا اليوم للإعلام، فسعى وفق إستراتيجية مختلفة إلى الانفتاح على العالم، وبناء العلاقات الدولية برؤية مغايرة لا تبعث على التوجس؛ وبشكل ممزوج مع مقومات المصالح المشتركة، وتجسد ذلك في مبادرتها بتنظيم أهم الفعاليات العالمية التي تجذب الشباب تحديدًا، ونعني به بطولة كأس العام لكرة القدم 2018م، الذي حرصت فيه على أن يظهر وبصورة لافتة في أرقى مستويات التنظيم.
ليس هذا فحسب، بل سعت روسيا بوتين حثيثًا إلى بناء العديد من الشراكات والتحالفات الدولية، وذلك على غرار قمة مدينة سوتشي الروسية عام 2019م، التي شاركت بها وفود من (50) دولة إفريقية، حضرها زعماء (43) من تلك الدول، وتعهدت فيه بدعم القارة السمراء، والعمل على معالجة مشاكلها.
نموذج آخر من نماذج تعزيز الصورة الذهنية الدولية لروسيا، تنظيمها لاجتماع الاتحاد البرلماني الدولي السابع والثلاثين بعد المائة، الذي عُقد في الفترة ما بين 14 – 18 من شهر أكتوبر في عام 2017م بمدينة سان بطرسبرغ في روسيا الاتحادية، وهو اجتماع صادف مشاركة كاتب هذه السطور فيه، إبان عضويته في الاتحاد البرلماني الدولي، التي استمرت أربع سنوات، كان الملاحظ أن التظاهرة شكلت بحق نموذجًا فريدًا من نماذج التزاوج بين السياسة والاتصال، وتجلت هذه الحالة في أكثر من مشهد من مشاهد الاجتماع، كان أقواها – في نظري – حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه لحفل الافتتاح، وسط تواجد حشد هائل من أعضاء دول العالم، وهو تفاعل دولي حرص الرئيس ألا يفوت التنويه عنه ويقارنه بغيرها من دورات الاجتماعات السابقة في الدول الأخرى، إذ قال في بداية كلمته: أود أن أشدد على أن هذا الاجتماع قد ضم أكبر عدد من الناس في تاريخ الاتحاد البرلماني الدولي على مدى (128) عامًا، فهناك أكثر من (160) وفدًا، ومن بينهم (96) متحدثـًا، و(2400) مشاركًا.
وبعد أن أشار إلى خلفية عن تاريخ البرلمان الروسي، أعقبه بجمل تحمل رسائل مهمة، أهمها، ولعله بيت القصيد في حضور الرئيس بنفسه، تبيان انفتاح روسيا على العالم، على نحو يؤكد على تلك البلاد التي صورها الإعلام الغربي بأنها مطوقة بستار حديدي، باتت تنشد التعاون مع الآخرين، وعلى وجود رغبة برلمانية في الاطلاع على ما لدى الدول الأخرى، وهو ما عبر عنه صراحة بقوله: إن هذا التراث وهذه الدروس التاريخية مهمة بالنسبة لنا اليوم، فضلاً عن تجربة زملائنا الأجانب في صنع القانون، وبناء الأحزاب، وكذلك تجاربكم أيها السيدات والسادة والأصدقاء.
