لعقود طويلة ظلت الصناعة الإعلامية ثابتة الأركان تعتمد بشكل رئيس على المحتوى التقليدي والذي يتم من خلاله إبراز المواقف وايصال الرسالة للجمهور المستهدف، ثم ظهرت مفاهيم حديثة في التواصل الدولي مثل القوة الناعمة والدبلوماسية الشعبية والتي من خلالها يتم التعريف والتأثير باستخدام أدوات النفوذ الناعمة مثل الإعلام والثقافة والفنون، وجوهر الرسالة يتم نقلها عبر وسائل الإعلام التقليدية التي تتفاعل من خلالها الإنسانية جزئياً اليوم.
وتستخدم الدول مختلف الموارد لإبراز قصتها، ويعد من أهم الأدوات التي يتم استخدامها هي صناعة الافلام وكذلك ابراز الثقافة ومساهمة الدولة في مسيرة الإنسانية عبر عدد كبير من الوسائل والأدوات الاعلامية، تسير جنبا إلى جنب مع تطوير قطاعات ذات صلة بالنفوذ ولها مردود اقتصادي ومنها قطاع السياحة والترفيه ليتمكن العالم من زيارة الدول والتعرف على إنسانها وثقافته وموروثه الثقافي والحضاري.
كان هذا تحول محدود في معادلة التأثير لأن جوهر الرسالة والأدوات لم تتغير وكان الإعتماد الرئيسي بشكل كبير على العنصر الوسيط الذي يقوم بنقل المشهد للمشاهد وهو إما المحرر أو الكاتب أو المصور وتمثل التغيير في الإنتقال من وسائل الإعلام التقليدية إلى المنصات الرقمية وهو تحول محدود تمثل في طبيعة المحتوى وطرق عرضه، واليوم مع انتشار مفهوم التفاعل بين الانسان والحاسوب وظهور تقنيات الإعلام التفاعلي مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والواقع المختلط والهولجرام وإمكانية اندماجها مع التقنيات الأخرى مثل الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء وغيرها من التقنيات ظهر فجر جديد في صناعة المحتوى وأهمية استثماره لإبراز رسالة الدول للعالم وهو ما سنتحدث عنه في هذا المقال.
والحقيقة أن تقنيات الاعلام التفاعلي يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في ابراز قيم الدول وحضارتها لا سيما مع ما تمتلكه من قدرة على التاثير ويعد التحول في صناعة المحتوى من خلال تقنية الواقع الافتراضي تحول جذري وضخم لا سيما وأنه للمرة الأولى في تاريخ البشرية يكون لدى العالم وسيط إعلامي يستطيع نقل المشاهد ذهنياً في الفضاء الرقمي بدرجة قريبة إن لم تكن مطابقة للواقع الحقيقي، وهذا التحول يعد نقطة إلتقاء جوهرية بين الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي وهو ما يوضح حجم التحول في صناعة المحتوى والتأثير القادم، وفي نفس الوقت يفسر التنافس الكبير من الشركات التقنية العالمية على مسارين الأول صناعة نظارات الواقع الافتراضي والثاني على مستوى صناعة المحتوى والمنصات، فعلى المستوى الأول نجد بوضوح التطور التقني الذي يحدث على مستوى تطور نظارات الواقع الافتراضي من حيث انخفاض وزنها وتكلفتها وارتفاع التقنيات من حيث تمكين المستخدم من السير في المحتوى والمشاهدة في مختلف الاتجاهات، أما على المستوى الثاني وهو تطوير أدوات صناعة المحتوى وتدشين منصات الواقع الافتراضي حيث يوجود اليوم أكثر من 10 منصات للواقع الافتراضي وأكثر من ثلاثة آلاف تطبيق متنوع تغطي مختلف القطاعات والصناعات والتي على رأسها الثقافة والإعلام والترفية.
أهمية التقنيات التفاعليه وبخاصة الواقع الافتراضي تحديداً يتمثل في تغيير نمط استهلاك المحتوى من المشاهدة إلى التجربة وقدرة التقنية على إيهام العقل خلال تواجده في البيئة الافتراضية بتوجده في البيئة الحقيقة وهو ما يسمى بالشعور الغامر والذي من خلاله يتفاعل الانسان مع المحتوى بدرجة عاليه جدا لا سيما وأن المستخدم يكون جزء من المشهد ويستطيع المشاهدة في مختلف الاتجاهات مما يعطي بعدًا آخر للقصة والمحتوى بشكل عام، لذلك تعد تقنيات الإعلام التفاعلي بوابة حديثة للإنسانية لأن تروي قصتها للآخر وللتفاعل ومعرفة ثقافة الشعوب وعاداتها كما هي من ازدهار واختلاف مع الآخر.
