الموضوعية؛ هي إحدى ركائز القيم الإعلامية الرئيسة المهمة، ربما كانت غائبة أو في الغالب مغيبة لسبب أو لآخر، في ميدان معظم النقاشات والحوارات الدائرة والمستمرة حول أثر ما سُمّي بالإعلام الجديد في الإعلام التقليدي، ذلك أن التعميم في الطرح والخلل في الاستنتاج هو ما يشكل السّمة السائدة لدى غالبية من تصدوا للظاهرة الوليدة، المتنامية في أشكالها وأعداد مستخدمي أدواتها بقدر اتساع دوائر الموجات “الكهرومغناطيسية” ذات البث القوي، ولعل ما عزز من ذلك التعميم اختلاط الأوراق التي أحدثها دخول أطراف عديدة لحقل الاتصال والإعلام، بخاصة بعد تكاثر انتشار أدوات التواصل الإعلامية وغير الإعلامية عبر الإنترنت، وذلك بعد أن كان الحقل ذات يوم شبه محصور في المجتمع الإعلامي بشقيه الأكاديمي والمهني.
مفترق الطرق
كان من نتائج التعميم في الحكم، أن تحولت مشاربه وبعض أهدافه في أحايين كثيرة، وتحديدًا فيما يتعلق بتخصص الإعلام إلى مزاحمة غير مهنية، عكرت أداءه؛ وأدت إلى شقّ صف الإعلام إلى صفين وفقـًا للفضاءين المختلفين شكلاً على الرغم من اتحادهما وظيفيًّا: التقليدي والرقمي، ساعد على ذلك: وجود تيار إعلامي قديم محافظ تهاون مع التحول لجهله أو لفوقيته حينئذ، وآخر حداثي بالغ في التباهي بالجديد لحماسته أو لتشفيه من التيار الأول.
وفي خضم هذا التراشق بالرأي والتعصب له، تناسى الطرفان قاعدة أزلية تقرر أن تطور التخصصات والنجاح فيها، إنما يتأتى من تراكمات تأسيسية تضيف لبعضها البعض، وأنه لا يمكن لأية نشاط أن ينمو كما يجب عبر إعادة اختراع العجلة، الأمر الذي أدى – حتى الآن – إلى وجود إعلام هجين غير مكتمل النمو، خسر معه الجميع، بخاصة الحكومات والإعلام الوطني، بل وحتى الرأي العام نفسه، الشكل المنتظر للإعلام المتكامل، أو ما يمكن أن نطلق عليه مؤقتــًا: الإعلام المطور.
لعل من المفارقات أن كلا الإعلامين تجمعهما قواسم مشتركة من أهمها الأهداف والمهام، مما لا يمكن الاستغناء عنه، أو العبث بمكوناته، أما على مستوى التفاصيل، فإن من أبرز القواسم المحورية حقيقة مفادها أن الخبر هو الشكل الإعلامي الرئيس، إذ يمثل الأصل والنواة التي نمى وتفرع منها نشاط الإعلام نفسه؛ فقد شكلت مضامينه منذ بدء الخليقة ولا تزال حاجة إنسانية ملحة تقوم على الرغبة في تعرّف الأحداث والمستجدات، وربما يدعم ذلك السؤال التقليدي والعفوي المتكرر بصورة شبه يومية باستخدام العبارة الدارجة “وش الأخبار؟!”، وبالتالي فإن الخبر، بقيمته وأهميته، يظل المقوم الأساسي لتطور الإعلام ووسائله، وأن قيمته التي نشير إليها هي التي قادت إلى انبثاق الأشكال الإعلامية الأخرى كالتحقيق، والتقرير، والقصة الخبرية، والصورة الخبرية، بل وحتى المقال؛ فهي وإن تنوعت في ظاهرها إلا أنها في حقيقتها تنشأ من الخبر وتنمو تباعًا لأحداثه.