ليس هذا فحسب؛ بل عزز إيجابية موقف روسيا، بالإشارة إلى أنشطة تؤكد على جديتها في التوجه نحو دعم قضايا الدول وهمومها، حيث قال: إن جدول الأعمال غني جدًّا، وستناقشون فيه المواضيع ذات أهمية كبيرة كحماية حقوق الإنسان وحرياته، ومكافحة الإرهاب، والتنمية العالمية، ودور المرأة والشباب في السياسة والاقتصاد، وأنا أدرك أن العمل قد بدأ بالفعل، وبدا بوتين أكثر توددًا وتقربًا للمشاركين حين خاطبهم بعبارة: “أيها الزملاء”، مما يؤكد أنه – على خلاف ما كان عليه قادة الحقبة السابقة في ذلك الجزء من العالم – أصبح مدركًا بقوة سرًا من أسرار تسويق الغرب لنفسه، وهو ما جعله بلغة جديدة يكون أكثر وضوحًا في تأكيد القاسم المشترك مع دول العالم بصورة تفوت على حملات الدول الغربية الفرصة في اتهام بلاده بالعدوانية، أو بالخروج عن إجماع العالم، عندما قال: “من مصلحتنا المشتركة تعزيز أجندة سلميّة وخلاقة ومتوازنة، والتطلع إلى الحد من الصراع، ومنع ظهور خطوط فصل جديدة، بما في ذلك خطوط الفصل العرقية والدينية، والتحرك معًا نحو تشكيل هيكل أكثر عدلاً وصلابة للعلاقات الدولية”. بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا للتماهي مع الحضور، فاختتم بصيغة تنفي وجود هذه التهمة فيهم أنفسهم، وتضع بلاده لاعبًا رئيسًا في ترسيخ السلام، فقال: “إنني مقتنع بأن الأغلبية الساحقة من البرلمانيين يتشاطرون هذا النهج”.
ولم تكن ملامح التحول الروسي في أسلوب تقربه من العالم محصورًا في تلك الأنشطة والأحداث؛ وإنما ظهر بجلاء في وسائل إعلام عصرية، تخلت بقوة عن النغمة الدعائية وتمجيد الحزب التي كانت شائعة إبان الحقبة السوفييتية، فعرّفت روسيا بقنوات إذاعية وتلفزيونية، ومواقع إلكترونية تنم عن إدراك تام لكيفية الوصول إلى جمهورها المستهدف، وذلك على غرار قنوات ومواقع “روسيا اليوم”، و”سبوتينك” التي تتحدث بالعديد من لغات العالم، وبدت هذه الوسائل أكثر واقعية في التناول، وأظهرت للمتلقين أنها خير من يلبي الحاجة لسماع الرأي الآخر، والأدوات المؤهلة كي تقف ندًا للوسائل الغربية.
إن تلك الخطوات التي أقدمت عليه روسيا على مدى سنوات، هي مهمة للغاية لتفسير تفاوت المواقف الدولية تجاه دخول روسيا لأوكرانيا، وفي المنابر الدولية.
الحرب في أوكرانيا
على الرغم من توجه كثير من المحللين إلى الحكم بأن تدخل روسيا في أوكرانيا هو فخ نصب لها، وربما منزلق خطير، إلا أن المؤكد أنه اجتياح أوقع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في حرج شديد، فلم يُقدِم حلف الناتو – بقصد أو بغير قصد – على التصدي العسكري لخطوة بوتين، على الرغم من معرفة الحلف المسبقة وتحذيره المتكرر من وقوعها، وباستثناء العقوبات الاقتصادية المتوقعة تجاه روسيا، اتخذ قادة حلف الناتو من التصريحات السياسية إما درعًا يحفظون بها ماء الوجه أو وقودًا يهدف لتأجيج التدخل الروسي في الدولة المجاورة لزيادة تورطه في الحرب، وعوضًا أن تواجه القوة العسكرية الغربية روسيا على الجبهة، انبرت وسائل إعلام دوله للقيام بالمهمة نيابة عنها، وكان مفاجئـًا في هذه الحملة الإعلامية خروج عدد من الوسائل الأوروبية والأمريكية عن قواعد المهنية التي كانت نجحت إلى حدٍّ كبير في الالتزام بأهم ضوابطها المعروفة، المتمثلة في الصدق والدقة والموضوعية، وهو ما جعل السواد الأعظم من جمهور الرأي العام المحلي والعالمي يؤمن إلى حد كبير بأن تلك الوسائل تكاد تكون الأقرب والأبرز في أداء الدور الرقابي المأمول من الإعلام.
