مع الطفرة الهائلة في وسائط الإعلام والتفاعل الآني الذي يحدث بين المرسل والمتلقي للرسالة الإعلامية والعلنية وتهديد خصوصية المراسلات التحريرية المكتوبة أو الشفهية المسموعة، يطرح السؤال المنطقي نفسه على الأوساط العامة، والدبلوماسية بشكل خاص، حول ماهية الوظائف الإعلامية للسفارات ومدى أهمية إنشاء ملاحق إعلامية في البعثات ونقل المراسلات عبر الحقائب الدبلوماسية في مقابل سعة فضاء وانتشار الوسائط الإعلامية الحديثة وتنوع أساليب العمل الدبلوماسي بعد ظهور أوجه جديدة للدبلوماسية أهمها الدبلوماسية الشعبية؟.
وللإجابة عن هذا السؤال نقول بأن الوظائف الإعلامية للسفارات مهمة جدًا وحاضرة أهميتها في العصر الحالي على الرغم من اتساع نطاق الاعلام، فالإعلام والدبلوماسية وجهان لعملة واحدة على الرغم من ميول الدبلوماسية التقليدية إلى التكـتم مقابل العلنية والإفصاح للإعلام، لكن كليهما يستهدف نقل رسائل وتعديل اتجاهـات وتغذيـة الآخر بالمعلومات، وكليهما ينتميان إلى مجال الاتصال العام، الاتصال الذي يـستخدم كافـة الأساليب الاتصالية بما في ذلك الإعلام الجماهيري، إضافة إلى الاتصال الشخصي والجماعي، وكليهما يقومان بالوظيفة نفسها: وهي الوصول إلى قناعات الناس وكسب ودهم وضمان دعمهم أو تعاطفهم وتعاونهم، وكليهما يعتمد الأدوات نفسها من رموز أو كلام مسموع أو مقروء أو من صور ناطقة أو صامتة أو ثابتة أو متحركة، بصرف النظر عـن تعـدد الأدوات أو القنـوات الناقلة، لذلك فإن الإعلام ظل يوازي العمل السياسي والدبلوماسي، خـصوصًا فـي العـصر الحديث، إثر تطور تكنولوجيات الاتصال الفردي والجماهيري، وقد تنبه السياسيون منـذ زمـن بعيد إلى أهمية الوظيفة الإعلامية في نجاح مهامهم التي انتدبتهم الدولة لأجل تحقيقها، وأفردت لذلك هيئات أو أقسام في سفاراتها كما في وزاراتها وهيئاتها الداخلية أو المحلية، وأصبحت عملية الاتصال بالجماهير (الخارجية والداخلية) اليوم من المهام المرتبطة بالعمل الدبلوماسي، وهكذا فإن العمل الدبلوماسي أصبح مرتبطًا بالعمل الإعلامي، وهذا يفسر الأسباب التي دعت بعض فروع العلوم السياسية لاعتبار الاتصال والإعلام مادة تدرس فيه.
لقد بات الإعلام السياسي أحد مقومات السياسة العامة للدول والمنظمات الإقليمية والدولية على السواء وعلى اختلاف توجهاتها وأهدافها وبات كل منها حريصًا على أن ينشئ الأجهزة المتخصصة للقيام بالوظيفة الاتصالية الخارجية، وينصرف الإعلام السياسي الخارجي إلى تبرير السياسة الخارجية وتفسير أو تغطية المواقف السياسية للدولة حتى في حالة تناقضها، وعليه فإن هناك تلازمًا شديدًا بين الخط السياسي للدولة ووظيفة الاتصال السياسي.
وبجانب إسهامه في رفـع حالة الوعي السياسي للأفراد، فإن الاتصال السياسي في معناه الدولي معني بإيجاد السياسات التي يمكن أن تؤثر في العلاقات بين الدول، حيث يعنى بتبادل الرموز المهمة التي تُشكل التصورات الـسياسية، هذه التصورات بدورها تحكم الإدراك الدولي، وعليه فإنه يمكن أن نعزو الاتصال السياسي إلى تبادل الرموز أو الرسائل والتي إلى حد ما تكون قد شكلتها أو أنتجتهـا الـنظم الـسياسية.