فوق هذا وذاك، وبعيدًا عن الانطباعات والاجتهادات الفردية، بات مهمًا، كي توضع الأمور في نصابها، التنبه إلى أن هناك جملة من القواعد التي يجب أن تكون حاضرة لتقييم النشاط الإعلامي وتطويره، من ذلك أن الوسيلة الإعلامية الفاعلة يجب أن تستمر سُبل تطويرها وفقـًا لدرجة تفاعل الجمهور معها، وأن أكثرها وصولاً وتأثيرًا تلك التي تراعي مقتضى حال المتلقين، ليس فقط من حيث لغة التخاطب معهم؛ بل والأهم من حيث توافر الوسيلة المناسبة لديهم، مما يعني أهمية استخدام كافة الأدوات التي تعين على الوصول إلى كافة فئاته، وهو ما يستدعي تعرّف سلوكات الجمهور من حيث مدى متابعته، ودرجة تعرضه، واتجاهاته نحوها، فالاعتقاد مثلاً أن الجميع يمتلك وسيلة تواصل اجتماعي هو حكم غير موضوعي، مما يعني أن الوصول إلى الجميع لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم استخدام كافة الوسائل.
مجالات تفوق الإعلام التقليدي
على الرغم من مزاحمة وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة للإعلام التقليدي في كثير من مقومات انتشاره؛ بل وعلى الرغم من أن تلك الوسائل الرقمية حملت معها مزايا مهمة، وتفوقت على التقليدية في بعض منها، إلا أن هذه الأخيرة – ولحسن حظـّها – استأثرت بجملة من المواصفات القادرة على تمكينها من البقاء سيدة للموقف في ميدان الإعلام، متى ما استفادت من مزايا الرقمية التي ستأتي لاحقـًا، من تلك السمات أو القيم والمجالات التي تكاد تنفرد بها:
1-المصداقية؛ وتمثل هذه القيمة وحدها من دون منازع ورقة الرهان الرابحة التي تمتلكها وسائل الإعلام التقليدية وتشكل سلاحها الحاسم إن هي أحسنت تطوير ذاتها لكسب ثقة الجمهور بالمواد الإخبارية التي تنشرها والتفوق على غيرها من المصادر؛ ذلك أن الرصين منها عُرف بحرصه الشديد والحازم على صحة معلوماته، لقناعته التامة بأن الالتزام بها، هو سبيله القوي في تعزيز صورته الذهنية، ولعل مما قوَّى هذا البعد خضوع معظم تلك الوسائل لفترة طويلة من الزمن للأنظمة والتشريعات التي تسنها الجهات المعنية، ونجاح كثير منها في تشكيل الولاء لدى جماهيرها، الذين نشأت بينهم وبينها صلة وطيدة، كان من مظاهرها معرفتهم بالشخصيات التي تديرها وتعمل بها؛ بل وبمقارها، بخلاف وسائل الاتصال الجديدة التي يعمل كثير منها في عالم افتراضي، ويختفي بعضها خلف أسماء رمزية أو وهمية.
ولأهمية المصداقية كقيمة إعلامية تتفوق بها الوسائل التقليدية، ظلت تشكل مرجعية للجمهور للتحقق من صحة الأخبار، تبقى مهيمنة إلى الآن في هذا القطاع في أثناء نشوء الأزمات، إذ لا يمكن أن تعول العامة على مواد أفراد تتضارب آراؤهم من دون قرائن يعتد بها.
2-الدقة والتحقق من المعلومات؛ فهذه الوسائل التي اشتهرت بتواجد ما اصطلح عليه الباحثون في مجال التخصص مسمى “حارس البوابة”، اتسمت بكونها صمام أمان لمحاربة الشائعات والأخبار المغلوطة، حتى وإن اعتبر البعض أن وجود هذه السمة “مثلبة” تعاب بها، لكونها تشكل في بعض أحوالها قيدًا مؤلمـًا لحرية الصحافة، إلا أن الجهد المكثف الذي يبذله الإعلاميون العاملون فيها، بما في ذلك كتـّاب الصحف البارزون، في البحث والتمحيص للتأكد من صحة معلوماتهم قبل نشرها يُعدّ “منقبة” يثمنها العارفون بخطورة المعلومات الزائفة وأثرها المدمر في المجتمعات، ويأتي اجتهاد الوسائل التقليدية ومنسوبيها في تنقيتها انطلاقـًا من قناعات أكيدة بأن التقصير في الالتزام بذلك حري بأن ينعكس سلبًا على أدائهم، بل وعلى مستقبلها ومستقبلهم.
