مستحدثات الأتمتة الذكية للأخبار.. تطورات متسارعة

د. عباس مصطفى صادق

الذكاء الاصطناعي في الإعلام والترفيه (6)

من التجريب المبكر إلى التطبيقات المعاصرة، يؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًّا في إعادة تشكيل المشهد الاتصالي برمته، وأثر على صناعات الإعلام والترفيه والإعلان، مما أدى إلى حالة تغيير انقلابية في طريقة إنشاء المحتوى وتوزيعه واستهلاكه ومشاركة الجمهور، علاوة على الجدل المثار في الجوانب المهنية والأخلاقية المرتبطة باستخداماته.
وكما نرى ونتابع كل يوم تحمل تطورات الذكاء الاصطناعي وعودًا بتطبيقات أكثر تقدمًا من شأنها تشكيل الصناعة بطرق عميقة.
في هذه الحلقات نتتبع تطور وأوجه الاستخدامات من تحليل البيانات المبكر إلى العصر الحالي للتعلم العميق والأتمتة.
وفي هذه الحلقة نتحدث عن عمليات أتمتمة إنتاج الأخبار بأدوات الذكاء الاصطناعي.
وتستكشف هذه المقالة عددًا من الطرق التي يعمل بها الذكاء الاصطناعي على تحويل غرف الأخبار إلى مجالات ذكية في الإنتاج الصحفي، وتسلط الضوء على كيفية عمل الأدوات المستحدثة في إعادة تشكيل مستقبل الصحافة مع الحفاظ على اللمسة الإنسانية الأساسية.

ليس جديدًا في غرف الأخبار
قبل ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بوقت ليس قصير، بادرت مؤسسات إعلامية، مثل: “نيويورك تايمز”، و”أسوشيتد برس”، و”واشنطن بوست” بتطوير واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في أتمتة الأخبار مع الحفاظ على المعايير التحريرية، وقد مكنت الطرق التي استخدمها الصحفيون وقتها من توسيع نطاق تقاريرهم، وتقليص العمل الروتيني، أما الجديد الذي قدمه الذكاء الاصطناعي التوليدي فهو قدرته على إنتاج محتوى مثل النصوص المكتوبة، والصوت والفيديو والصور، وحاليًّا تساعد النماذج الذكية في عدد من مراحل إنتاج الخبر وتبسيط سير العمل، وتعزيز التخصيص، وفتح آفاق جديدة لإشراك القارئ، والتحقق من الحقائق، وصناعة المحتوى التفاعلي، فضلًا عن استخدامات أخرى، تشمل التلخيص والترجمة والتبسيط وإعادة الكتابة بأساليب مختلفة، واستخراج نسخ لوسائل التواصل الاجتماعي والنشرات الإخبارية وغيرها.
ويمكن في ما يلي، وضع عنوانين رئيسية لجوانب مهمة في عمليات أتمتة الأخبار بالذكاء الاصطناعي، تشمل:
1- جمع الأخبار.
2- إنتاج الأخبار.
3- تخصيص الأخبار.
4- تفاعل الجمهور.

