نصف مليار نسمة تقريباً على مستوى العالم يتحدثون اللغة العربية، لم يستطيعوا أن يوقفوا التيار الجارف الذي يجعلها تتآكل وتتوارى خلف اللغات الأخرى.
إن أصابع الاتهام لا يمكن أن تشير إلى سبب واحد فقط، بل هي عوامل مجتمعة أدت إلى ما وصل إليه الحال الذي لا يخفى على أحد.
لا مانع بالطبع من تعلم اللغات الأخرى وإجادتها والتحدث بها، لكن لا بد من الاعتداد باللغة الأم، والعمل ليس على إجادتها فقط، بل والتبحر في قواعدها، وهو ما ينقص مدارسنا وجامعاتنا بجميع مراحلها وأطيافها.
لقد أصبح تعلم اللغة العربية، أمرًا هامشيًّا في مدارسنا في كافة أنحاء العالم العربي، وهو ما جعل الطلاب يشعرون في قرارة أنفسهم أنه لا طائل من تعلم هذه اللغة، سوى الحصول على درجات مناسبة في اختباراتها فقط لاجتيازها، دون التعمق في مكنوناتها، أو بالأحرى دون أن تسكن في وجدان وقلب الطالب، وتصبح لغته الأولى كما يجب.
إن هذا الأمر يتطلب إعادة النظر في مناهج اللغة العربية المقررة على الصفوف الدراسية باختلاف مراحلها، بحيث تحتوي المناهج على مواد جاذبة، مثل القصص الشيقة، والأشعار الرصينة الكلاسيكية والمعاصرة أيضًا، أو الروايات المهمة لقامات الأدب العربي وما أكثرهم.
كذلك الأمر بالنسبة للكليات المختلفة، فلا بد أن تكون مادة اللغة العربية أحد المقررات الدراسية، حتى يتخرج أبناؤنا الشباب وهم لديهم إمكانات تجعل اللغة العربية هي لغتهم الأم، التي يتحدثون بها، بل وتكون مصدر الثقافة الأهم لهم، ينهلون من معارفها المختلفة.
الإعلام واللغة العربية
أما الأمر الثاني فهو وسائل الإعلام التي أصبحت المصطلحات الأعجمية تغلب على حديث معظم مقدمي البرامج، بل إن العديد من البرامج أطلقت مسمياتها باللغة الإنجليزية، وكأن لغتنا العربية قد نضبت.
نفس الحال بالنسبة لضيوف هذه البرامج الذين يتحدثون كثيرًا بالإنجليزية أو الفرنسية، وعلى مقدم البرنامج أن يستوضح منهم المقابل اللغوي بالفصحى، أو يذكره بنفسه، بدلاً من أن يتباهى البعض سواء من مقدمي البرامج أو الضيوف بمعرفتهم بلغات أخرى.
إن الإعلام يقع على عاتقه الكثير في هذا الأمر، فأين هي البرامج الثقافية التي ضاعت في خضم اللهاث خلف الإعلانات، أليس من الممكن أن تكون هناك حصة من البرامج لا يكون الإعلان هو أهم مقوماتها، ولكن بهدف إفادة المشاهد وزيادة ثقافته.
وقد يقول البعض إن القنوات المتخصصة تفي بهذا الغرض، ولكن هذا الأمر مردود عليه، إذ إن القنوات المتخصصة بحاجة إلى إعادة تقييم، فقد استأثرت فقط بالنزر اليسير من الأدباء والمتخصصين، وتقل نسبة مشاهديها يومًا بعد الآخر.
إننا في عصر مليء بالتحديات وعلينا أن ننتبه إلى أن ضياع الهوية وتسطيحها هو أمرٌ في غاية الخطورة يحتاج منا إلى دراسات واعية ومستفيضة من أجل مواجهته.
وإنني أرى أن هذه المواجهة لا تنتج إلا بالتكاتف العربي، من خلال المنظمات العربية ذات الصلة، بحيث يتم وضع مواثيق وخطط تلزم القنوات الرسمية والخاصة بتقديم البرامج التي أشرنا إليها من قبل، ولا مانع من أن يتم تقديمها في إطار جاذب ومبتكر، حتى تستأثر بوجدان المشاهدين.
وفي هذا السياق، اختفت – أيضًا – الأعمال الدرامية التي تقدم باللغة العربية الفصحى، وتوارت خلف الأعمال التي تقدم بلهجات بلداننا المختلفة، ومن المهم تقديم هذه الأعمال ليس فقط من أجل لغتنا الفصحى والحفاظ عليها، ولكن – أيضًا – من أجل الموضوعات التي تناقشها هذه الأعمال وخاصة التاريخية منها، التي تلقي الضوء على محطات هامة في تاريخنا الإسلامي والعربي.