3-العمق في الطرح وشمولية التناول؛ وهي مزية تظهر بشكل جلي – على سبيل المثال لا الحصر – في التحليلات المتنوعة والجادة التي تحتويها أشكال موادها، والتي تستعين في كثير منها بالخبراء وأهل الاختصاص لتسليط الأضواء من زوايا مختلفة على الأحداث، وهي القيمة التي تمكن مستخدميها من رؤية الصورة بتفاصيل أكثر، مما يؤكد حرص هذه الوسائل على تجنب النظرة القاصرة للأحداث والحكم الجائر على أطرافها، وبالتالي فإن أخبار هذه الوسائل تبقى محتفظة بخاصية تقديم مادة متكاملة نسبيًّا مقارنة بما استجد من وسائل.
4-نشاط مؤسساتي مستدام؛ فمخرجات الوسائل الإعلامية هي محصلة عمل جماعي منظم ومستمر، ومنضبط يخضع للتقييم والتطوير، وإن كانت وتيرته لا تتواكب مع العصر الجديد، يساندها في ذلك وفرة الإمكانات المادية، التي تمكنها من توفير الاحتياجات الضرورية لأداء مهامها المهنية على أكمل وجه، وعلى الرغم من أهمية هذه الخاصية إلا أن بعض الوسائل الإعلامية لم تستفد بالشكل المطلوب منها لمواجهة المرحلة العصيبة التي مرّت بها بعد التحول السريع إلى الوسائل الرقمية.
ويدخل في هذه الخاصية امتلاك تلك المؤسسات في معظم الأحوال للقوى البشرية المتمكنة مهاريـًّا وممارسة من العمل الإعلامي، فالحركة الدؤوبة للعديد منها في ميدان الإعلام كان ولا يزال قوامها أفرادًا مهنيين اكتسبوا الخبرة والدربة اللازمة لتسيير الوسيلة بشكل منافس، كما أن انتشار مكاتب ومراسلي هذه الوسائل في أماكن عديدة شكل قيمة مضافة كان يمكن الإفادة منهم في الرصد والنشر الإخباري بشكل جاذب، لو استطاعت الوسائل التقليدية مواكبة التغيرات وأحسنت استثمار مقدراتها البشرية والمادية.
مجالات تفوق شبكات التواصل الاجتماعي
أدت شبكات التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى إلى فتح منصات متنوعة لأفراد المجتمع ومكنتهم من التواصل ببعضهم البعض، وهيأت هذه الخاصية للمؤسسات بمختلف أنواعها فرصة ذهبية لبناء جسور تواصل بينها وبين جماهيرها المتنوعة، مستفيدة في ذلك من خواص الفضاء الرقمي الذي أحدث تغييرًا مذهلاً وهائلاً في كافة القطاعات من دون استثناء، وقادت إلى التعريف بصناعات جديدة، وانهيار أخرى.
وفي الوقت الذي وجدت فيه وسائل الإعلام التقليدية في هذه الشبكات قنوات سريعة لإيصال موادها لجماهير عريضة جدًّا فاقت بكثير جمهورها المعتاد، استفادت الشبكات نفسها ومستخدميها بطريقة تلقائية من المواد الإعلامية التي تبثـّها تلك الوسائل لتصبح غذاءً مستمرًا ومتجددًا لمضمونها المتداول بين المستخدمين، ربما كان المأخذ على وسائل الإعلام – كما أشرنا إلى ذلك سابقـًا – أنها لم تتوسع كثيرًا في الغوص بأعماق العالم الرقمي لتتعرف جيدًا كيف توظفه لصالحها، كي تحقق مكاسب شتى، حتى وإن اضطرت إلى تغييرات جذرية في الأنماط والأشكال الروتينية التي اعتادت عليها؛ وهو ما كان يجب أن يكون، ومن تلك المزايا التي عرف بها الفضاء الرقمي لأول مرة، وظهرت بشكل بيّن في شبكات التواصل:
1-السرعة المتناهية في النشر؛ التي مكنت المرسل على نحوٍ غير مسبوق من الوصول الفوري لمستقبلها في أي مكان على وجه البسيطة، وهذه الخاصية تكاد تكون قاصمة الظهر التي زلزلت الإعلام التقليدي بكافة أشكاله، وأفضت آثارها إلى توقف درامي في كثير من وسائله، إذ أفسدت الشبكات الاجتماعية عليها تغطية الأحداث بالصورة المهنية، وذلك على الرغم من أن الشبكات تدار بشكل عشوائي وعبثي أحيانـًا من قبل هواة غير ملمين بأسس مهنة الإعلام، وتسبب ذلك في اختفاء تنافس الوسائل الإعلامية في تحقيق قصب السبق، كما أدى إلى تلاشى إمكانية إعداد المواد الحصرية التي عُرفت بها وكان يترقبها الجمهور فيما كان يعرف بالإشباعات المتوقعة، وبدأت شعبية الوسائل وروح المنافسة بينها يفقد كثيرًا من وهجه.