1- جمع الأخبار:
تستخدم المؤسسات الإعلامية الكبرى، ومنها وكالات الأنباء، أدوات الأتمتة للبحث عن الأخبار في جميع أنحاء العالم، على سبيل المثال، صممت وكالة “بلومبرج” نموذجًا لغويًّا مدربًا على المستندات المالية التي تتبع لها والمعلومات الموجودة على منصتها، وهو يجمع ويصنف الأخبار المالية وما إليها.
من ناحية أخرى، تعاونت “سيمافور” (Semafor) الإخبارية في الولايات المتحدة، مع شركتي “مايكروسوفت” و”أوبن إيه أي” لتصميم أداة باسم “موجز أخبار عاجلة متعدد المصادر” مدعومة بالذكاء الاصطناعي، هذه الأداة تساعد صحفيي “سيمافور” في البحث عن مصادر الأخبار بلغات مختلفة من جميع أنحاء العالم، ليقوم المحررون في النهاية بتقييم المصادر والتحقق منها، وكتابة الملخصات، والاستشهاد بالمعلومات الأصلية من خلال الروابط ذات الصلة.
وتستخدم وكالة “أسوشيتيد برس” أداة خاصة لأتمتة بعض قصص أرباح الشركات من خلال تجميع المعلومات من البيانات الصحفية وتقارير المحللين وأداء الأسهم، وقالت: “إن هذه الأداة تسمح لمراسليها بالتركيز على تقارير أكثر تعمقًا، كما أنها تجرب استخدام الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الأحداث الإخبارية العاجلة من تنبيهات وسائل التواصل الاجتماعي”.
وتعمل صحيفة “فايننشال تايمز” وصحيفة “وول ستريت جورنال” على تصميم نماذج ذكاء اصطناعي يمكنها التنبؤ بالموضوعات والأحداث المحتملة وإبلاغ الصحفيين بها، كما يستفاد من هذه النماذج في أعمال أخرى تتعلق بالتغطيات.

2- إنتاج الأخبار:
هناك مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تساعد الصحفيين على أتمتة الإنتاج الإخباري، بما يشمل الكتابة والتدقيق اللغوي وصياغة العناوين الرئيسية والفرعية، ولكن هذا الوضع قد يصلح فقط للأخبار القابلة للأتمتة مثل أخبار الاقتصاد والرياضة، وهو لا يصنع الأخبار مثلما يحدث بالنسبة للمقالات، فالخبر لا يُصنع، بل هو حدث جرى فعلًا أو هو ملخص لحديث لشخص ما أو خلاصة دراسة وما إلى ذلك، وما يقوم به الذكاء الاصطناعي يضمن أمور لا تمس جوهر الخبر، بل جوانب تتعلق بإدارة أتمتة جمع وتصنيف وأرشفة الأخبار وما إلى ذلك.
وفي العادة لا تلجأ الصحف الرصينة للذكاء الاصطناعي في كتابة المقالات، وعلى سبيل المثال، صرحت صحيفة “نيويورك” تايمز إنها لا تستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة المقالات، لكنها تستخدمه لغربلة البيانات المستخدمة في التقارير الاستقصائية، وعمل نسخ صوتية من مقالاتها وتقديم توصيات للمقالات.
نفس الأمر بالنسبة لصحيفة “واشنطن بوست”، التي دخلت في شراكة مع شركة برمجيات لتحويل النص إلى كلام منطوق لمرافقة بعض رسائلها الإخبارية المكتوبة، ويمكن إضافة هذا الصوت إلى قائمة تشغيل في تطبيق “ذا بوست” (The Post)، جنبًا إلى جنب مع عروض أخرى مثل حلقات البودكاست والمقالات الصوتية أولًا.

3- تخصيص النشرات
أصبحت النشرات الإخبارية المخصصة شائعة بشكل متزايد، والمؤسسات الإخبارية الكبرى باتت مجهزة بشكل أفضل لتلبية اهتمامات قرائها المتنوعة، مع تحقيق أهداف النمو الرقمي الخاص بها أيضًا.
وأحد أكثر استخدامات الذكاء الاصطناعي إثارة للاهتمام في غرفة الأخبار، هو إمكانية تقديم محتوى مخصص بشكل فردي للقراء والمشتركين، ومن الأمثلة على أدوات تخصيص المحتوى، “جيمس” (JAMES)، وهو خادم رقمي تم إنشاؤه بواسطة شركة “وايب” (Twipe) بالتعاون مع صحفية “التايمز” (The Times) لمساعدة ناشري الأخبار على تعزيز مشاركة القراء من خلال رسائل البريد الإلكتروني المخصصة لتلبية الاحتياجات المتطورة لمستهلكي الأخبار الجديد، حيث يقوم بإضفاء الطابع الشخصي على توزيع الرسائل الإخبارية، من خلال التعلم من سلوكيات القراء وتفضيلاتهم وتخصيص المحتوى وفقًا لعادات القارئ الفردية.