ولعل أهم ما يميز تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز في الوقت الحالي أنها لا تزال في مرحلة البدايات مما يعطي مختلف الدول ذات الفرصة في إبراز قصتها ورصيدها من القوة الناعمة لا سيما وأن التقنيات على المستوى الاقتصادي واعدة حيث من المتوقع أن تتأثر أكثر من 23 مليون فرصة عمل بالتقنية وسيكون حجم إقتصاد الواقع الافتراضي الواقع المعزز 1.3 ترليون دولار خلال العقد القادم مما يوضح حجم الفرص الاقتصادية وأثرها المستقبلي على المستوى الثقافي والإعلامي.
ومن خلال تقنية الواقع الافتراضي يمكن ابراز مسيرة الدول بطرق مختلفة فمنها على سبيل المثال لا الحصر انشاء تطبيقات متخصصة للسفر ومن خلالها يمكن لأي مشاهد حول العالم الإطلاع على أي مدينة والتعرف على معالمها ومشاهدة محتوياتها وكأنه متواجد فيها، إضافة إلى تطبيقات متخصصة في مجالات أخرى واعدة تتيح الإطلاع على مساهمة الدول في مسيرة الحضارة الإنسانية مثل المتاحف والتراث والآثار وغيرها الكثير من المجالات كالإطلاع على تاريخ الدول وطبيعتها الجغرافية.
أما الحديث عن الأفلام فيوجد عدد كبير من تطبيقات الأفلام المنتشرة عبر منصات الواقع الافتراضي، وربما من أبرز التطبيقات المتاحة اليوم هي نسخة يوتيوب الواقع الافتراضي والذي من خلاله يمكن الإطلاع على ملايين المحتوى ومشاركته مع العالم، كما أن كبرى شركات إنتاج الأفلام في العالم لديها موقع السبق عبر منصات الواقع الافتراضي ومنها على سبيل المثال نتفيليكس وديزني وغيرها من شركات الإنتاج التي استثمرت في تطبيقات أفلام ناشئة مثل تطبيق Within والذي يتيح مشاهدة أكثر من مائة فلم واقع افتراضي متنوع يقوم عليها نخبة من السينمائيين مما أعطاها فرصة مبكرة للنمو والاستفادة من التقنيات الواعدة مع التطور الذي يحدث على مستوى زيادة عدد المستخدمين تدريجياً في المنصات.
أما الحديث عن الإعلام فالعديد من وسائل الإعلام العالمية لديها تطبيقات عبر منصات الواقع الافتراضي، والهدف من التواجد عبر منصات الواقع الافتراضي يتمثل في نقل الأحداث والفعاليات والمناسبات وإعطاء صبغة جديدة للأخبار لتتيح من خلال التقنية تواجد أي شخص في البيئة التي يتم مشاهدتها مما يعطي الجمهور العالمي عبر المنصات طريقة ممتعة ومؤثره تشعرهم بتواجدهم في ذات الموقع وهو بعد جديد في تفاعل البشرية مع المحتوى وثقافات العالم.
أهمية تفعيل القوة الناعمة عبر تقنيات الإعلام التفاعلي وبخاصة الواقع الافتراضي يتمثل في الاستثمار في الانخفاض التدريجي الحاصل اليوم على مستوى تأثير وسائل الإعلام مما ولد فراغًا في صناعة المحتوى المؤثر وقد يكون التقنيات التفاعلية كالواقع الافتراضي والمعزز هي مستقبل صناعة الإعلام لا سيما وأن الشركات التقنية العالمية تسعى لأن تكون التقنيات جزء من حياة الناس اليومية مما يوضح مسار التطور التقني المتوقع خلال السنوات القادمة وأهمية الاستعدادها لها مبكراً.
في الخليج العربي لدينا رصيد ثقافي وحضاري وتاريخي ضخم ولدينا قصة تستحق أن تروى للعالم، ووجود تقنيات تفاعلية مثل الواقع الافتراضي ستسهم بشكل كبير في إيصال رسالتنا للعالم مما يتطلب التوسع في التعليم والتدريب واستكشاف طرق جديدة في استخدام التقنيات على مستوى الاستخدام التقليدي للمحتوى المتمثل في حاستي السمع والبصر وكذلك على مستوى توظيف الحواس الثلاث المتبقية في المحتوى لا سيما وأن لغة إنتاج المحتوى عبر تقنيات الإعلام التفاعلي بشكل عام والواقع الافتراضي بشكل خاص في بداياتها مما يعطي إمكانيات ضخمة للاستفادة منها في إيصال رسالتها للآخر وإبرز المنجزات للعالم.