2-خاصية التفاعلية؛ وتوفُّر أدوات القياس والتقييم الفوري، حيث شكّل هذا البـُعد واحدًا من التغيرات المهمة التي تميـّزت بها وسائل الاتصال الاجتماعي، فإذا كانت المصداقية هي ورقة الرهان الأقوى لدى وسائل الإعلام التقليدية، فإن هذا العنصر هو مرتكز الوسائل الجديدة ومصدر القوة لديها، فمن خلاله تمَّ تفعيل دور المتلقي ليكون أحد صناع المحتوى، كما بات الترمومتر الذي ترصد عبره قيمة رسائلها، ومدى تأثيرها، ليتسنى لها تعرّف كيفية تطويرها.
3-ميزة تنوع الأدوات والأشكال الاتصالية؛ ويمكن ملاحظة ذلك في حجم التكاثر اللامتناهي الذي ولدته ولا تزال الإنترنت من التطبيقات، وكذلك حجم المساحة الشاسعة التي تهيئها للمبدعين في الابتكار، وبقدر ما تعدُّ هذه الخاصية ميزة إلا أنها تحولت في شقّ منها إلى مهدد للأدوات والتطبيقات التي يتم التعريف بها من وقت لآخر؛ إذ إن ديناميكية النشاط والابتكار المتجدد في عالم تقنية الاتصال أدى إلى أن تتقادم بعض المبتكرات الجديدة في وقت وجيز خصوصًا في ظلِّ تسابق العالم نحو عمق الثورة الصناعية الكبرى الذي يهدف إلى أتمتة كافة الخدمات وتمكين الآلات من توفيرها، والتحكم فيها.
4-اتساع رقعة حرية التعبير؛ وهي ظاهرة تفشى استخدامها مع بداية النشر الرقمي الذي كان – لغياب كثير من التشريعات والقوانين الضابطة – مفتوحًا على مصراعيه، وتجاوز ذلك الاستخدام في بعض أشكاله الأخلاقيات والقيم المتعارف عليها، الأمر الذي دعا عددًا من الدول بما في ذلك التي تغنت بالحرية إلى تهديد شركات المعلومات العملاقة بعقوبات جسيمة في حال سمحت عبر مساحات النشر لديها وتطبيقاتها ببثِّ أية مواد عنصرية أو تحث على الكراهية، وذلك حين أدركت بشكل ملموس خطورته على الأمن والاستقرار، عبر استغلال المنظمات الإرهابية المروع لوسائل وتطبيقات تلك الشركات وقنواتها الرقمية.
