البودكاست يواصل المنافسة كجزء من مشاريع إعلام المستقبل وكمنصة رقمية للتحول
-مبادرات خليجية وعربية واعدة تستهدف الوصول باحترافية صناع البودكاست إلى المستوى العالمي
-الشركات التقنية الكبرى تبدأ تطبيق نماذجها الاستثمارية في البودكاست لكسب الحصص السوقية
في منتصف شهر يوليو الماضي، أعلنت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام “SRMG” عن استحواذها على نسبة 51% من شركة “ثمانية”، التي عرفت خلال السنوات الخمس الماضية بمحتواها المتخصص في مجال “البودكاست”، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان المجموعة عن استراتيجية تحولية تتضمن الاستثمار الاستراتيجي في منصات إعلامية ورقمية جديدة.
جمانا الراشد، الرئيس التنفيذي للمجموعة، وصفت هذه الخطوة بأنها تفتح آفاقاً جديدة بمجال المحتوى الصوتي الرقمي الذي يشهدا نمواً متصاعداً، وأشارت إلى أنه من المتوقع أن ينمو سوق البودكاست العالمي ليصل إلى 3.9 مليار دولار تقريباً، وذلك خلال العامين المقبلين، فيما أكد عبد الرحمن أبو مالح، الرئيس التنفيذي لـشركة “ثمانية”، على أن من شأن هذا الاستحواذ أن يسهم في استقطاب شريحة جديدة من الجمهور عبر المنصات الإبداعية المختلفة.
الصفقة التي حصلت على اعتماد الهيئة العامة للمنافسة في السعودية يوم 20 سبتمبر الماضي، تمثل تحولاً مهماً بالنسبة للعديد من المنصات الإعلامية الناشئة في مجال البودكاست العربي، والتي استطاعت بالفعل أن تشكل قاعدة جماهيرية واضحة وأن ترتقي بمستوياتها المهنية في الإنتاج والتحرير، وهو الأمر الذي جعلها تستقطب رعاية عدد من الشركات لها، وصولاً إلى أن تصبح هذه المنصات جزءاً أساسياً من المشاريع المستقبلية لمؤسسات إعلامية كبرى.
خبر استحواذ “SRMG” على “ثمانية”، أعقب سياقات متوالية لها خط أحداثها الزمني ودائرة عرضها الممتدة عالمياً، فهي المرة الأولى خليجياً وعربياً التي يتم فيها إعلان استحواذ شركة إعلامية معروفة على منصة بودكاست، وقد جاء ذلك بعد قرابة 7 أشهر من خبر إعلان أمازون عن استحواذها على شركة “وندري” الأمريكية لإنتاج البودكاست، في صفقة أشارت التقديرات الصحفية إلى أنها تجاوزت ربع مليار دولار، وشهدت منافسة من شركات مثل “ابل” و”سوني”.
ماراثون البودكاست
شهد هذا العام أحداثاً مهمة أخرى لمحبي برامج البودكاست، من أبرزها دخول قناة “العربية “في شهر مارس الماضي إلى هذا النمط الإعلامي الجديد، لتنضم إلى قنوات خليجية وعربية أخرى مثل “سكاي نيوز”، معلنة عن إنتاج مواد وحلقات معرفية وثقافية خاصة فضلاً عن نسخ صوتية من البرامج التي يتم بثها تلفزيونياً، وقد ذكرت الشبكة الإخبارية الشهيرة بأنها تستهدف الوصول إلى نطاق أكبر من المستمعين الذين يستخدمون هواتفهم وأجهزتهم المحمولة.
تجربة البودكاست التي بدأت كمشاريع فردية، والتي توصف بأنها “برنامج حواري عند الطلب” تعيش اليوم حالة غير مسبوقة من الإقبال والتفاعل مع المستخدمين، لاسيما الفئات الشابة منهم، إذ نتحدث عن نسبة نمو سنوية تقدر بـ 30%، وفقاً لما نشرته صحيفة البيان الإماراتية في نوفمبر 2020م، الأمر الذي جعل البودكاست يوصف بأنه المنصة الإعلامية الأسرع نمواً في العالم، فيما شهد العام 2020م وحده إنتاج 900 ألف بودكاست بـ 100 لغة، أضيفت إلى40 مليون حلقة تم إنتاجها عالمياً، حسب ما نشره موقع إذاعة مونت كارلو في فبراير الماضي.
عربياً، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط قفز عدد قنوات البودكاست إلى أكثر من 1400 قناة، شكلت معظمها المواد الحوارية والاجتماعية، تلتها المواد الثقافية والتعليمية، فيما تجاوز عدد الحلقات التي تم بثها 37 ألف حلقة، وفقاً لما ذكره موقع البودكاست العربي، وفيما أشار تقرير نشرته صحيفة الاقتصادية في أبريل 2020م أن مستمعي البودكاست المنتظمين في المملكة وصل عددهم إلى 5.1 مليون مستمع، تشير تقديرات صحفية متخصصة في مجال الإعلام الرقمي إلى أن عدد قنوات البودكاست في العالم قد تضاعف خلال هذا العام 2021 ليصل إلى مليوني قناة، فضلاً عن تحقيق عوائد إعلانية تزيد على ملياري دولار.
وبينما تواصل برامج البودكاست العربية بث حلقاتها بشكل يومي، ظلت الأخبار تتحدث خلال الأشهر القليلة الماضية عن تحركات متواصلة لتشكيل واقع تنافسي يتصاعد باستمرار، فالبودكاست هو جزء من المنتجات الرقمية الترفيهية التي باتت تمثلاً أنماطاً جديدة للمستخدمين حول العالم، وقد أعلنت منصات موسيقية معروفة خلال الأشهر الماضية عن إطلاق برامج البودكاست لتكون ضمن المكتبة السمعية الخاصة بها، لتأتي المرحلة التالية عبر البدء في إنتاجات أعمال أصلية من البودكاست، بحيث تكون تطبيقات الاستماع منتجاً وليست مجرد وسيط.