ومن المؤكد أهمية أن يؤدي الإعلام دورًا في عمل السفارات والبعثات الدبلوماسية لما يمثله من أهمية في إبراز الواقع السياسي الجديد في الدول لا سيما دولنا الخليجية الذي تشهد تحولات كبيرة متطورة يوازيها حجم التوسـع الـذي تشهده على مستوى التمثيل الدبلوماسي من خلال انتشار سفاراتها في مختلف دول العالم.
وتفسيرًا للعمل الإعلامي المنوط بالسفارات وبالشرح المختص والدقيق، فإننا نعبر عن الوظيفة الإعلامية تلك بنفس التعبير الذي تمت استعارته من النظرية الوظيفية، حيث تقوم الفكرة علـى أن المجتمع قائم على “ترابط الأجزاء وتكاملها وظيفيًّا”، وكل جزء فـي النسق وجد ليؤدي وظيفة أو أكثر، لتتكامل هذه الأجزاء وظيفيًّا في تلبية حاجات النسق ومـن يشملهم في الواقع، ولأجل أن يتحقق التوازن والاستقرار.
وتقـوم الفكرة الأساسية للوظيفية البنائية على أساس أن المجتمع يشكل وحدة واحدة كبيرة تتكون مـن مجموعة من الأنظمة هي الأنساق (Systems)،حيث تترابط هذه الأنساق وتتعاون فيما بينهـا لأجل تحقيق التوازن الدائم في النظام من خلال تحقيق وظائف معينة تحافظ على اسـتمراره، سواء كان هذا النظام اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو إعلاميًّا أو اقتصاديًّا.
كما تقوم هذه النظرية على أن تنظيم المجتمع وبنائه هما ضمان استقراره، وذلـك نظـرًا لتوزيع الوظائف بين عناصر هذا التنظيم بشكل متوازن وتحقيق الاعتماد المتبادل بـين هـذه العناصر، فالبنائية تشير إلى عناصر التنظيم والعلاقات التي تقوم بين هذه العناصر، والوظيفية تحدد الأدوار التي يقوم بها كل عنصر في علاقته بالتنظيم الكلي.
وبتطبيق هذه الرؤية الوظيفية البنائية على العمل الإعلامي في الـسفارات نلاحـظ أن النماذج الوظيفية تجعل من الاتصال عملاً اجتماعيًّا له غايات محددة بعضها كـامن وبعـضها ظاهر، ولكنها جميعها تهدف إلى تحقيق وظائف استقرار النظام الاجتماعي أو النظام السياسي سواء من خلال الاتصال الداخلي أو من خلال الاتصال الخارجي الذي يمثله العمل الإعلامـي في السفارات.
ولكي يحقق العمل الإعلامي في السفارات دوره عبر أنشطة الاتصال الخارجي، فإن هناك مجموعة من الاعتبارات والتوصيات الواجب الأخذ بها، وأولها إمداد السفارات بالكوادر الإعلامية المؤهلة والمدربة لتكون قادرة على مزاولة العمـل الإعلامي بكفاءة، وتأهيل تلك الكوادر في مجالات ممارسة الاتصال الشفهي وفنون التحرير الصحفية والإلمام باللغات حتى يكونوا أقدر على التعامل ومد جسور التواصل مع الآخرين في الدول الأجنبية.
كذلك ينبغي الاهتمام بالمواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي للسفارات وتزويدها بأحدث الأخبار والنشاطات التي تقيمها الـسفارة في نطاق الدولة المضيفة بشكل مستمر من دون انقطاع، لا سيما وأننا نعيش في عصر تكنولوجيا المعلومات.
وأخيرًا لا بد من تكرار التأكيد على أهمية أن يرتكز العمل الإعلامي في السفارات على خطط عمل سـنوية واضـحة للعمل الإعلامي على المستوى العام الذي يمثل السياسة الخارجية للدولة وعلى مستوى البلـد المضيف عن طريق اعتبار خصوصيات هذا البلد.