إعادة تقييم
يستفاد مما سبق في ضوء السمات الإيجابية التي أتاحها الفضاء الرقمي الجديد أهمية قيام المؤسسات بشكل عام والإعلامية بشكل خاص، في ظلِّ حاجتها الملحة للوجه الاتصالي الجديد إلى إعادة هيكلتها إداريًّا، ومهنيًّا، أن تضيف إلى مهامها الجديدة جهازًا متخصصًا في مواكبة التقنيات الرقمية؛ بحيث تصبح العمود الفقري لعملها، والعين اليقظة لمراقبة متغيرات التقنية وسوقها أولاً بأول، وفوق هذا وذاك ينتظر من هذا الجهاز أن يغذي تفاصيل مكونات بقية الأجهزة إما تعليمًا أو تدريبًا على كيفية التعامل مع كل جديد، أو على أقل تقدير تثقيفًا للكوادر البشرية بالصورة التي تضمن فهمه لما له علاقة بوظائفه، وتقضي على أميته الرقمية التي تعدُّ واحدة من مهددات الأنشطة المهمة بأنواعها.
والوسائل الإعلامية، إن استثمرت الوفرة الهائلة للمعلومات في العصر الرقمي، في ظل انتشار قواعد البيانات والمعلومات الضخمة وتقنيات الربط المباشر مع مراكز البحوث والجامعات والمعاهد المتخصصة، فإنها ستكسب قيمة مضافة للبحث والتدقيق لصناعة محتويات أكثر ثراءً، وجاذبية غير مسبوقة، ومرونة عالية تمكنها من تطويع تلك المعلومات لصناعة محتوياتها بما يتواكب مع روح العصر ومقتضياته.
وبالعودة إلى بيت القصيد فيما يتعلق بمصادر الأخبار الأدق والأصدق والأعمق، ومدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي سلبًا في الوسائل التقليدية، يتضح أن الوسائل التقليدية ظلـَّت تمسك إلى حدّ كبير بزمام نشر الأخبار المحلية والعالمية الموثوقة، في حين انفردت شبكات التواصل بشكل عام في خاصية نشر الأخبار المجتمعية والشخصية التي لم يكن لوسائل الإعلام آنذاك اهتمامًا يذكر بها.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الوسائل التقليدية قد كسبت الرهان في النشر الإخباري الجماهيري بشكل نهائي، إذ إنها خسرت بعض مزاياها في ميدان الأخبار في هذا الجانب لصالح الوسائل الجديدة، فهي أصبحت في الغالب تأتي متأخرة عن شبكات التواصل في مسألة السبق الإعلامي الذي يعدُّ قيمة لا تقدر بثمن كمقوم من مقومات الإعلان عن الأخبار القيمة، وباتت بضاعتها في هذا الأمر تتعرض للكساد بسبب التقادم الذي يعتريها جراء المنافسة الحادة من الملايين في النشر قبلها، ليس بالنص فقط، بل وبالصوت والصورة كذلك، يحدث هذا عندما يكون الأفراد أنفسهم شهودًا مباشرين على الخبر نفسه أو جزءًا من مكوناته، عندما يكونون ممّن عاشوا في دائرته حال حدوثه.
لقد أصبح هذا التحدي واقعـًا معاشـًا في مجال صناعة الأخبار، فلم تعدّْ الوسائل التقليدية قادرة على تحقيق قصب السبق، ولم تعدّْ تمتلك وحدها كثيرًا من المزايا التي أوجدت لها المكانة التي كانت تتمتع بها سابقـًا، فقد أصبحت مساحات تحركها محدودة للغاية، وزاد من صعوبة الموقف أن المزايا القليلة المتبقية لتلك الوسائل التقليدية لا يحسن استثمارها والتعامل معها كما يجب إلا أصحاب المهارة العالية، من القادرين بحسّ رفيع على استنطاق أصحاب الشأن أثناء الأحداث الجسام، وهم الأكثر وصولاً إليهم للظفر بمادة حصرية.
زاد الأمر تعقيدًا أن أولئك المهرة الذين كانوا من بين مقدرات الوسائل التقليدية أخذوا في التناقص، وهجروا وسائلهم أو تمَّ تسريحهم بسبب تقلص الحوافز المادية التي صاحبت تراجع الدخل الإعلاني، الذي وصلت فيه إلى أسوأ حالاتها، بل إن منابعه جفت، وتوقف تمامًا عن معظم الوسائل التي اعتمدت عليه لسنوات، ولأنه كان أكسير الحياة لكثير منها، ولأن معظمها لم تبحث في آلية الوصول إلى “الإعلام المطور” المرتقب، فقد أطلق العديد من هذه الوسائل النار على نفسه بصورة عاجلة، مختصرًا المسألة إما بالتوقف أو تقليل الجهد، وهي خطوة قد تكون مؤشرًا على أحد أمرين: قصر النفس لدى قادة أعياهم المسير في مجال عملهم وأُخذوا على حين غرة بمفاجأة الفضاء الجديد، وإما – وهو الأقرب – لجهل تام بطبيعة التطور الذي اكتفوا فيه بمعرفة سطحية لمظاهره، ولم يغوصوا كما يجب في أعماقه، لتصبح جزءًا من وسائلهم.