بين الإرث والابتكار
من ناحية أخرى، شهدت الفترة الماضية من هذا العام إطلاق عدد من الشركات والمؤسسات لمنصات بودكاست خاصة للوصول إلى جمهورها، لتصبح هذه المنصة أحد رهانات الوصول للجمهور وصنع العلامة التجارية، كما أن طبيعة البودكاست كمنتج رقمي عصري جعلته في مقدمة مستهدفات المؤسسات الإعلامية الباحثة عن خوض غمار صناعة المحتوى التفاعلي، ونذكر هنا مجلة نيويورك تايمز التي جربت إصدار عددها اليومي عبر بودكاست صوتي في العام 2017م، وقد حقق لها ذلك مليون مستمع في يوم واحد، وهو ما يمثل ضعف عدد قرائها اليوميين، كما يتمتع البودكاست بسهولة في الإنتاج بالنسبة للأفراد أو المؤسسات مقارنة بما هو عليه الحال في إعداد حلقة تلفزيونية أو إخراج صحيفة ورقية، بجانب إنه منتج سهل التلقي بالنسبة للجمهور، إذ لا يتطلب سوى الاستماع فقط بينما يمارس حياته.
لا يمكننا كذلك تجاهل الزخم الكبير الذي يصنعه صناع البودكاست في العالم العربي مثلاً، حيث يعملون بشكل متواصل على التعريف بهذه المنصة الواعدة، وتعرف شبكة الإنترنت ووسائل التواصل المزيد من المبادرات التي تجمع التخصص والشغف والاحتراف لمساعدة كل الراغبين في إطلاق برامجهم، ولعل أحدث هذه الأنشطة هو منصة “بودلاينز” التي انطلقت من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتعمل على جمع مليون صانع بودكاست عربي وربطهم بالشركات التقنية والهيئات الحكومية المهتمة بدعمهم، كما عقدت المنصة مؤتمرا افتراضياً يوم 30 سبتمبر الماضي، تحت عنوان “البودكاست منتج رقمي” بالتزامن مع اليوم العالمي للبودكاست.
منافسة
في المقابل، كل هذه الإيجابيات لا تعد دليلاً جازماً على صورة وردية تامة بالنسبة لصناعة البودكاست، فجاذبية هذا النمط الإعلامي قد تواجه ظهور منصات أخرى بجاذبية أكبر بالنسبة للمتلقي، ومثال “كلوب هاوس” هو الأقرب هنا بالنظر إلى كونه منافساً صريحاً في الميدان الصوتي على وجه التحديد، كما تكمن التحديات الأخرى في استمرارية الإنتاج في سوق عالي التنافسية، إشكالية كهذه يمكن قراءتها في إحصائية لموقع البودكاست العربي عن أكثر من 400 برنامج قد توقفت، بالإضافة إلى تحد آخر يتمثل في التسويق وصناعة محتوى جذاب، حيث يشير مقال منشور في أغسطس 2019م عبر موقع “سوندليز” المتخصص بالتدوين الصوتي، إلى أن التفاعل الفعلي يحدث مع 1% فقط من إجمالي محتوى البودكاست، وهو فارق كبير بين حجم العرض والاستهلاك، وصفه الموقع “بالفجوة الإبداعية”.
غير أن الصورة الأبرز في البودكاست مازالت أكبر من تحدياتها حتى الآن، فهي مازالت تثبت توقع ستيف جوبز الذي وصفها في 2005 بأنها “مستقبل الراديو”، وقد بات اليوم لها شكلها الاستثماري، فمن الواضح أن قواعد المنافسة لن تعتمد على الإعلانات فقط وإنما ستشمل تقديم منتج متكامل بالتعاون مع منتجي البودكاست، وقد يشمل ذلك توقيع عقود احتكار واستحواذ واتفاقيات إنتاج محتوى، أو تطبيق رسوم على المستمعين مقابل إعفائهم مثلاً من الإعلانات على غرار يوتيوب، أو منحهم الوصول لحلقات حصرية، و قد بدأ هذا التوجه فعلياً حيث أصدرت شركة “ابل” مثلا من خلال موقعها العربي في أبريل الماضي، بياناً صحفياً يشمل الإعلان عن مزايا إضافية يتم تقديمها للمستمعين المشتركين دون غيرهم، فضلاً عن مزايا أخرى لصناع البودكاست يقدمها عملاق التقنية “ابل” الذي كان من أوائل مطلقي هذه المنصة وهو يستحوذ اليوم على ما لا يقل عن 40% من قنوات البودكاست عالمياً.
في أغسطس من العام 2019، كان عبدالرحمن أبو مالح يتحدث عبر البودكاست الشهير”فنجان” في منصته “ثمانية” عن طموحه بإثراء المحتوى العربي، مستشهداً بأن أقل من 1% من محتوى الإنترنت، هو محتوى عربي، وهو يعد قليلاً جدا بالنسبة لجمهور يقدر بـ(400) مليون شخص من متحدثي هذه اللغة، واليوم هو أقرب إلى تحقيق حلمه بعد صفقة الاستحواذ على شركته من قبل مجموعة إعلامية عريقة على المستوى العربي والإقليمي، الصفقة التي تحدث عنها من منصته فيما بعد، سعيداً بكونها ستنعش سوق صناع البودكاست، الذين يسعون معاً لنجاح مجالهم، ويعتبرون التنافس بينهم هو الطريقة التي يخدمون من خلالها بعضهم البعض.