الخطاب كل تلفظ بين متحدث ومستمع أو كاتب وقارئ، وكثيرًا ما يهدف الطرف (الأول/المرسل) إلى الإقناع والتأثير في الطرف (الثاني/المستقبل)، وهذا حال الخطاب الإعلامي، رسالة مكتوبة أو منطوقة له أشكال متعددة وغايات متباينة، ويفترض فيه الموضوعية وعدم التحيـّز.
يقول “أداوف. س. أوكس” ناشر جريدة نيويورك تايمز: “إن الصحافة مهنة لا تستميلها الصداقات ولا يرهبها الأعداء، وهي لا تطلب معروفـًا ولا تقبل امتنانـًا، إنها مهنة تقضي على العاطفة والتحيـّز والتعصب”.
إن المتابعة المتأنية للغة المستخدمة في وسائل الإعلام، تكشف عن عناية في اختيار مصطلحات وتعبيرات محددة لتوصيف موضوع ما، ومما لا شك فيه أن عملية إبداع التعبيرات المناسبة إعلاميًا، والتي تؤدي الغرض المرجو منها ليست عملية هينة، ولا تقوم على فعل إعلامي عابر مثلما قد يعتقد البعض، بل هي نتاج جهد يقوم به مختصون ببراعة كبيرة، تخفي وراءها خلفيات مبدعيها ومآربهم.
ولا ريب في أن الوقوف على دلالات هذه التعبيرات الإعلامية يسمح بالمراجعة والتدقيق بعيدًا عن الظروف التي تكتنف الصياغة الإعلامية، والتي يسابق الصحفي فيها الزمن جريًا وراء تحقيق السبق الإعلامي، كما جاء في بحث الصياغة اللغوية والتضليل الإعلامي للدكتور أحســن خشـــة: “لقد بلغ الاستخدام العشوائي أو المقصود لبعض المصطلحات في وسائل الإعلام حدًّا كبيرًا، بحيث صار يفتقد في كثير من الأحيان إلى التبصر في المعاني التي تحملها، ومدى تحقيقها للمصلحة الاجتماعية والفردية”، واستعرض بعض التعبيرات المتداولة إعلاميـًّا، موضحًا الدلالات التي تحملها وكذا انعكاساتها السلبية المحتملة على المجتمع.
ولا شك في أن الوقوف على دلالات هذه اللغة وتتبع معانيها واستخداماتها المختلفة في وسائل الإعلام كما فعل، يمكننا من الكشف عن المقاصد المتوخاة منها ومن أساليب الإعلام في صناعة الرأي العام أو توجيهه والتأثير فيه من خلالها، ومن هذه النماذج والتعبيرات ذات الدلالات التي يمكن وصفها بالمضللة:
(النيران الصديقة) وهو من التعبيرات الإعلامية التي تجمع بين الضدين، وتحقق غايات سياسية في زمن الحروب فتمتص جزءًا من الغضب.
(إعادة انتشار) ويطلق على التراجع والانهزام والانسحاب.
(هزيمة بطعم الفوز)، أو (هزيمة مشرفة)، وهذا من التلاعب بالألفاظ الذي يؤثر في نفسية المتلقي، وتجعله يتقبل الوضع ولا يُسهم في تغييره، ويكون سلبيـًّا تجاهه.
ومن ذلك كلمة (الاستعمار) التي تحمل معنى التعمير والبناء، صارت تستعمل نعتـًا للعدو والاحتلال الظالم الذي يهلك الحرث والنسل.
ومثلها تعبيرات تُسهم في ترسيخ انطباعات إيجابية أو سلبية لدى الرأي العام، مثل: حركة مقاومة، مجموعة إرهابية، مجموعات متمردة، مليشيات، ومنها أيضًا: عمليات جهادية أو انتحارية، وبالمقابل فإن وصف (جماعة مسلحة) أو (مليشيا) في منطقة معينة يضفي عليها حكمًا تقييميـًّا سلبيـًّا.
وقد تسمى أشياء بغير مسمياتها؛ فتطلق (المشروبات الروحية) على الخمر الذي يذهب بالعقل ويفتك بالصحة، وتستعمل (الفوائد المصرفية) في التعبير عن الربا الذي ورد النهي عنه في مواضع من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
كما قد تدمج مفردات متناقضة تنتزع من سياقها الأصلي مثل (الأم العازبة) وهي تعبيرات مضللة لا تعكس المعنى الحقيقي، وتلتف على المقصود الفعلي، والأمهات العازبات ترجمة للتعبير الأجنبي (Les femme célibataire)، والأم في سياقنا الديني والقيمي والثقافي يطلق على المرأة المتزوجة بطريقة رسمية وشرعية، وأنجبت بعدها، بخلاف المقصود هنا.
ومن التعبيرات الرائجة (شيطنة الآخر)، فكلمة “الآخر” يقصد بها الغير ويحمل عدم إعطائه قيمة، و”الشيطنة” المقصود بها تشويه صورة شخص أو حزب أو جماعة أو دولة لتحقيق هدف ما، والواقع الإعلامي يقول عن قنوات إعلامية وحملات يقودها إعلاميون أو سياسيون، يعمدون إلى تسليط أضواء سلبية كثيفة على سلوكات جماعات أو أحزاب أو مواقف دول؛ بهدف تشويه سمعتها لدى الرأي العام، والحدّ من أثرها وانتشارها أو نفوذها الاجتماعي أو السياسي والاقتصادي.
أخيرًا فإن اللغة في الوجود أداة مطلقة، لكنها في الإعلام على اختلافه وظيفة متحكمة، ذات أبعاد مختلفة ودلالات موجهة للرأي العام، ويتجلى ذلك في السلطة التي تمارسها على المتلقي، فتجعله يدرك الأشياء بالطريقة التي تحددها له، سواء أكانت حقيقية أم تضليلاً.