من مظاهر ذلك الخروج المفاجئ عن قواعد المهنة، أن وسائل الإعلام الغربية لم تكتف بتغيير نمط تغطياتها، وطرحها المعتاد، والتحامل عنوة على روسيا، وتحديدًا رئيسها؛ بل تجاهل بعضها عمدًا الأخبار الواردة من ساحة الصراع التي لا تتسق مع مصالح دوله، حتى وإن كان المصدر هو أحد الأدوات الغربية، وذلك على نحو ما حدث مع خبر نقلته صحفيّة فرنسية اسمها كرستل نيت، تعمل بإحدى شبكات الأخبار الأوروبية من داخل أوكرانيا، حيث رفضت القناة بثه لأنه يتضمن الإشارة إلى أن القوات الحكومية في كييف هي من يطلق النار على مواطنين أوكرانيين في شرق البلاد.
ولإيضاح التفاوت بين طرح الوسائل الإعلامية الغربية لموادها ذات الصلة قبل وبعد نشوب الحرب في أوكرانيا لا بد من تبيان الفرق بين طبيعة تطبيقها لقواعد المهنة في الحالتين، فقد كانت قبل حدوث الأزمة أكثر مراعاةً لتلك القواعد في معظم مضامينها، بطريقة تفسر سر التفوق المهني للصحافة الغربية مقارنة بغيرها من الوسائل، ليس لأنها مثالية في الممارسة، ولكن لأنها أكثر ذكاءً ومهارة في تمرير رسائلها بطرق غير مباشرة، مقارنة بالأساليب غير المستساغة التي يمارسها غيرها.
المشهد تغير تمامًا منذ أن أعلنت أمريكا بأن الجيش الروسي يعد العدة لغزو الدولة المجاورة، وبدلاً أن تتقيد بمبادئ التغطية التي من بينها ألا يطغى الرأي على مضمون الخبر حتى في ثنايا مادته، حطمت صحف عريقة هذا المبدأ بالشكل الذي تمارسه صحافة العالم الثالث؛ وكأنما غدت السلطة الإعلامية الغربية بيد السلطة السياسية في البيت الأبيض أو الاتحاد الأوروبي، ويؤكد هذا هجوم مجلة الإيكونيميست الشهيرة الصريح على بوتين في أكثر من عدد، فصدّرت بشكلٍ لافت غلافها برسائل مباشرة تظهر التحامل غير المألوف في التناول؛ فمرة صاغت أحد تلك الأعداد وقبل اندلاع الحرب عنوان غلافها بجملة هي إلى القرار أقرب، نصها: “مهمة بوتين الفاشلة .. سواء كانت هناك حرب، أم لا؟ فقد أخطأ في حساباته”. وعززت هذا الحكم بتصميم يظهر الزعيم الروسي في هيئة دهّان طوّق نفسه داخل خارطة أوكرانيا، في إيحاء إلى أنه قد ضيق الخناق على نفسه. ليس هذا فحسب؛ بل إن المجلة عادت في العدد الذي يليه بتصميم يهدف إلى تشويه صورة بوتين بشكل أكبر من خلال ملء ملامح شكله باللون الأسود، مع إبراز عقله في هيئة دبابة باللون الأصفر، وقررت بأن التاريخ سوف يحكم على بوتين بقسوة بسب “حربه”.
لعل مما يلفت الانتباه أثناء انخراط الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في صراع ما، تحول ما يظنه الرأي العام الطرفين المتضادين، ونعني به الإعلام والحكومات إلى حلفاء في المهام لخدمة المصلحة العليا للدولة، ويظهر ذلك في تناغم شبه متماثل في الرسائل أثناء أزمات من هذا النوع؛ فلم تكن مصادفة – على سبيل المثال – أن تتحدث نيويورك تايمز عن مسيرة الرئيس بوتين في دهاليز الرئاسة الروسية، لتنتهي بشكل مُبيّت إلى الحكم على أنه أصبح “طاغية” حسب تعبير الصحيفة، وهي كلمة مشابهة في المعنى لكلمة “جزار” التي وصف بها بايدن الرئيس بوتن حين التقى لاجئين تستضيفهم بولندا. ولم يكتف الرئيس الأمريكي في هذا الهجوم الممنهج بهذه الكلمة الحادة، وإنما واصل تطاوله على الرئيس الروسي في خطابه في العاصمة البولندية وارسو بجملة فُهمت على أنه يطالب بإزاحته عن الرئاسة حين قال: “بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل البقاء في السلطة”.