مرحلة الاستسلام
في ظل هذا المشهد، بات مؤلمًا لصناعة الإعلام الوطني على وجه الخصوص، أن تلوح في الأفق بوادر تراجع حاد في درجة مقاومة الهجوم الكاسح لأنصار الإعلام التقليدي، ليس لأن مناوئيهم أصبحوا أكثر منهم عدة وعتادًا فحسب، لكن لأن غياب النظرة الفاحصة في الخروج من النفق أدى في نهاية المطاف إلى استسلام مؤسساتهم؛ وخسارة كثير من رموزها الذين لا يسهل تعويضهم، ولم يتم استثمارهم، بل إن تاريخهم في هذه المؤسسات استخدم وإن بطريقة غير معلنة كأداة لاستبعادهم عن المشهد، على الرغم من أن كثيرين منهم حاولوا شقّ طريقهم بمفردهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
قد يكون جزءًا من أسباب ترجل بعض الوسائل التقليدية عدم قدرتها على مقاومة النقد الذي لا يخلو من سخرية من أنصار التقنية الرقمية، وفي هذا مفارقة غير متوقعة، ذلك أن الوسائل التي أمضت سنوات عمرها في ممارسة الدور الرقابي على الساسة، والمؤسسات، بلغة لا تخلو من النقد الجاد وربما الحاد، وجدت نفسها فجأة تكتوي بنيران النقد ذاته، وربما كان معظمه يخلو من الموضوعية التي بدء بها هذا المقال.
إدارة الإعلام
لم يكن للوسائل التقليدية التي انهزم كثير منها أن تخسر المعركة، لو أنها فطنت مبكرًا إلى أن المشكلة الحقيقية التي أودت بها إلى التعثر كانت بالدرجة الأولى مشكلة إدارية، فهي على الرغم من كون السواد الأعظم منها شكل في فترة من الفترات، بما لديه من مقدرات، بيئة مثالية للتحول إلى الفضاء الجديد، إلا أنها عجزت بصورة محزنة عن الاستفادة منها؛ بل إنها أصيبت بسبب التخبط في خاصرتها على نحوٍ أدى إلى تناثر تلك الممتلكات بصورة تثير شفقة العارفين ببواطن الأمور، ولكن لا يملكون القرار في كيفية المعالجة أو القدرة على التدخل.
هذا القول يؤكد صحته تجربة عدد من الوسائل التقليدية (المخضرمة) التي لم يربكها طوفان الفضاء الجديد، أو يحبطها عدم وضوح الرؤية حول مستقبله ومستقبلها، فهي على الرغم من قلة عددها لأسباب ليس هذا موطنها، وجدت في التحول فرصة عظيمة لأن تحقق نجاحات أكبر وأعظم مما حققت، وهي الوسائل التي تمثل بحق النموذج الواعد لتشكيل الإعلام في هيئته المطورة، إذ إنها لم تعمل على حماية مقومات البقاء في الحالة التي كانت عليها، أو تتعصب لسياساتها التقليدية كما فعل غيرها، وإنما دخلت بشجاعة وبقوة إلى الميدان الرقمي بالشكل الصحيح، ففهمت خواصه الاتصالية، وشاركت بعزم عال ومرونة كبيرة ممزوجتين بمهنية في إعادة تشكيل الصناعة الإعلامية.