4- تلخيص المقالات
يستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد لإنشاء ملخصات موجزة للمقالات الإخبارية، مما يوفر للقراء لمحات عامة سريعة دون ترك المعلومات الأساسية، ومن الأمثلة البارزة على ذلك (Minutes by Nikkei)، وهي خدمة اشتراك تم إطلاقها لتلبية احتياجات رواد الأعمال الشباب، وتقدم هذه الخدمة ثلاث مقالات يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي يوميًّا بتنسيق سهل الهضم.
تعتمد هذه الخدمة على أداة تعمل على تلخيص النقاط الرئيسية وإعادة كتابتها بأسلوب يسهل الوصول إليه، كما يتم أتمتة سير العمل بالكامل، مما يضمن تحسين الأخبار للاستهلاك الرقمي، وقد أدى ذلك إلى خفض بنسبة (50%) في الساعات التي يقضيها الصحفيون في تحرير الأخبار، ما سمح لهم بالتركيز على التأكد من صحة النصوص وغير ذلك من عمليات.
وبالمثل، قدمت صحيفة “كلارين” (Clarín) الأرجنتينية مساعد قراءة يعمل بالذكاء الاصطناعي يعمل على تعزيز تفاعل القارئ من خلال توفير تنسيقات متعددة للتقارير الإخبارية، بما يلبي تفضيلات القراءة المتنوعة.
في السياق تستخدم هيئة الإذاعة النرويجية ملخصات يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي لإشراك المستمعين الأصغر من جيل الشباب الذين باتوا يبتعدون بشكل متزايد عن مصادر الأخبار التقليدية، وتوفر هذه الأداة ملخصات موجزة تظهر بشكل بارز أسفل عناوين المقالات، مما يوفر للقراء نظرة عامة سريعة لها، قبل البدء في قراءة النص الكامل.

5- تفاعل الجمهور
تعد إدارة الحجم الهائل من التعليقات عبر الإنترنت تحديًّا كبيرًا للمؤسسات الإعلامية، فقد أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي ضرورية لاكتشاف المحتوى غير اللائق، وهي تحدد تفاعلات المستخدم البناءة، وتعمل على الكشف التلقائي عن التعليقات التي تخاطب غرف الأخبار مباشرة، لضمان الاستجابات السريعة، وتكتشف التعليقات ذات الصلة بالموضوعات المنشورة وتعيد توجيهها إلى فريق التحرير.
هذا التكامل في الأدوات الحالية يضمن اتخاذ إجراءات سريعة، مثل تصحيح الأخطاء أو التحقق من الحقائق بناءً على مدخلات المستخدم.
ومن خلال اكتشاف التعليقات التي تشجع المشاركة أو تقديم ملاحظات قيمة، يدعم الذكاء الاصطناعي جهود غرفة الأخبار لبناء مجتمع أكثر تفاعلية واستجابة، ومع ذلك تعتمد فعالية الذكاء الاصطناعي على إعادة التدريب والتحسين المستمر للنماذج حتى تكون قادرة على التكيف مع الموضوعات المتغيرة.
وفي الأخير، يومًا بعد يوم تعمل المؤسسات الإعلامية بشكل متسارع في دمج أدوات الذكاء الاصطناعي للجمع بين كفاءة التكنولوجيا والإبداع البشري، وتعمل هذه الأدوات على تبسيط سير العمل، وتعزيز التخصيص، وفتح آفاق جديدة لإشراك القراء، والتحقق من الحقائق، والمحتوى التفاعلي، وهي لا تلغي دور الصحفي في متابعة الأخبار والانفراد ببعضها، وإنما تعزيز عمله في تحسين الأداء وسرعته في وقت بات فيه التنافس بين المؤسسات الإعلامية في أعلى درجاته.