وليست ببعيدة عنا العديد من الأمثلة التي قدمت بنجاح كبير أعمالاً فنية باللغة العربية الفصحى وحققت نجاحًا جماهيريًّا، ولكنني أعتقد أن الأمر يحتاج إلى تأهيل المؤلف والممثل معًا، فكلاهما أصبح بعيد الاهتمام باللغة العربية، ولكننا إذا عدنا لرواد العمل الفني سنجدهم كانوا على غاية من الحرفية والمهنية في الحديث باللغة الفصحى، وحسن مخارج الألفاظ، وعدم الوقوع في فخ الأخطاء النحوية، بل كان التلفزيون على سبيل المثال يقدم أمسيات تستعرض أشهر القصائد باللغة العربية، وهو ما يؤهل المشاهد لاستخدام لغته والتعرف على كنوزها المتعددة.
ناهيك عن تقديم أعمال غنائية لقصائد بالفصحى، وربما مرت عقود على آخر قصيدة مغناة استمعنا إليها، وكانت هذه القصائد يتغنى بها العامة قبل المثقفين، ولنستحضر على سبيل المثال القصائد الشهيرة التي تغنت بها أم كلثوم، والتي كان ينتظرها العرب من المحيط إلى الخليج، ليستمتعوا بها.
وهنا لا بد أن نستذكر الشاعر السعودي الكبير الأمير عبد الله الفيصل بن عبد العزيز آل سعود، وقصيدته الشهيرة “ثورة الشك” التي تغنت بها كوكب الشرق، وهناك العديد من الشعراء الآخرين الذين تغنى بأعمالهم مشاهير الغناء العربي.
الجهود الخليجية
ولا بد أن نذكر أن دول الخليج العربية، تبذل جهودًا مشكورة في تأصيل اللغة العربية، كمادة أساسية ومهمة في المراحل الدراسية المختلفة، مستخدمة أحدث أساليب التعلم في هذا المجال، وتعمل على تأهيل المعلمين لكي يكونوا على أعلى مستوى مطلوب للقيام بدورهم المهم في تعليم أبنائنا وتأهيلهم ليكونوا على قدر عالٍ من المعرفة باللغة العربية وأصولها.
وفي هذا الصدد عُقد خلال الفترة من 10 إلى 12 أكتوبر من العام الجاري بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة “المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية”، وهو المؤتمر الذي أقيم تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، وشاركت في المؤتمر النوادي الأدبية السعودية التي حلت ضيفًا لعرض تجاربها وخبراتها وتاريخها في خدمة الأدب والثقافة واللغة العربية على مدى خمسين عامًا.
وناقش المؤتمر خلال جلساته العديد من القضايا والموضوعات التي تتعلق باللغة العربية، وجاء في نص التوصيات أن “أزمة اللغة العربية هي أزمة أمة لا أزمة لغة”، كما نصت التوصيات في بندها السادس على: “تأكيد أهمية الأمن الوطني واللغوي في الدول العربية، مع التركيز على سن الأنظمة والتشريعات والسياسات التي تمكن اللغة العربية في البيت والمدرسة والجامعة وسوق الإعلام بكل وسائله المتاحة والمستحدثة، وفي جميع المؤسسات الحكومية والأهلية”.
وهذا المؤتمر يمنحنا بارقة أمل في استعادة دور وأهمية اللغة العربية في بلداننا، لكي نصحح المسار، ونعيد الأمور إلى نصابها، وهو ما نأمل أن يتحقق بإذن الله.
إنها لغة الضاد يا سادة، هذه اللغة التي أطلق عليها هذا المسمى لأن حرف الضاد هو الذي يميزها عن سائر اللغات، هذه اللغة التي تكتنز بالمفردات ذات المعنى الواحد وهو ما تعجز عنه العديد من اللغات الأخرى، هذه اللغة التي اعتمدت إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي قرارًا بالاحتفال بها في كل عام في الثامن عشر من ديسمبر، لأنه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
واسمحوا لي أن أذكر تجربة شخصية في هذا الصدد، فقد عملت مشرفًا على الأنشطة الثقافية والفنية بالأكاديمية المصرية للفنون في العاصمة الإيطالية روما، وكان يزور الأكاديمية العديد من الأطفال الإيطاليين من المرحلة الابتدائية، وفكرت في طريقة لتعريفهم بقاماتنا الكبرى، فألفت قصصًا عن أمير الشعراء أحمد شوقي، وعميد الأدب العربي طه حسين، وغيرهم، وتمت ترجمة هذه القصص إلى اللغة الإيطالية، وصاحبتها رسوم كاريكاتورية جاذبة، وكنت عقب قراءة القصص، أطلق أسئلة لهم عن ما استفادوه من هذه القصة ورأيهم في الشخصية التي تحدثنا عنها، وقد كان له أثر كبير في جذبهم إلى لغتنا العريقة، وفي اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية، اصطحبتهم في رحلة لزيارة تمثال أمير الشعراء أحمد شوقي، وألقى الأطفال زهورًا أمام تمثاله ثم تحدثنا عنه وعن سيرته ومسيرته الأدبية.
إن هناك العديد من الأفكار لكي نحبب اللغة العربية إلى أبنائنا بل وأطفال الدول غير العربية، وهو ما لن يتحقق سوى بإيماننا بأهمية هذا الدور المحوري، في الحفاظ على الهوية وتأصيلها خاصة لدى أبنائنا الشباب.