تجربة صحيفة “نيويورك تايمز”
أدى زخم الحماس للوسائل الرقمية – كما أشرنا سابقـًا – إلى استعجال البعض، بما في ذلك النخبة، في الدعوة إلى إلغاء الوسائل التقليدية، كان آخرها دعوة واحد من الذين عملوا لسنوات كاتبًا في إحدى الصحف المرموقة، سمعته في محفل قبل أيام معدودة من كتابة هذا المقال، إلى أن تتوقف وكالات الأنباء عن بث الأخبار، وأن تغلق أبوابها كما فعلت العديد من الصحف الورقية، مستشهدًا في ذلك بمن تسيد المشهد الصحفي لقرابة قرن من الزمن على غرار صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور”، غير أنه في رأيه الذي لا يخلو من آفة التعميم، لم يستحضر واقع الصحيفة العريقة “نيويورك تايمز”، التي تمثل – مع نظيرتها “واشنطن بوست” – نموذجًا للوسيلة التي تحركت بذكاء وواقعية مع التحولات الدراماتيكية، مع تذكرها الدائم لقواعد وأسس المهنة والتزامها بها، فصمدت في وجه الأعاصير متسلحة بإستراتيجية تدرجت فيها بين الحسنيين، حـُسن استثمار مقومات ومزايا العمل الإعلامي التقليدي التي تعدُّ ثوابت راسخة في صناعة الإعلام، بغض النظر عن نوعه وأدواته ومنها الخواص الأربع التي أشرنا إليها سابقًا، وحـُسن الاستفادة من مزايا التقنية الرقمية؛ وتشمل كذلك الخواص الأربع الأخرى التي ذكرناها فيما يخصُّ وسائل التواصل، لتكون بذلك أقرب الوسائل تشكيلاً لملامح المنتج المنتظر للإعلام المطور.
فالصحيفة التي تأسست سنة 1851م، حافظت على خطـّها التصاعدي في عالم الصحف إلى أن بلغت ذروتها، وأصبحت من أكثرها مقروئية، متغلبة بشكل مذهل على كافة الصعاب التي اعترضت طريقها بما في ذلك التحول الكبير إلى عالم النشر الرقمي، وتمكنت بإصرارها، وفـَهمها المؤسساتي التـّام لتفاصيل عناصر المعادلة الجديدة، من البقاء في القمة ذاتها على الرغم من الاعتقاد غير الصحيح باكتساح شبكات التواصل للنشر الخبري الذي هو محور العمل الإعلامي كما أسلفنا.
وفي الوقت الذي راهن كثيرون على أن الصحيفة إلى سقوط، فاجأت الجميع في ظلِّ سياسة ضبط النفس والعمل التطويري الدؤوب بوصولها إلى مرحلة متقدمة، صدقها في ذلك دخلها السنوي؛ فقد أعلنت قبل شهر تقريبًا أنها تمكنت في نهاية العام الماضي 2019م، من تحقيق إيرادات مالية قدرها (800.8) مليون دولار مقابل خدماتها الرقمية فقط، وهي الخدمات التي راهنت الصحيفة عليها، بعد أن تلاشت حصتها من كعكة الإعلانات التي ألفتها لسنوات.
لم يأت هذا الرقم الضخم مصادفة، بل جاء نتيجة رؤية واضحة لخطة مسبقة صدقت توقعاتها بشكل تجاوز التوقعات؛ فوصلت العام الماضي إلى الهدف الذي كانت تتوقع حدوثه في نهاية هذا العام، أما أهم مصدر لهذا الدخل، فتمثل في الاشتراكات الرقمية في الداخل والخارج، التي أسهمت بمبلغ (420) مليون دولار، دفعها قرابة (3.5) مليون مشترك باحث عن الأخبار، من إجمالي مشتركيها البالغ عددهم (5.251.000) مليون مشترك، وكان من المفارقات والمفاجآت السارة أن تكسب الصحيفة مليون قارئ من مشتركي النسخة الرقمية في الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2019م، دفعتهم إليها – حسب تقرير الصحيفة نفسها – الحاجة إلى متابعة أخبار اتهام الرئيس ترامب باستخدام السلطة وعرقلة عمل الكونجرس، بالإضافة إلى أحداث الحملات الانتخابية للرئاسة الأمريكية 2020م، هذه الأرقام أدت إلى أن يقفز سعر سهم الصحيفة في أسواق المال بنسبة (13%) ليصل إلى (38.55) دولار، وهو ما وصفه رئيس الشركة المالكة للصحيفة ومديرها التنفيذي “مارك ثامبسون” بأنه أفضل سعر تبلغه الصحيفة منذ إطلاق نسختها الرقمية قبل تسع سنوات تقريبًا.