بطبيعة الحال لم يكن لهذا الخروج عن النص الدبلوماسي غير المعتاد، أن يمر دون رد مباشر من قبل المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الذي قال: “على أي رئيس دولة أن يبقى حذرًا”، الأمر الذي قد يكون سببًا في تعقيب البيت الأبيض على ما قصده الرئيس بايدن، وتلطيفه لتلك اللغة، من خلال أحد مسؤوليه الذي أوضح أن “ما قصده بايدن أنه لا يمكن السماح لبوتين بممارسة سلطة على جيرانه أو على المنطقة”، وأضاف: “الرئيس لم يكن يتحدث عن حكم بوتين في روسيا ولا عن تغيير النظام”.
ولأن التحالف المباشر بين وسائل الإعلام الغربية العملاقة وجيوش بلدانها قد ينعكس سلبًا على سمعة الوسيلة دوليًّا، وخاصة حين يكون واضحًا ومستمرًا، فقد لجأت بعض تلك الوسائل إلى أساليب أخرى غير مباشرة مثل استثارة العواطف، والجوانب الإنسانية ذات القواسم المشتركة بين البشر، وعوضًا عن أن إقحام السياسة مباشرة، ركزت في مواضيعها على آثار الحرب ونتائجها المؤلمة، وذلك كما فعلت مجلة التايم في عددها الأخير من شهر مارس، إذ تصدر غلافها، صورة لأم أوكرانية تسير إلى جانب أحد الجنود حاملاً طفلها، وهي تجهش بالبكاء، ليعبر عن عنوان المجلة الرئيس: محنة الأوكرانيين.
ولم تكن التايم بِدعًا في هذه الطريقة، بل هو أسلوب تلجأ له معظم الوسائل من وقت لآخر لتنويع مادتها، وذلك على نحوٍ يخفف من تهمة التحيز الصارخ، وهو ما لجأت لاستخدامه صحيفة نيويورك تايمز أكثر من مرة، على نحو حديثها عن تشرد نصف عدد الأطفال في أوكرانيا البالغ عددهم سبعة ملايين ونصف طفل.
حضور السياسيين في المنابر ووسائل الإعلاميين واستثمارهم لها لم يقتصر على الزعماء الدول الغربية، أو على الرئيس الأوكراني الذي عقد مؤتمرًا صحفيًّا في قاعة محصنة بأكياس الرمل، ولكن الرئيس الروسي ووزارة خارجيته كانوا حاضرين بقوة في ذات المضمار، فنشَّطوا حضور الوسائل الروسية عالميًّا سواء من خلال إستراتيجية استمالة المجتمع الدولي في مواجهة الغرب عبر نقده هذا الأخير في خروجه عن القيم المشتركة، وذلك على نحو إقدام السفارة الروسية في باريس لرسم كاريكاتوري مسيء لأمريكا وحلفائها الأوروبيين بصورة أغضبت الرئيس الفرنسي ماكرون الذي انتقد فيه الرسم في مؤتمر صحفي ووصفه بأنه خطوة غير مقبولة. فما كان من المتحدثة باسم الخارجية الروسية إلا أن رد على كلام ماكرون بالقول: “حقّاَ؟ أليس رؤساء ووزراء خارجية فرنسا هم الذين كانوا يعلموننا بأن أي رسوم كاريكاتورية أمر طبيعي، حتى تلك الفظيعة التي نشرتها “شارلي إيبدو”؟ في إشارة للرسوم المسيئة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما يدخل في توظيف روسيا للإعلام في هذا الجانب، اعتراضها علنًا على استئثار الدولار الأمريكي بأحقية بيع النفط، كما أنه وظفته بقوة لتوجيه رسائل مرعبة توحي بأنها قادرة على استخدام ترسانتها النووية بما يوقف الغرب عند حده، وذلك على غرار تصريح بوتين في حواره المتلفز مع المواطنين عن المدمرة البريطانية التي عبرت البحر الأسود ووصف عبورها بالعمل الاستفزازي، وأشار فيه إلى أنه لا يظن أن الحرب العالمية الثالثة ستندلع لو تم إغراقها.