المهنة تكسب
هذه النتائج تعطي أكثر من مؤشر على أن الصحافة الحقيقة ليست مهددة متى ما استطاعت أن تقرأ البيئة الاتصالية الجديدة بتفاصيلها، كما أنها تعطي دلالة قوية على أن الجمهور ليس له أن يعتمد على الهواة على حساب أصحاب المهنة الحقيقيين متى ما وجد إليهم سبيلاً، فالقارئ يدرك تمامًا بأنه ليس قادرًا في كل الأحوال على فرز الأخبار الصادقة من الزائفة، حتى وإن حاول جاهدًا القيام بذلك وليست هذه من مهامه، لذا كان طبيعيـًّا أن يجد في تكلفة الاشتراك بسعر زهيد نسبيـًّا مخرجـًا له من تشتت ذهنه في البحث والتحقق من الأخبار في محيط متلاطم الأمواج.
كان مما يؤكد المرونة والواقعية في تعامل الشركة المالكة للصحيفة مع طبيعة سمة الفضاء الرقمي، أنها لم تكترث لانهيار قيمة الإعلان في النسخة الورقية وتضاؤل حجمه وأعداده، بل ولم تنشغل بنزوله في النسخة الرقمية بمقدار (10%) عن حصيلة عام 2018م، واعترفت بصراحة تامة تتسق مع المنطق أن الإعلان لم يعدّْ مصدرًا من المصادر التي تعول عليها كما كانت عليه الحال في عصر الورق، مشيرة إلى أنها تنوي أن تتجه إلى اشتراكات القراء حول العالم ليصبح البديل والمصدر الأكثر ربحية، وهو ما جعلها تخطط للعمل على مضاعفة عدد المشتركين خلال خمس سنوات فقط، ليصل إلى (10) ملايين مشترك في عام 2025م.
ولأن الصحيفة باتت تجني ثمار تخطيطها السليم، وتفاعلها المقنن والمدروس مع التحولات، لم يكن مستغربًا أن تزيد مؤخرًا، وتحديدًا في الربع الثاني من عام 2020م، قيمة الاشتراك الرقمي لمدة أربعة أسابيع إلى (17) دولارًا بعد أن كانت تكتفي بـ(15) دولارًا فقط على مدار السنوات الماضية، منذ بداية نسختها الرقمية في عام 2011م، ولأنها أقدمت على ذلك وفقـًا لخطوات محسوبة تمامًا، أوضح رئيس الصحيفة ومديرها التنفيذي بأنهم على ثقة بأن ولاء قراء الصحفية لن يجعلهم يترددون في قبول الزيادة؛ لعلمهم الأكيد بدورهم المهم في الإبقاء على الجودة والتنوع والعمق الذي يقدرونه كثيرًا، في ظلِّ غيابه وتواري كثير من الوسائل عن الساحة.
لقد اقتضى الوصول إلى هذه المرحلة قيام العديد من الوسائل التقليدية بتجربة أساليب متنوعة في كيفية استقطاب المتلقي والحفاظ عليه، والمتابع لتلك الخطوات يلفت انتباهه أنها حصيلة عمل دقيق ولم يحدث بصورة اجتهادية وعشوائية، ولأنه احترم التخصصات ذات الصلة، فقد اعتمد على مزيج من قراءات واستطلاع أصحاب الشأن من خبراء الإعلام والتسويق والتقنية والفنون وعلم النفس، وكافة مَن كان يتطلب الموقف الاستعانة بهم، ولعل مما يؤكد ذلك طبيعة التغيرات السريعة التي اتخذتها وسائل الإعلام، وفي مقدمتها “نيويورك تايمز” على مدى فترة طويلة تتطلبها طبيعة بيئة جديدة ذات متغيرات معقدة.