شبكات التواصل تقتحم الميدان
مما يميز هذه الحرب عن سابقاتها، بأنها تندلع في ظل انتشار وسائل اتصالية شخصية لم تكن موجودة من قبل، مما يعني أن التحكم في التغطية الإعلامية لم يعد ممكنًا كما كان عليه الوضع في حرب الخليج على سبيل المثال. وبقدر ما أن هذه الوسائل ستتيح الفرصة لقول ما لم يقله الإعلام، وكشف معلومات لم تكن لتنشر لولا وجودها، إلا أنها باتت الوسائل الأكثر نشرًا للشائعات حول الحرب وأحداثها، وغدت وسائل ترويع للآمنين بمعلومات مغلوطة حول موضوع لا يحتمل التمادي فيه، على الرغم من أن الأطراف المتنازعة قد تكون هي المصدر في اختلاق القصص والأكاذيب كأحد أذرعة الحرب لإرباك العدو.
ولم يكن توظيف شبكات التواصل في نشر الشائعات الميزة الوحيدة التي وجدت فيها أطراف النزاع أداة فعالة للتأثير على المعنويات، وإنما وجد البعض فيها مزايا أخرى كرصد ومتابعة ميدان المعارك وآثارها، وذلك كما فعلت وزارة الثقافة الأوكرانية التي دشنت بعد اندلاع الحرب، وتحديدًا في العاشر من مارس موقعًا خاصًا لتوثيق المقاطع والصور التي يلتقطها المواطنون الأوكرانيون لما يمكن تصنيفه ضمن دلائل الدمار التي تحدثه القوات الروسية، تمهيدًا لحصر وتقدير حجم الأضرار الناتجة عن الغزو، للمطالبة بالتعويضات بعد أن تضع الحرب أوزارها.
الفيسبوك ينتصر لأوكرانيا
لعل من البديهي أن يكون استخدام شبكات التواصل لخدمة مصالح الأفراد أو المؤسسات أو حتى الدول أمرًا مقبولاَ حتى وإن كان لأغراض أمنية أو عسكرية، غير أن المفاجأة التي شهدتها الأزمة الأوكرانية انخراط شركات التواصل الأمريكية العملاقة في الحرب إلى جانب دولها، ومن ذلك تغيير شركة “ميتا” المالكة لموقع فيسبوك وانستغرام، سياستها التي تحظر محتوى الكراهية أو مواد العنف، لتسمح للأوكرانيين بنشر موادٍ معادية لجيش روسيا، بما في ذلك عبارات “الموت للغزاة الروس”، ورسائل تحرض على موت الرئيس الروسي، وكبار قادته، ولم تكتف الشركة بذلك؛ بل قامت بإيقاف وصول وسائل الإعلام الروسية عبر منصاتها إلى أوروبا، وامتدادًا لحصار وسائل الاتصال الرقمية للسوق الروسي، أقدمت شركات “أبل”، و”مايكروسوفت” على إيقاف مبيعاتهما فيه، وعلقت كل من شبكة “نيتفلكس” و”إنتل”، و”بي إن بي” تعاملها معه.
روسيا من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي، ولكنها اتخذت إجراءات انتقامية من تلك الشركات، من بينها حظر “فيسبوك” من تواجدها في روسيا، وتقييد وصول “إنستغرام” إلى (80) مليون مستخدم في داخل أراضيها.
ونختم بالقول بأن هذا التراشق في ساحة الفضاء الرقمي، الذي جاء نتيجة للحرب الأوكرانية، حطم الكثير من القواعد المثالية التي كانت ظاهرة في فضاء الإنترنت، وبخاصة فيما يتعلق بالإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وحري بما حدث أن يعلق الجرس لدى دول العالم حول كيفية التعامل مع قنوات النشر السيبراني، وأن يدفع الكثير منها إلى الشروع بشكل جدي في تفعيل فكرة إنشاء فضاءات رقمية محلية خاصة بها، على غرار التجربة الصينية، وهي خطوة إن تحققت سيكون لها تبعات عديدة على مختلف الأصعدة الاقتصادية، والثقافية، والتشريعية، وغيرها.